أعتقد ان هذا الكتاب يحمل مواصفات ابداعية , غير تقليدية في أدب السيرة الحياتية . اذ يقدم لنا لوحة بانوراما متكاملة الجوانب , في تناول السيرة الحياتية وصياغاتها , التي يلعب بها دوراً بارزاً ومهماً , الزمان والمكان , في التحليل والاستعراض والاستقراء . في عواملهما محتوياتهما ومجرياتهما , في التأثير على حياة الشاعر السماوي . منذ الولادة , حتى تألقه على قمة هرم القصيدة العربية , في تجربته الشعرية الفذة , المرتبطة بعوامل البيئة , من محيط العائلة الى محيط بلدته الام ( السماوة ) الى الارتباط العضوي في المناخات السائدة . الاجتماعية . الثقافية . السياسية . والدينية , في سيرة حياة الشاعر يحيى السماوي , وبشكل مباشر في بلورة موهبته الشعرية . هذه المرتكزات دفعته الى الوسط الثقافي والسياسي . كموهبة شعرية واعدة , تحمل الكثير من الابداع , في تجربته الشعرية وانضاجها بالتطورات النوعية المتلاحقة , مرفقة في العلاقة الوثيقة , بمحطات الشاعر , سوى كان داخل الوطن , او كان في خارجه , في ديار المنفى والغربة والاغتراب . يقدم لنا الناقد ( لطيف عبد سالم ) الخط البياني الصاعد والمرتبط . بين الحياة ومقاطع المختارة من شعر السماوي , التي تحمل مواقف حياتية جريئة وصلبة . اي ان الناقد اختار , مواقف حياتية بارزة تعكسها تلك المقاطع الشعرية المختارة كمرآة لتلك المواقف الحياتية , برؤية وتمعن , لتعطينا الصورة الكاملة لمواقف الشاعر , الحياتية والشعرية . المرتبطة بحبه الصوفي في عشق الوطن . لانه لا يستطيع التنفس , إلا برئة العراق , والناس والانسانية , والحب الفياض الى الفراتين والى بلدته ( السماوة ). التي يقول عنها ( اذا كان العراق أبي , فأن السماوة أمي ) ص29 . هذا طغيان في الحب الذي يمتلكه ويربطه روحياً ووجدانياً الى الواقع . وترسم الابعاد الحقيقية للمواطنة المتفانية بحب الوطن والانتماء اليه قلباً وقالباً , بالتعايش الانساني على جناح المحبة والعشق للوطن , بالارتباط العضوي في صيرورة . بين الحب والوطن ( الوطن هو الجسد , والحب هو الروح ) لتجسد قوس قزح للمواطنة الحقة . والدليل دخوله في معترك النضال السياسي وهو مقتبل العمر , وعانى الارهاب والاضطهاد والتنكيل الى حد اقترب منه الموت , وكان على بعد لحظات منه . في وسائل البطش والقمع والتعذيب , لكن هذه الوسائل المدمرة , تزيده عناداً واصراراً وثباتاً , في حب الناس ,والانتماء روحياً الى طبقة البسطاء والكادحين , كمناضل يساري , وهي تهمة قد تقوده الى المجهول في حياته ,بالقول من شاهد عيان من احد اصدقائه . قال ( أن الشاعر يحيى السماوي يساري مناضل , ينتمي لطبقة البسطاء والكادحين . عانى الكثير في زمن البعث الفاشي , في أقبية السجون , ليحب الناس أكثر واكثر ) ص121 . لذلك كرس حياته لخدمة الوطن والدفاع عنه , امام ماكنة الارهاب والموت . ولم يتهاون بروحه الوثابة في عشق الوطن والدفاع عنه . في تكريس وترسيخ روح المواطنة المتفانية . فمرة قال له احد الاصدقاء , حين تلقى الخبر , بأن آل الموت للنظام البعثي بأعدامت صهره , فقال له هذا الصديق العربي ( ما الذي يغويك بالعراق , والوضع فيه ينبئ عن أنه سيغدو مستنقعاً ؟ فأجبته : اذا أصبح العراق مستنقعاً . فأنني سأتمنى ان يمسخني الله ضفدعاً , لاعيش فيه ) ص84 . هذه المفاهيم الوطنية والانسانية لحب الوطن , وضاقت به السبل أما آلة الارهاب والبطش . ولم يجد سوى طريقة الى الهجرة والمنفى والغربة والاغتراب . وليزيد قوة وتصميماً ان يكون شعره صوتا مدوياً , للوطن والناس والسماوة , التي يطلق عليها ( السماء التاسعة ) , وحياته في المهجر والغربة , تحولت ان يكون صوتاً شعرياً , مرتبط بروح الوطن وعذاباته . للناس ومعاناتهم . ان يكون صوتاً شعرياً ناطقاً بأسم الوطن , جسدها في دواوينه الشعرية الكثيرة . بالدفاع عن محنة الوطن الذي اصبح يعني الموت والاذلال والرعب . يعاني من الحروب العبثية المهلكة . يعاني شقاء وقسوة الجوع والضياع . ليكتوي بنار هذه المعاناة ( اذ عاش السواد الاعظم من شعب العراق , سنوات عجافاً بلا أمل . بعد أن جعلتهم السياسات الحكومية الهوجاء , في مواجهة قاسية مع الفقر مدقع , وجوع ومرض أطال أمده . حتى اصبح مزمناً , وادهى من ذلك أن ثروات البلاد لاينعم بها أهلها ) ص211 . ويستمر الحال الى الاسوأ بمجيء المحتل الامريكي , ليدنس ارض وتربة العراق . ويمزق خيمة الوطن , يمزقها الى خيمات مبعثرة وممزقة ومميزة لكل حزب وطائفة . ويضع شراذمه . ان يحكموا العراق , ويقسموه الى منطقة صفراء , تعيش جحيم الحياة . ومنطقة خضراء تعيش النعيم والرفاه والرخاء . هذا الوضع الجديد المتسم بالفوضى والظلم . اعطائه الوزن والقيمة الوطنية والانسانية . ان يجهر بصوته الشعري المدوي , عاقداً العزم على مواصلة المقاومة والتحدي . حتى ان يستقر العراق ويكون منطقة واحدة خضراء لكل العراق ( حين يصبح الوطن كله منطقة خضراء , حتى يعم الامان لكل العراق وليس المنطقة الخضراء وحدها . حين نرى اللصوص الجدد في قفص المحاكمة ) ص227 . ويبقى على الدوام صوتاً شعرياً وطنياً وانسانياً , بالحلم والامل للعراق وكل العراق .
موهبة الشاعر الشعرية :
ان بواكير الموهبة الشعرية ظهرت منذ الصغر , وهو في الدراسة الابتدائية. اذ تسنى له الاطلاع والقراءة على الكتب الشعرية والادبية بما هو متوفر من مكتبة العائلة , ثم تطورت موهبته الشعرية , في نظم القصائد , وتبلورت اكثر هو طالب في المدرسة الثانوية , وتوجت في اصدار ديوانه الشعري الاول ( عيناك دنيا ) عام 1970 , وتبعها اصدار الديوان الثاني , وهو في اول سنته في كلية الادب في الجامعة المستنصرية ( قصائد زمن السبي والبكاء ) عام 1971 . واصبحت موهبته الشعرية الناضجة , تحظى بالاهتمام . ويشارك في مهرجانات الشعر , ويحصد جوائزها . ويلفت أنتباه اساتذة النقد الكبار اليه , ومنهم الاستاذ العلامة الراحل ( علي جواد الطاهر ) . استاذ النقد الحديث , الذي زف َ البشرى , بمولد شاعر واعد بالموهبة المتألقة ( وهو الطالب يحيى عباس السماوي ) ويصعد في سلم المجد الشعري . وبعد سنوات طويلة من التألق الشعري , ويصرح استاذ النقد الكبير ( عبدالرضا علي ) بقوله ( يحيى السماوي شاعر كبير جداً . ومن يريد ان يتعلم تذوق الشعر , والوقوف على صناعة الخيال , واقتناص متعة الرؤيا الخلاقة , والاطلاع على النسيج المثير في الاداء والتوصيل ومعرفة ماهية السهل الممتنع , عليه ان يقرأ شعر السماوي , فهذا الشاعر واحد من الذين يعجنون اللغة عجناً , فيصوغ منها ما يشاء من الجمان , ويقدمه للمتلقي على طبق من ماس ) ص174 . وفي قدرته الفائقة على توظيف واستغلال الموروثات . وربطها بالواقع الراهن . ان الغربة والاغتراب