وفي الجهة الأخرى، نخسر اليوم ونحن مشتتون، بتتبعنا لقوى سياسة إقليمية، في المجالات العالمية، ونتحارب تحت قيادة أطراف من حراكنا، ليست لأنها ليست وطنية وصادقة مع شعبه وقوميته، بل على الأغلب لأنها لا تملك ناصية أوامرها، ونسينا على مر التاريخ تصحيح أو معالجة الإشكاليات المصيرية المؤدية إلى هيمنة الأخر على جغرافيتنا وفشلنا، وهي ما بينت عن ضعفنا بشكل مستمر، وكررنا الفشل بعد الفشل أملين أو واهمين أن تكون النتائج مختلفة، ومع مرور الزمن وتكرار التجارب ترسخت صعوبة معالجة العامل الداخلي، إلى أن بدأت تنهشنا الجمود الفكري، ومن نتائجها إننا أصبحنا نجوب عالم التحزب ونسقطها على السياسة، وتلهينا بالقضايا الثانوية جلها حزبية كبديل عن العلاقات الدولية السياسية والدبلوماسية، وهي ما أدت إلى تتالي الانقسامات ليس فقط بين حراكنا الكردستاني، بل بين مجتمعنا الكردي، وأصبحنا على مفترق طرق، مبنية على:
1- العامل الديني، والتي أدت إلى أن تصبح قضية نقل عاصمة إسرائيل إلى القدس من أهم قضايا شريحة إسلامية سياسية من شعبنا، وعلى أثرها سيرت مظاهرات تنديد ضمن العديد من مدن كردستان، وبها فضلوا الإسلام السياسي على الروحانية في الدين وعلى القومية التي لا تتعارض والدين فيما إذا طبق كما طبقها الخلفاء الراشدين وحتى العثمانيين، وجميعهم لم ينسوا يوما عشيرتهم ولا قوميتهم، ومثل الشريحة تلك، أقامت البارحة، أحزاب ومراكز إسلامية كردية في كل من الإقليم الفيدرالي الكردستاني ومدنن في شمال كردستان، صلاة الغائب على رئيس مصر السابق محمد مرسي الإخواني التكفيري في الوقت الذي لا تحرك هذه الشريحة من مجتمعنا ساكنا وكردستان وبشعبها تحترق وتسبى أمام أعينهم.
2- أو الانتماء الحزبي المغلف بالإيديولوجية.
3- أو الاختلاف في اللهجات.
4- وحتى أحيانا الانتماء العشائري.
5- ولن ننسى التبعية للقوى الإقليمية المهيمنة والأكثر حضورا.
لم تكن يوما إشكالية لدى محتلي كردستان، الالتجاء إلى أية قوة عالمية لتقوية الذات وتسيير مصالحها، وكثيرا ما غيرت سياساتها وانتماءاتها حسب ما تتطلبه مصالحها القومية، فعلى سبيل المثال، أصبحت الحركة الماسونية حاضرة في المسيرة التركية، منذ ظهور أتاتورك العلماني إلى رجب طيب أردوغان المسلم الليبرالي قبل أن يتحول إلى راديكالي، وهذه الحركة رفعت تركيا إلى ما هي عليها الأن، اقتصاديا، فخلال سنتين نقلت الاقتصاد التركي من دولة عادية إلى مصاف الـ الدول العشرين في العالم، فزادت دخلها الوطن من قرابة 350 مليار دولار إلى حدود 800 مليار دولار، وبها عززت مكانتها في العالم عسكريا، فروسيا والحركة الماسونية المتمثلة بالشركات الرأسمالية العالمية، حافظتا على سلطة أردوغان وحزب العدالة والتنمية من السقوط بيد الإنقلابيين، ذاتهم من ساندوا، أتاتورك، بإقامة تركيا الحالية، في بدايات القرن الماضي، بعدما أستطاع أتاتورك وأردوغان قبل سنوات من الاعتماد على العامل الذاتي وتقويته، للتأثير على الموضوعي، في الوقت الذي بقينا نحن الكرد كشعب وحراك وقادة نتحسر ونلوم الأخرين، ولم نبحث عن العامل الذاتي لجلب انتباه مثل هذه القوى للاهتمام بقضيتنا. فكمال أتاتورك والذين مكنوه من رفض معاهدة سيفر، والتي كانت في الظاهر تتضمن اعتراف ما بحقوقنا ككرد وفي الواقع كانت معاهدة تحتضن إجحاف فظيع بحقنا، فنصف كردستان مع ديمغرافيتها كانت ستضم إلى أرمينيا، وربعها قطعت لتكون محمية فرنسية غير معروفة مصيرها، واليوم أردوغان ينتقل من أمريكا والناتو إلى أحضار موسكو، وحيث مصلحته القومية، ونحن لا زلنا نعالج إشكالياتنا بمنطق الذليل المستجدي من جهة، ومن جهة أخرى لا نملك إمكانية لملمة إمكانياتنا المتوفرة والهائلة، وتقوية العامل الذاتي، ومعالجتها بمنطق القوي الفارض شروطه.
