أكردة الحزب الشيوعي العراقي وهزال القيادة
كتب الأستاذ الدكتور فالح مهدي يقول بأن “أول من انتبه إلى حقيقة، إن معظم قادة الحزب الشيوعي كانوا من الأكراد هو حنا بطاطو حسب علمنا، لقد انتبه ذلك الباحث الشريف من أن مذابح كركوك التي اتهم بها الشيوعيون في بداية الستينيات من القرن المنصرم كانت من صنيعة الأكراد المتطرفين”. ثم يواصل قوله فيكتب: “لقد كان من نتائج أكردة الحزب الشيوعي في بداية الستينيات من القرن المنصرم، أن خرج الحزب الشيوعي من شعار الأممية إلى شعار القومية”. (مهدي، الكتاب، ص 208/209).
أبدأ أولاً ببعض التصحيحات التاريخية قبل الخوض بالنقاش. التصحيح الأول، وقعت احداث كركوك في 14 تموز 1959، أي أثناء احتفال المدينة بالذكرى الأولى لثورة تموز 1958، وليس في بداية الستينيات. التصحيح الثاني: يشار إلى أكردة الحزب في فترتين الأولى مع مجيء ثلاثة من الكرد الشيوعيين على رأس الحزب في الفترة بين 1949 حتى العام 1954/1955، والفترة الثانية في أعقاب انقلاب شباط واستشهاد جمهرة كبيرة من القادة الشيوعيين العرب. ليس حنا بطاطو أول من كتب عن ذلك بل أجهزة التحقيقات الجنائية في العهد الملكي، ومن ثم أجهزة أمن البعث، والكاتب حنا بطاطو اعتمد على تقارير أجهزة الأمن التي وضعت كلها تقريباً تحت تصرفه، وقد عالج ليس موضوع الحزب الشيوعي من الناحية الطبقية والاجتماعية والقومية والدينية فحسب، بل عالج بقية الأحزاب السياسية من هذه الزوايا العديدة. ولست معنياً هنا بالأهداف التي كانت وراءمثل هذه التشخيصات والجهة التي مولت هذا البحث الكبير والمهم والذي استفادت منه جهات كثيرة، كما نستفيد منه ايضاً.
عن الفترة الأولى: في عام 1947 جرى اعتقال الغالبية العظمى من أعضاء اللجنة المركزية وكل المكتب السياسي. ومن لم يعتقل في تلك السنة، اعتقل في العام 1948 و1949. وقد قدم مالك سيف ويهودا صديق وغيرهما، الذين خانوا حزبهم، كل المعلومات الضرورية لتوجيه أقسى الضربات للحزب وقيادته وكوادره في العراق، لاسيما في بغداد والوسط والجنوب. ولم يبق في عام 1950 من قادة الحزب المعروفين من يمكن أن يأخذ على عاتقه مسؤولية الحزب. فانبرى لها العديد من الرفاق الكرد الذين استقدموا من كردستان ليمارسوا دورهم في لملمة ما تبقى من الحزب وإعادة بنائه. ولم يكن أي من هؤلاء الرفاق مخولاً من أي مؤتمر أو لجنة مركزية، بل قاموا بمبادرات شخصية واعية،فقادوا الحزب إلى شاطئ السلام. لم يكن هؤلاء الرفاق يمتلكونقدرات فكرية عالية أو تجربة سياسية غنية ومهمة وطويلة، بل كانوا شبابا في العشرينيات من أعمارهم، ولكنهم صمدوا بوجه الإرهاب الدموي وأنقذوا الحزب من التصفية الفعلية، والثلاثة الذين لعبوا هذا الدور المهم هم بهاء الدين نوري وكريم أحمد وحميد عثمان، إضافة إلى المئات من الكوادر والأعضاء الآخرين. والثلاثة هم كرد، إذ كانت القيادات والكوادر الشيوعية العربية ومن كان منهم من اليهود والمسيحيين قد تلقوا ضربات قاسية جداً ووجدوا أنفسهم في السجون. ولم يدفع هؤلاء بالحزب إلى الاتجاه القومي الكردي، بل ساروا على نهج الحزب السابق، ولكنهم تميزوا بالمواقف اليسارية عموماً، ولاسيما بهاء الدين نوري وحميد عثمان. وقد أشرت سابقاً بأن فترة وجود بهاء على رأس التنظيم قد رفع شعاراً طفولياً في الشارع يقول “بس تامر باسم للعرش نشيلة“! ولم يكن في برنامج الحزب هدف إسقاط الملكية حينذاك. كما رفع شعار الاستقلال لكردستان، ولكنه لم يبق طويلاً، إذ سحب مباشرة. لم يكن وجود رفاق شيوعيين أكراد بصورة متتالية على رأس الحزب نتيجة تخطيط متعمد، بل كان بسبب التصفيات التي تعرض لها الحزب وكوادره من القوميات الأخرى، ويفترض أن يفهم هذا الواقع بصواب أولاً،وأن يقيموا جيداً، لأنهم استطاعوا انقاذ الحزب وأوقفوا الاعترافات والانهيارات في صفوفه وواصلوا المسيرة.