اعطته الزخم الكبير , في تمرس عطائه الشعري الخلاق , في توظيفه لحاجات الواقع والانسان والوطن , ان يجعل الحلم والامل , حقيقة واقعية يبني عليها الامال . ان بناء النص الشعري شهد تطورات وتحولات نوعية في منجز الشعري للسماوي الكبير , فتح آفاق لا محدودة للقصيدة العربية ( أن العطاء الشعري للسماوي الكبير , يستمر بتوهجه المضيء , والمشبع بالدهشة والابهار , ويظل صياداً متمرساً في حقل الجمال الشعري . في اصطياد المفردات اللغوية لاجل اضافتها الى قاموسه العشقي , بعدما يدخلها في مختبر الولادة والانبعاث , ليبث فيها روحاً جديدة من ديناميكية الابداع , بغية جعلها مشحونة بالطاقة والقوة والقدرة , في الاداء والتعبير , نابضة بفاعالية الخلق والحركة الايحائية والرمز الدال , والفعل التعبيري المدهش , هذه سمة الابتكارات الخلاقة , التي تعد أعمدة أساسية في بناء الاسلوبية الشعرية الحديثة , التي يتميز بها السماوي . وجعلته يتربع على قمة الشعر الابداعي الحديث بشكل مرموق. فالسماوي يحمل صفة النحات والرسام والعالم اللغوي , والمتمكن في البراعة الشعرية والمتخيل الشعري , بآفاقه الواسعة التي ليس لها حدود … ان الخلق الجديد للمفردات التي دس فيها الروح النابضة في الانبعاث الجديد . تملك القدرة الابداعية على اعطاء وهج تعبيري جديد وخلاق . فالسماوي لديه القدرة الهائلة في جعل المفردات اللغوية واللفظية , عجينة لينة سهلة الانقياد والانصياع والمطاوعة . ) ص124 . لذا أن لغته الشعرية , تمتلك الحلاوة والطراوة ,( لاجل ان يشكل فيها مفردات تعبيرية غير مطروقة ومألوفة في القصائد الشعرية , التي تملك قوة التأثير في الواقع المحفز بالاثارة والاستفزاز , في سبيل ايقاظ الحواس المحسوسة وغير المحسوسة , بجرسها الرنان في آذن الذات العامة . اذ ان هذه المفردات بثوبها الجديد , تملك الدهشة الباهرة في الصدى الرنان , مثل المفردات العشقية التي ادخلها لاول مرة في الرؤى الشعرية , كمفردة ( صوفائيل ) حكيم العشق . كمفردة ( عشقائيل ) وحي العشق , في مملكة الحلمية للعشق , واستخدامها في توظيف جمالي غير مسبوق في القصيدة الشعرية ) ص125 . لذلك ربط الحلم بالجمال بالامل , لكي يشعر بكامل حريته في القصيدة ( وجدت نفسي في الشعر . فالشعر هو المرض الوحيد , الذي أسأل الله في مساعدتي , كي لا أشفى منه , ولسبب جوهري , هو أنني امارس حريتي إلا على الورق , لانه المنديل الوحيد القادر على تمسيد جرحي ومسح دموع قلبي ) ص314 .
هذا هو السماوي الكبير , عسل الشعر الاصيل . وأصبح مزار لطلاب الدراسات العليا , والبحوث العلمية والادبية , فطلاب الدراسات العليا , الماجستير والدكتوراه , يتهافتون على دراسة تجربته الشعرية العملاقة .
واعتقد ان كتاب ( مرافئ في ذاكرة يحيى السماوي ) يلبي الطلب . كمرجع ومصدر مهم لاغنى عنه , يلم بتجربة السماوي .
ولابد من الاشارة المهمة : المقدمة الرائعة التي قدمها استاذ النقد الكبير ( حسين سرمك ) في صدر الكتاب . اعتقد أنها أنموذج الدراسة والنقد الموضوعي الرصين , الهادف الى الحقيقة .
الكتاب : مرافئ في ذاكرة يحيى السماوي
المؤلف : لطيف عبد سالم
الطبعة الاولى : عام 2019
تصميم الغلاف : أمينة صلاح الدين
الاصدار والطبع : دار تموز / ديموزي . طباعة . نشر وتوزيع / دمشق
عدد صفحات الكتاب : 320 صفحة
جمعة عبدالله