بمناسبة الذكرى الـ(31) لفاجعة الأنفال السيئة الصيت، ومن ضمن سلسلة منشورات صحيفة “كوردستانى نوى” الكردية، صدر للباحث والكاتب والاعلامي الكردي عدالت عبدالله كتاب “البربرية المعاصرة، الأنفال والإبادة الجماعية في كردستان العراق“، عن مطبعة “كارو” في السليمانية وبـ(119) صفحة من القطع المتوسط، وباخراج فني رائع من المصمم الفني هريم عثمان.
الكتاب الذي هو الرابع عشر لعدالت عبدالله في مسيرته مع عالم الكتاب والتأليف يعرض بشكل مفصل لمجريات الإبادات الجماعية التي تعرّض لها الشعب الكردي على مدى حكم النظام البعثي البائد خلال العقود الثلاثة الأخيرة من الألفية الثانية من اضطهاد وأنفال وتهجير وعمليات قتل جماعية وقصف بالأسلحة الكيمياوية والى آخره، وموقف الآخر العربي من مجريات ما حصل للكرد.
ويتساءل الكاتب اذا ما كان الذي جرى للكرد قتلاً على الهوية باسم الإسلام من باب رفض الآخر بسبب اختلاف القومية حتى ولو كان الدين أو المذهب واحداً؟ وإلى أي مدى يتحمّل الآخر العربي ما قام به البعث ضد الكرد على الأساس أنهما يشتركان في دينٍ ومذهب وقوميةٍ واحدة، وفيما اذا كان يمكن القول ان صدام حسين ونظامه البائد كان الممثل الرمزي أو المعنوي لما يحمله العرب تجاه الكرد، ام انه لايمثل سوى التوجه البيئي الضيق الذي كان يحمله في معتقداته القروية والبيئية المخالفة لما يقوله الدين والمذهب…؟
يتحدث رئيس تحرير صحيفة “كوردستانى نوى” ستران عبدالله في مقدمة الكتاب عن مضمون ما يحاول السعي إليه الكاتب قائلاً: ان “هذا الكتاب ادانة للسياسات الشوفينية في أعلى مراحلها، مرحلة الإبادة الجماعية والقتل على الهوية. وبنفس الوقت فهو كتاب يوحى بالأمل بمجرد أن كاتبه كتبه بلغة الضاد“.
ويشيد ستران في مقدمته، بأن الكاتب تناول ما عرضه في ثنايا الكتاب وما قدمه من رؤية بشأن الأحداث، بفكر منفتح يعكس توجهات قومه وشعبه ويحاول جاهداً أن يقنع القارئ بأنه ليس من الضروري أن يكون الآخر العربي خصماً للكرد كما يتصوّر الغالبية العظمى من بني الكرد نفسهم أو حتى العرب، والدليل على ان الكاتب بصفته أحد أبناء الكرد ومن عوائل ضحايا النظام البعثي يرضى بأن يكون الآخر العربي حكماً وليس خصماً، ولا ينظر إلى اللغة العربية كغنيمة حرب قومية أو وسيلة اضطرارية للتعبير لايملك عنها بديلاً.
محو الهوية الإسلامية للكرد
يستاءل الكاتب في كتابه عن السبب أو اللغز الذي دفع حزب البعث (1968-2003) الى اختيار أو اطلاق أسماء من سور من القرآن الكريم أو القادة العسكريين البارزين في التاريخ الإسلامي على عملياته العسكرية التي شنّها ضد الشعب الكردي خلال حكمه مثل “الأنفال” أو اطلاقه اسم (قعقاع) أو (مسلم بن عقيل) أو (خالد بن الوليد) وغيرها من الأسماء الأخرى على قواته أثناء شن الحملات العسكرية..؟
بعد تحليل عميق يرى الكاتب بأن محاولات البعث تلك كلها جاءت من أجل محو الهوية الإسلامية للكرد واعتباره خارج المنظومة الإسلامية في وقت تناسى بأن مئات المساجد توجد في مدن الكرد ولاتخلو منطقة كردية من صيحات وتكابير الله أكبر إلا أنه أراد من خلال جرائمه مع الصمت الشبه التام للعرب اعطاء صبغة دينية ليبرر جرائمه ضد الكرد وجعل صراعه معهم صراعا قائما على أساس الدين ومن أجله وحتى ولو كان الكرد يتبعون نفس الدين والمذهب.