عن الفترة الثانية: أشار الدكتور فالح مهدي بصواب إلى الضربة الموجعة والمدمرة التي تعرض لها الحزب الشيوعي في انقلاب شباط المشؤوم. وهذه الضربة الموجعة جداً أدت إلى خسارة الحزب لأغلب قيادييه وكوادره في بغداد والوسط والجنوب وغرب بغداد، ومجموعة من الكرد والكرد الفيلية أيضاً،ولم يبق الكثير منهم، إلا من كان في الخارج أو من كان في كردستان أو استطاع الاختفاء عن أعين أجهزة الحزب والأمن البعثيين والقوميين والإفلات من الموت المحقق. وحين عقد اجتماع اللجنة المركزية في براغ في عام 1964، كان عزيز محمد واحداً من أعضاء المكتب السياسي الناجين أثناء قيادة سلام عادل للحزب. وقد جاء إلى الاجتماع من الداخل وانتخب سكرتيراً أولاً، رغم إصراره على الرفض لقناعته الشخصية بأن هناك من هو أحق منه وأكثر ثقافة، من الناحية النظرية بشكل خاص. ولم يجر انتخابه لأنه كردي بأي حال، إذ لم تكن هذه الظاهرة القومية الراهنة، ولا الانتماء الديني والمذهبي، يلعبان أي دور في حياة الحزب الداخلية وفي الانتخابات ولا في صفوف الشعب العراقي. وحين يلقى الباحث نظرة على قيادة الحزب حينذاك، فلم يشكل الكرد الأكثرية في القيادة، ولكن العمل الحزبي وتراجع عدد الكوادر العربية بسبب الموت أو السجن أو الخروج من الحزب أو الخيانة، ازداد عدد الكوادر الكردية في قيادة وكوادر الحزب، وهو أمر طبيعي بالنسبة للشيوعيين العراقيين وأن يتقدموا في مواقعهم الحزبية. ولم تبرز أي ظاهرة قومية في الحزب كما يشير الدكتور فالح مهدي بقوله “”لقد كان من نتائج أكردة الحزب الشيوعي في بداية الستينات، أن خرج الحزب الشيوعي من شعار الأممية إلى شعار القومية.” (الكتاب، ص 209) وبرأيي ومعرفتي بواقع الحزب وكوني من كوارد الحزب المتقدمة حينذاك، وقد سحبت من الخارج إلى الداخل، ومعي العشرات من الكوادر التي كانت في الخارج، للمشاركة مع رفاقي في العام 1964/1965 بصورة سرية، في عمل ونشاط الحزب. لم يتغير شعار الحزب الأممي بشعارات قومية. وأرى أن هناك فهماً خاطئاً للعلاقة بين الأممي والقومي. فالأممي لا يتنكر لقوميته أو لشعبه أو لوطنه، بل يزداد تمسكاً بهما شريطة ألَّا تأتي على حساب قوميات أخرى أو الإساءة لقوميات وشعوب أخرى أو لأوطان أخرى. الأممي فكراً وممارسة يحترم جميع القوميات والشعوب، كما إن من يحترم حريته وحقوق قوميته وشعبه، يحترم حرية وحقوق القوميات والشعوب الأخرى. الأممي لا يفتخر كونه عربياً أو كردياً أو تركياً أو فارسياً…الخ، بل يفتخر بكون إنساناً، وولد في هذا البلد أو ذاك وينتسب لهذه القومية أو تلك وكلها بالصدفة. إنه إنسان ويحترم حريته وكرامته وحرية وكرامة الآخرين.