بعودة إلى التاريخ، والإتيان على المثال السائد بيننا وبين باحثينا، سنجد وتحت ضغوطات سرية، كيف دعت دول الحلفاء حكومة أتاتورك في 20 نوفمبر 1922م إلى مؤتمر أخر يعقد في مدينة لوزان بسويسرا. والغرض منه التفاوض على معاهدة جديدة مع تركيا لتحل محل معاهدة سيفر، التي رفض مصطفى كمال أتاتورك، الاعتراف بها، وذلك بعدما تمكن أتاتورك من معالجة العامل الذاتي، في تغيير المعادلة الدولية لصالحه. فشكل وفد تركي، متجاوزا البعدين التركي والإسلامي، برئاسة (عصمت إينونو ذو الأصول الكردية، من أب كردي وأم تركية) وعضوية (رضا نور باشا، والحاخام اليهودي ناحوم) (حاخام إسطنبول الأعلى من يهود الدونمة)، كما وتقبل الشروط القاسية على الإمبراطورية التي كان أتاتورك باشا فيها، ووافق ببساطة عندما أصرت بريطانيا على إلغاء السلطنة بإعلان الالتزام بالعلمانية وإلغاء الخلافة وطرد الخليفة وأسرته من البلاد والإبقاء على الموصل بعيدة عن تركيا، وكانت هذه هي الشروط الإنجليزية لإعطاء تركيا الاستقلال.
وبقينا ككرد على حافة التاريخ، وحيث العامل الذاتي في أضحل مستوياته، وتبينت بشكل سافر عندما تغاضى القنصل السامي البريطاني عن طلب ونستون تشرشل الذي كان حينها وزيرا للمستعمرات عندما عرضها عليه في القاهرة عام 1919م وأعدها ثانية حتى قبيل تشكيل العراق الحالية، بفصل كردستان عن العراق، والتي كانت تضم ولايتي الموصل وكركوك، أي أكثر من ثلث مساحة العراق الحالية، ومثلها لم تذعن فرنسا لشروط معاهدة سيفر، أي بقينا نحن هنا مهمشين أمام مصالح دولية، وفي الداخل قوى كردستانية مشتتة وهزيلة، وهي ذاتها ما يجري بيننا الأن مع بعض الاختلافات البسيطة.
فشلت الجولة الأولى من المفاوضات بين أتاتورك والدول الكبرى حينها، ثم دعيت الوفود مرة أخرى إلى لوزان للبحث من جديد في بنود معاهدة سيفر، ووافق الأتراك على الشروط الإنجليزية في 20 نوفمبر 1923م؛ فألغيت السلطنة في (30 نوفمبر 1923م) وأعلنت الجمهورية، واختير أتاتورك رئيسا له، وبقينا ديمغرافية متناثرة في جغرافية مترامية على حافة التاريخ.
التجربة التركية لم تكن الوحيدة التي طعنا بها، كبعد إسلامي وعلماني معاً، بل حدثت مع نهوض النزعة القومية العربية وظهور العائلة الهاشمية في سوريا والعراق والتي تمكنت من خلق تلائم بين مصالح العرب والمحتل البريطاني، أي عرفوا كيف يلائموا بين العامل الذاتي والموضوعي، والعاملين الإسلامي والعلماني، أي الروحي والمادي، في الوقت الذي كان الكرد فيه يكثرون من التأفف على مظالم القوى الكبرى كحملة للعلمانية والإسلام كسبب في كراهيتهم لنا…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
17/6/2019م