ويعود الكاتب ويسأل مرةً ثانية عن سبب صمت العالم الإسلامي ازاء ما قام به البعث تجاه الكرد من قتل وتهجير وقصف بالأسلحة الكيمياوية المحرمة دولياً وغيرها من الجرائم الأخرى اذا كان الإسلام حقاً بريئاً من تلك الجرائم التي حملت عناوين وأسماء منه.
ويدعو الكاتب من خلال أجوبته عن تلك الأسئلة الى ضرورة التمييز بين الدين الإسلامي كنصوص قرآنية هي كلمات الله، وأحاديث نبوية، خطاب الرسول، وبين القوى الدينية والفرق الاجتماعية المختلفة التي تعتنق الإسلام وتؤسس اسلاميتها على ضوء تفسيراتها أو شروحاتها أو تأويلاتها المختلفة لتلك النصوص والأحاديث، بمعنى آخر حتى أو لو أن البعث ادعى ان ما قام به مبني على أسس اسلامية فهذا ليس بالضرورة ان يكون الإسلام راضياً عنه، لأن الإسلام وظّفه البعث في هذه الحالة لما أراده البعث لمصلحته، بمعنى أكثر دقةً ان البعث استخدم الهوية الإسلامية لمصالحه ولغرائزه القومية والاجتماعية والسياسية.
موقف المثقفين العرب من “مسلخة الأنفال“
يشير الكاتب في جزء آخر من الكتاب عن دور وموقف المثقفين العرب من فاجعة الأنفال والجرائم الأخرى التي وقعت على الشعب الكردي من حزب البعث البائد، وكيف التزم الجزء الكبير منهم الصمت ازاء ما فعله البعث بالكرد باستثناء عدد قلة من هذه الشريحة وفي مقدمتهم الباحث والعالم الاجتماعي العراقي فالح عبدالجبار الذي يقول عن حلبجة وفاجعة الأنفال “قلتُ في أكثر من مناسبة، في محاضرات ومقالات في لندن وباريس والقاهرة وعواصم أخرى، إنني كلما سمعت بأسم حلبجة أو مسلخة الأنفال، شعرتُ بالعار، ليس فقط من كوني عربياً، بل بالعار لأنني إنسان يعيش مع وقائع مريرة كهذه…”، بحسب ما ذُكره المؤلف، بمعنى آخر ينتقد الكاتب موقف المثقفين العرب من هذه “المسلخة” لاسيما وهم يمثلون الصوت الحي لمجتمعاتهم، لكن كيف استطاع البعث ان يشتري ضمير البعض منهم بـ“كوبونات النفط” وحصولهم على امتيازات كبيرة جراء سكوتهم هذا…!!
لم تكن “مسلخة الأنفال” وقصف حلبجة فقط قليلي الحظ مع الطبقة الواسعة من المثقفين العرب، فالكثير من الفواجع والمآسي التي وقعت على الشعب الكردي والشعوب الأخرى سواء كان في العراق أو العالم العربي لم تنل حظها وحصتها من الحقيقة اللازمة ضد أنظمتهم، إلا أنه بالاعتماد على سياسية الترهيب والحصول على الامتيازات الكبيرة لجأ الجزء الكبير منهم الى زاوية الصمت وعدم الحديث عن المجازر اللإنسانية التي تقع على شعوب هذه المنطقة منذ عدة عقود كما حصل باستمرار، على عكس ما نراه ونشاهده الآن من ارتفاع أصواتٍ عدة للمثقفين العرب ضد أنظمة بلدانهم ووصفها بالديكتاتورية المقيتة وفي سوريا على سبيل المثال، إلا ان الظاهرة كانت في شبه غيبوبة مع الشعب الكردي الذي مازال قليل الحظ مع المثقف العربي مقارنةً مع شعوب البلدان الأخرى، فالكثير من المثقفين العرب يتحدثون عن مآسي ومواجع شعوبٌ أخرى قد تكون مجاورة لبلدانهم أو من خلال اطلاعهم على أحوالهم إلا أن قسماً كبيراً لايتحدثون حتى الآن عن الكرد وحقوقهم المسلوبة على مدى عدة عقود فضلاً عن المظلومية التي حلّت بهم على يد البعث والأنظمة الأخرى قبل 2003، بالرغم من فتح الشعب الكردي بابه للعشرات من المثقفين العرب عند مطاردتهم من قبل النظام البعثي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من الألفية الثانية، حيث أصبحت جبال كردستان ملجأهم ومأمنهم، لكن سيبقى السؤال الأزلي هو هل كان المثقف العربي وفياً مع القضية الكردية وخصوصاً الأنفال وأعطاها حقها وبعدها الإنساني لكشف ما قام به البعث ضد الكرد…؟