قبل أن يكون في الحزب الشيوعي العراقي كردياً واحداً رفع الحزب الشيوعي العراقي في عام 1935 استقلال كردستان مثلاً، وحين لم يكن عزيز شريف الماركسي وقبل أن يكون عضواً في الحزب الشيوعي العراقي وقيادياً فيه، رفع شعار حق الشعب الكردي في الاستقلال في كراسه الشهير الذي صدر عام 1950/1951 ومن ثم صدر في العام 1955 باسم نصير، والموسوم: “المسألة الكردية في العراق”. يقول عزيز شريف في “عرض المسألة: ظاهرتان للمسألة الكردية في العراق: الظاهرة الأولى تمثل الوجه السلبي للمسألة الكردية أي اثر السياسة الاستعمارية الرجعية التي قضت باستعباد الشعب الكردي وتمزيق أوصاله وابقائه في مستوى من العيش البهيمي. أما الظاهرة الثانية للمسألة الكردية في العراق: فإنها تمثل الوجه الإيجابي لهذه المسألة وهو كفاح الشعب الكردي في سبيل حرياته وفي سبيل تقرير مصيره.” ثم يواصل فيقول: “والمسألة الكردية في العراق ليست عراقية صرفة، إنها جزء من مسألة الشعب الكردي في جميع موطنه كردستان وإن مزقته السياسات الاستعمارية والرجعية المحلية الجائرة وإن تعددت لهجاته حتى بدت أحياناً كأنها لغات مختلفة بسبب العزلة”. (راجع: عزيز شريف، المسألة الكردية في العراق، الطبع الرابعة، 2004، ص 29). وكما يعرف زميلي الدكتور فالح مهدي أن عزيز شريف ليس كردياً بل عربياً من مدينة عانة.
لقد كان عدم احترام القوميات الأخرى وعدم تمتعها بالحرية التامة والحقوق أحد العوامل البارزة والملموسة في انهيار الاتحاد السوفييتي وتفتته إلى جمهوريات عدة، ولذلك يمكن أن يتعزز العراق ووحدة قومياته لو كانت الحكومات العراقية المتعاقبة قد مارست السياسات الديمقراطية ولو سمحت للشعب الكردي التمتع بحقوقه المشروعة والعادلة، ربما لما طالب بالضرورة بالاستقلال والسيادة الوطنية. نحن، أنت وأنا وغيرنا من العرب، لا نجد شائبة أو غضاضة في وجود 22 دولة عربية، وبعضها قزمية، وبعضها كان جزءاً من العراق، مثل الكويت، ولكن لماذا ننتفض ولا نقبل أو لا نفهم حين يطالب الكرد، وهم شعب يتجاوز عدده ألـ 40 مليون نسمة في أجزاء كردستانالأربعة، بحقهم المشروع في إقامة دولتهم الوطنية المستقلة؟
حين نتحدث عن الطبقة العاملة العالمية، يتجه الأمر صوب التضامن بين الطبقة العاملة في جميع أجزاء المعمورة، “يا عمال العالم التحدوا”، ولكن هذا لا يعني اغتصاب حقوق الطبقة العاملة في بلد ما، أو لا يحق للطبقة العاملة في العراق أن تناضل في سبيل الديمقراطية وفي سبيل الحقوق القومية للعرب والكرد والقوميات الأخرى على وفق الأوضاع الجارية في البلاد.
في هذا الجزء من المقالة في السفالة نوع من خلط الأوراق. فلم يكن للكرد دخل في الاعتراف بإسرائيل عام 1947/1948. وفي حينها كتب شيوعيون عرب من العراق رسالة أرسلت من باريس إلى الرفيق فهد يطلبون منه فيها الاعتراف بإسرائيل بعد اعتراف ستالين بذلك. لم يوافق فهد على ذلك وطلب بحث الموضوع مع الحزب الشيوعي السوري. ويبدو إن الحركة الشيوعية العالمية قد اقرت ما وافق عليه الاتحاد السوفييتي في مجلس الأمن الدولي. ولم يكن مثل هذا الاعتراف في حينها من جانب الشيوعيين صاباً، إذ لم يكن من مهمات الحزب الملحة حينذاك. ويمكن لمن يشاء أن يطلع على موقف الحزب بهذا الصدد والعودة إلى ثلاثة كتب لي هي “فهد والحركة الوطنية”، و”لمحات من عراق القرن العشرين” ويهود العراق والمواطنة المنتزعة.
