تعوّد العراق على سلسلة كوارث مستمرّة ومتنوعة، ومتعمدّة بفعل فاعل في أغلبها، ففي كلّ فصل من فصول السنة، كارثة جديدة تعقب أخرى، فهي سلسلة لا تُحصى، فمن الكوارث أخيرا جرائم ارتكبت من دون مساءلة: الجفاف وقطع المياه عن أنهر العراقيين، ثم انسداد مجاري الصرف الصحي، ثم تجريف أشجار النخيل، ثمّ تسميم ملايين الأسماك في الأنهر، مآسي الفيضانات، ثمّ ما يحدث في المستشفيات وصولاً إلى إشعال الحرائق في الحقول الزراعية والحرب الاقتصادية الشعواء ضدّ العراقيين. والمشكلة أنه لا أثر للحكومات العراقية المتعاقبة أبداً في إيقاف حجم الكوارث، ودرء مخاطرها، بسبب ضعف هذه الحكومات وهشاشتها وانعدام مسؤولياتها، وهيمنة قوى سياسية متنفّذة عليها. أمّا الجناة من المجهولين الذين في الوسع القبض عليهم، ومعاقبتهم أشدّ العقاب، فما زالوا يسرحون ويمرحون في كلّ العراق.
آلاف الهكتارات من الأراضي المزروعة تلتهمها النيران كلّ يوم في حرائق متعمّدة، ونحن الآن في موسم حصاد الحنطة والشعير، خصوصاً في محافظة نينوى المغضوب عليها من النظام الحاكم. ونرى ونسمع أنّ محاصيل الناس تحترق في العراق، وهذا ما يؤلم كلّ عراقي له نخوته الوطنية، إذ هذا أمر بالغ السوء للاقتصاد العراقي. ومنذ شهرٍ مضى، ونحن نسمع عن حجم النيران التي أكلت الزروع والضروع، حتى وصلت إلى أبواب المدن. وممّا يثير الانتباه تضاعف هجمات الحرائق في المناطق الزراعية في شمال العراق خلال الأسابيع الأخيرة. في شهر واحد، وخصوصاً في الموصل وتوابعها، إذ دمّر 236 حريقاً أكثر من 5100 هكتار من الأراضي الزراعية المكتنزة بالمحاصيل. وقد بلغت اليوم أكثر من ستة آلاف هكتار.
ومن السهولة ألا يقبض على الجناة، ولكن تنشر مزاعم سهلة الترويج أنها من عمل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وسواء كانت من “داعش” أو غيره، فإنّ الحكومة العراقية ملزمة بتقديم الجناة للعدالة، وإلّا فإنّ الاتهام سيوجّه إلى أكثر من فصيل سياسي، أو مليشياوي، وإلى كلّ من له مصلحة حقيقية في تدمير الموارد العراقية في هذه المرحلة الصعبة. وسواء كانت الشكوك منصبّة على “داعش” أو على بعض السكان المحليين، أو الاكتفاء بسذاجة ترويج ارتفاع درجات الحرارة سيجعل الأمور أسوأ، وأن الحكومة هي المسؤولة عن العراقيين وحياتهم وأموالهم وحلالهم، فهم الضحايا، فضلا عن مسؤوليتها المباشرة المحلية في مكافحة الحرائق.
وتعاني الموصل وتوابعها، حسب وكالات الأنباء، منذ أكثر من شهر، من أشرس الحرائق، إذ كانت حقول القمح والشعير في شمال العراق ضحيّة حرائق غامضة، أثبتت الشرطة رسميا أنها متعمّدة، ما تسبب في تلف آلاف الهكتارات من أراضي المحاصيل. وتعتبر سهول الموصل في المنطقة سلة الخبز الكبيرة في البلاد. وليس المهم أن يلقي بعضهم اللوم على جهاتٍ معينة، ولكن الأهم معرفة الجناة بالفعل ومحاكمتهم، سواء كانت الجريمة نفذتها هذه العصابات أم تلك الجماعات، حتى إن أشار آخرون بأصابع الاتهام إلى النزاعات العرقية المحلية. كيف؟
ضربت الحرائق أربعة أقاليم شمالية في العراق، صحيح أنها كانت كلّها تحت سيطرة ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية جزئيًا على الأقل بين عامي 2014 و2017، وأنها ظلت ضمن تقاطع ذئاب التنظيم الوحيدة، أو ما تبقى من الخلايا النائمة. في الواقع، غدت هذه المناطق مسرحاً لكلّ العصابات والمجموعات المتنوعة الموجّهة ضمن أجندات مضادّة سيطرت عليها وتنفّذت في المدن، وهي قادرة على إيذاء الدواخل في المدن وتوابعها، فكيف لا تستطيع إشعال الحرائق في البراري الخصبة والحقول الزراعية. وقد نشر بعض الناس على وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لقطع زجاجية أو عدسات مستخدمةً، لإشعال النار من خلال حرارة الشمس دليلا على أنها كانت متعمّدة.