الوجه الآخر للانفال.. حقائق مهمشة
يتناول الكاتب في حزء آخر من كتابه عن التهميش والتقصير المجحف بحق عوائل ضحايا الأنفال لاسيما في منطقة كرميان والقرى والأرياف الأخرى التي وقعت فيها الجرائم اللانسانية على يد البعث المقبور، ويسلط الضوء فيه بطريقة غير مباشرة على الضربة الثانية لهؤلاء الضحايا بسبب تجاهل حقوقهم من قبل السلطة الكردية التي أجحفت بحقهم كثيراً عندما لم توفر لهم مستلزمات العيش الرغيد كما يحصل مع جميع ضحايا العالم وخصوصاً بعد تغيير أي نظام ديكتاتوري والانتقال الى نظام آخر جديد أكثر انفتاحاً، لكن الكاتب وبصورة غير مباشرة يحمّل السلطة الكردية أو الحكم الكردي ما بعد انتفاضة 1991 مظلومية أخرى وقعت بحق الكرد المؤنفلين أو ضحايا القصف الكيمياوي في حلبجة وما يعيشوه من تدهور وتراجع في قطاع الصحة والتربية وفي مقدمتهم الخدمات والبنية التحتية من بناء واعمار.
فالمواطنون الكرد تعرضوا بشكل عام الى أبشع الجرائم على يد نظام صدام وأعوانه ومع ذلك مازالوا يعانون من الصعوبة في الحصول على أبسط حقوقهم ومنها الرواتب الشهرية التي أصبحت تتأخر كثيراً في السنوات الخمس الأخيرة، فما بالك الذين تعرضوا الى جرائم الأنفال والقصف بالأسلحة الكيمياوية والتهجير وعمليات القتل الجماعية.
يحاول الكاتب من خلال هذا الجزء ان يقول بأن المؤنفلين لم يكن التغيير في حياتهم نحو الرفاهية واكتساب الحقوق والامتيازات بالمستوى المطلوب مقارنةً مع ما تعرضوا له من جرائم وابادات جماعية، وهذا كله يتحمله المسؤولون الكرد الذين تسنموا زمام الحكم بعد 1991، فمازالت عوائل ضحايا الأنفال تفتقر الى أبسط حقوقهم، وكذلك الحال مع عوائل شهداء القصف الكيمياوي في حلبجة وغيرهم في المناطق الأخرى.
وأخيراً، يمثل كتاب “البربرية المعاصرة، الأنفال والإبادة الجماعية في كردستان العراق” للكاتب والباحث والصحافي الكردي عدالت عبدالله انعطافاً ايجابيا لمصلحة هذه القضية التي مازالت تُركن في زاوية ضيّقة من زاويا نيل حقوق الكرد، فيعتبر هذا الكتاب من الكتب القلائل التي تناولت هذه “المسلخة” التي وقعت بحق الكرد وغيرها من الجرائم الأخرى بسبب قصر بصيرة الإعلام بشكل عام تجاه هذه القضية بشكل يساعدها لإطلاع العالم على ما جرى عليها، إلا ان عبدالله نجح نجاحاً باهراً في تناول وطرح القضية برؤية منفتحة وصورة متعددة الاتجاهات وبلغة سلسلة كما تعودنا عليه في كتاباته ومقالاته في تسليط الضوء بفكر منفتح دون القاء اللوم على الآخر العربي على أسباب ما حصل ووقع على الكرد من قتل جماعي وقصف بالأسلحة الكيمياوية المحرمة دولياً اضافةً الى جرائم الأنفال وغيرها من الجرائم الأخرى.
اضاءة
يعتبر الكاتب والاعلامي الكردي عدالت عبدالله المولود سنة (1977م) بمدينة السليمانية من الاعلاميين الكرد القلائل الذين يكتبون باللغتين العربية والكردية، وهو حاصل على شهادة الماجستير في الإعلام/ اختصاص الإذاعة والتلفزيون في لبنان، ويعمل في مجال الإعلام منذ العام 1993م بعناونين صحافية مختلفة، له (14 مؤلفاً) في مجال السياسة والفكر والاعلام، عشرة منها باللغة الكردية، وأربعة باللغة العربية اخرها كتاب “البربرية المعاصرة….”، ومازال يكتب للكثير من الصحف العربية والعراقية والكردية.