لم يحول وجود الكرد في قيادة الحزب إلى حزب كردي، كما لم يحولوه إلى حزب قومي عربي بوجود العرب في قيادة الحزب، ولا الكلدان حولوه إلى حزب كلداني بسبب كون الرفيق فهد ولد في عائلة مسيحية كلدانية، بل بقي أميناً للمبادئ التي اعتنقها واقتنع بها. ولكن يمكن الحديث عن إن الكرد الشيوعيين في الحزب قد أثروا، بهذا القدر أو ذاك، في علاقة الحزب مع القوى الكردستانية، كما أرى، وفي فترة معينة، ولاسيما في فترات الصراع بين الحزبين الكرديين، الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، إذ وجد في قيادة الحزب وكوارده من الكرد من كان يؤيد هذا الحزب أو ذاك، وكان لهذا تأثيره السلبي على الحزب في الثمانينيات، ولاسيما في فترة الأنصار وما حصل في مجزرتي بشت آشان الأولى والثانية واستشهاد عدد كبير من خيرة كوادر الحزب الشيوعية من النساء والرجال ومن مناضليه الشجعان. لو كان الزميل فالح مهدي أشار إلى هذه القضية لأعطيته الحق، ولكن ليس لما أشار إليه ولم يتعمق بدراسة ما يجري الحديث عنه هنا وهناك ومن بعض الأشخاص وبعيداً عن المسؤولية فيما ينشأ عن ذلك من تكهنات غير دقيقة أو غير صحيحة.
الرفيق عزيز محمد
في مقالته عن قيادات هزيلة تطرق الزميل فالح مهدي للفقيد الرفيق عزيز محمد. لا أستطيع أن أناقشه فيما ذهب إليه واكد هزالة القيادات الحزبية، فهذا تقديره الشخصي، وأن كنت أختلف فيه معه. لقد مر الحزب بفترات عصيبة وخسر الكثير من قيادييه وكوادره المتقدمة والمثقفة والواعية. وجاءت فترات على الحزب قادته مجموعة صغيرة من الشباب قليلة المعرفة والثقافة والوعي والتجربة. ولكن في فترات أخرى كان فيه أناس مثقفون واعون من العمال أيضاً، وليس من الوسط الثقافي فقط. لقد كانت المستويات في القيادة الحزبية ليست واحدة من جهة، وهي خاضعة للمستوى التعليمي والثقافي والفرص التي توفرت للكادر على التعلم والتثقف، وبالتالي كانت القرارات تتخذ في ضوء الأكثرية والأقلية، وفي هذه الحالة يصعب القول بأن هذا القرار اتخذ من قيادة هزيلة وقرار آخر من قيادة متينة. ولكن حين تتخذ سياسات خاطئة ليس بالضرورة أن تكون القيادة هزيلة بل يمكن أن تلعب عوامل أخرى دورها في اتخاذ هذه السياسة أو تلك. وقد حاولت توضيح هذه المسألة في أكثر من موقع في الحلقات المنصرمة. فقد تحدث الزميل فالح مهدي عن الرفيق عزيز محمد بالآتي: “لا شك أنه دمث الأخلاق، وحسن المعشر، إنما لا يتمتع بأي موهبة تسمح له بقيادة الحزب ثلاثين، بل يذكر مهدي السعيد نقلاً عن عضو اللجنة المركزية السابق والمثقف البارز، عامر عبد الله، أنه لم يره أبداً بصحبة كتاب!”. فهو من دعا إلى تلك الجبهة البائسة ومن وقع عليها. وكان يفترض به على ضوء مبادئ الشرف ان يطلق النار على نفسه”(الكتاب، ص 203). كم كنت أتمنى على الصديق العزيز ألَّا يكون هذا المقطع وهذه الكلمات الجارحة وما بعدها في كتابه، فالكلمة يا صديقي العزيز مسؤولية! ففيها الكثير من التجني والتجاوز على إنسان لم يكن كما وصفه ولم يكن المسؤول عن الجبهة، ولا عن الموقف من فترة حكم عبد السلام عارف. وبما إنني مطلع على وقائع عمل الحزب والرفاق خلال الفترة موضوع البحث، يمكنني أن أقول بكل وضوح وصراحة، إن من ورط الدكتور فالح مهدي بهذا التقدير والاستنتاج اعتماداً على قول منقول عن الرفيق عامر عبد الله، لم يكن هذا الشخص الناقل ضد عزيز محمد فحسب، بل وضد عامر عبد الله وعموم الحزب. إذ لا يمكن لعامر عبد الله أن يتحدث بهذه اللغة، كما لم أجد من الصواب الاعتماد على كتب تكرست لمعاداة الحزب الشيوعي العراق واعتمادها في تأكيد ما ذهب إليه الكاتب، كما في موضوع طارق إسماعيل، في كتابه “صعود وهبوط الحزب الشيوعي العراقي“، الذي كرس جُل همه للإساءة المتعمدة للحزب الشيوعي العراقي.