ولما صرّح مسؤولون من الشرطة بأن 38 حريقاً قد سجّلوا فيه الجرم ضد فاعل، فلماذا لا يعلن من يكون الجناة إعلاميا؟ ولماذا لم نسمع من الحكومة المركزية شيئاً عن هذه الكوارث المهدّدة ليس للاقتصاد العراقي وحده، بل للبيئة بشكلٍ عام، ذلك أن الحديث يدور عن تدمير مئات الهكتارات المملوكة لعراقيين، زرّاعا وملاكين، في محافظات كركوك ونينوى وصلاح الدين وديالى. لا يمكن أن يمرّر ما يصّرح به مسؤولون بأن “داعش” هو المسؤول عن بعض الحرائق على الأقل، لأنّ المزارعين رفضوا دفع الزكاة، وهي ضريبة مفروضة بموجب الشريعة الإسلامية. وإذا كان بعض الحرائق من فعل “داعش” فمن أشعل الحرائق الأخرى؟ وإذا كان ضابط شرطة في كركوك قد صرّح بأن الفاعلين “جاءوا بالدراجات النارية، وبدأوا الحرائق، وزرعوا المتفجرات التي تنفجر عندما يصل السكان أو رجال الإطفاء إلى هناك”، وقتلت الألغام خمسة أشخاص على الأقل، وأصابت عشرة آخرين في محافظة كركوك وحدها، فما هي هوية من يقود الدراجة النارية؟
يتردد الخبراء في إلقاء اللوم بإشعال جميع الحرائق على الدواعش، إذ يضعون علامات استفهام كبيرة على قوى متشيطنة، علما أن بعضهم يقول إن الحرارة الشديدة بلغت درجاتها 45 درجة مئوية، وهي كافية لإحداث ظروف جفافٍ شديد. وهناك من يبرّر الكارثة أيضًا بقوله إن المزارعين يحرقون النباتات في الحقول التي تُترك بورا، لجعل التربة أكثر خصوبة في المواسم المقبلة، ولكن المزارعين ليسوا مجموعة بهائم حتى تحرق ملايين السنابل التي أنضجتها عدة أسابيع من الأمطار الغزيرة، وما أعقبها من موسم الجفاف.
تنتج محافظة نينوى وحدها ما بين 40% و50% من القمح، ولمّا كانت 60% من الحرائق قد طاولت حقولها، فإن الكارثة كبرى في التقديرات العالمية، مع عدم اكتراث الحكومة العراقية ولامبالاتها، فضلا عن عدم توفّر ما يكفي أصلاً من الجرافات والحفارات والإطفائيات والطائرات الخاصة للمساعدة في إخماد الحرائق. وقد زحفت النيران إلى أحياء أطراف الموصل. ويقول شاهد عيان: في الأيام القليلة الماضية وحدها، شهدنا عشرات الحرائق.. السؤال هو: ما هذا الإهمال، لماذا لم يتحرّك المسؤولون للحدّ من حجم الكارثة؟ ومن غرائب الكارثة احتراق حتى الحدائق العامة، فحديقة الشهداء في قلب الموصل، وهي من أجمل الحدائق القديمة قد أحرقت بالكامل.، وتناهى الينا ان حرائق متعمدّة قد شبت في غابات الموصل من اجل الاستحواذ عليها ، فمن ذا الذي يدافع عنها ؟
وأخيرا ، ماذا تسمّى هذه الكارثة المتعمدة إلا محاولة قذرة لتدمير الاقتصاد العراقي، وإبقاء العراقيين يعتمدون، في غذائهم، على استيراداتهم من الآخرين.. الحكومة العراقية مطالبةٌ بأن تعلن مدى فشلها الذريع، وأن تكشف للعالم عن مسؤوليتها في إخفاء الجرائم والكوارث، وأن تعلن الحقائق بدل المخاتلة. وهل ستكون هذه آخر كوارث العراق؟ أشك في ذلك.
نشرت في العربي الجديد / لندن 23 حزيران / يونيو 2019 ، ويعاد نشرها على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل
http://sayyaraljamil.com/