لقد أجرى الصديق إبراهيم أحمد معي مقابلة طويلة وطرح الكثير من الأسئلة، بما فيها أسئلة عن عزيز محمد، وقد أجبت عنها بكل صراحة ووضوح، ونُشرت المقابلة في جريدة الصباح العراقية، كما نَشَرتُ مقالاً عن عزيز محمد أثناء وجوده على قيد الحياة. وموقفي معروف من أن وجوده على رأس الحزب طيلة 27 عاماً لم يكن صحيحاً، وكان الأفضل أن يرفض الترشيح رغم إصرار الرفاق على بقائه على رأس الحزب. ولكن هذه الظاهرة كانت، وربما ما زالت، مرضاً لدى كل الأحزاب الشيوعية في أن الرفيق السكرتير العام يبقى في الرئاسة حتى الموت، وعلينا أن نتذكر بريجنيف الذي كان يسند تحت الأبطين لكي يستطيع الوصول إلى منصة إلقاء الخطب. كما كتبت عن الرفيق الذي جاء من بعده وتمنيت ألَّا يبقى طويلاً على رأس الحزب ليفسح في المجال للكوادر الأخرى أن تتقدم. هذا النقد وارد. ولكن هل كان الرفيق عزيز محمد حقاً لا يقرأ؟ هذا خطأ فادح. طبعاً حين يلتقي القياديون في اجتماعات اللجنة المركزية لا يأتون وهم يحملون كتباً تحت أباطهم، ولم أر أياً منهم بهذا الشكل. ولكني أعرف جيداً، وكنت واحداً ممن يزوده بالكتب وكنت أناقشه في بعضها. وكان الرفيق فخري كريم (أبو نبيل) يزوده بالكثير من الكتب، وكذلك مكتبة أراس في أربيل ومديرها العام الأستاذ بدران حبيب. لقد كان يقرأ الكثير والكثير جداً من الكتب المتنوعة الفكرية والفلسفية والسياسية والأدبية، بما فيها الروايات والشعر، وكان حين يكتب ينحت الكلمات بمهارة، وله خط جميل، ولكنه قليل الكتابة في كل الأحوال. لم يكن راغباً في البقاء طيلة الفترة المنصرمة على رأس الحزب، ولاسيما في السنوات الأخيرة، وكان الأفضل له لو ساعده الرفاق في الانسحاب من سكرتارية اللجنة المركزية ولكنهم لم يفعلوا ذلك، وهم المسؤولون عن ذلك، وأنا منهم، قبل أن يكون هو المسؤول وحين طرح عليًّ هذا الموضوع لجس النبض، رفضت ذلك في العام 1987.
لم يكن الرفيق عزيز محمد من طرح التعاون مع الاتحاد الاشتراكي في فترة حكم عبد السلام عارف، بل كانت مجموعة أخرى من الرفاق، منهم أنور مصطفى (سلام الناصري) وباقر إبراهيم (أبو خولة) وعامر عبد الله (أبو عبد الله) وغيرهم. ولم يكن زكي خيري من بينهم.
وفي المؤتمر الثاني، وكنت مشاركاً فيه، طرح موضوع طريق التطور اللارأسمالي من ثلاثة رفاق بشكل خاص هم عامر عبد الله ومهدي الحافظ وماجد عبد الرضا، وقد عارضتهم بمطالعة مطولة في الاجتماع، وجاء الرفيق عزيز محمد وهنأني عليها لأن الاجتماع أقر موقفي في عدم الاندفاع إلى التعاون مع البعث واعتبار مسير البعث تتجه صوب طريق التطور اللارأسمالي، بل ممارسة النقد ضد البعث حينذاك، ولهذا السبب تعرض الحزب إلى هجوم شرس من جانب البعث في أعقاب المؤتمر مباشرة.
لم يكن الفقيد الرفيق عزيز محمد بدون أخطاء أو نواقص، وليس فينا من هو كامل وبدون نواقص، “والحلو ما يكملش”، كما يقول المثل المصري، وللرفيق عزيز محمد نواقص أيضاً كغيره من البشر، ولكن لا بد أن يكون الكاتب منصفاً، وأن يكون مطلعاً جيداً وحذراً من عناصر كانت في الحزب وارتدت عليه ولم تتركه بسلام، بل تحاول الإساءة له وللرفاق الآخرين بكل الصور المتوفرة المشروعة وغير المشروعة. أكرر مرة أخرى ليس فينا من لم يرتكب خطأً، وأن وجُد، فليرمني بحجر.
انتهت الحلقة التاسعة عشرة وتليها الحلقة العشرون وهي الأخيرة.