قابلية المرء لتحقيق الأمور الصعبة مرهونة بإدراكه السليم. وما الإنجازات العلمية الهائلة، منذ القديم وإلى عصرنا الحالي، سوى نتيجة لذلك الإدراك الذي امتاز بها على مر العصور شخصيات من بين المجتمع؛ والذي كان منشؤه أمرين أساسين: أولهما مثابرة المرء على ما أدركه أنه ممكن التحقيق. وثانيهما من ولد ومعه هذه الإمكانية، وكان الأخير أقل من الأول نسبة بين البشر، علماً إن كليهما انتقلا بالبشرية إلى العصور المزدهرة في شتى المجالات.
فنحن الشعب الكردي من بين معظم شعوب العالم، نعاني من التجزئة المهلكة والمعرفة القليلة والإحاطة الشحة بسبب مخططات المقتسمين المطبقة علينا، تجعلنا دوما في المؤخرة، فتغيب عنا سبل الانعتاق المطلوب منا. فلو أنه ظفرنا بنصيب كاف من الوعي الصحيح؛ لاستطعنا نيل ما نصبو إليه من تحرر. ولكن الواقع السائد يبدي أننا نحن الكرد نفتقر كثيرا إلى تنمية هذه الخاصية، وقليلا ما ننحو نحو المجازفة العقلانية في تطبيق ما نراه مفيدا. إذا حاولنا تحقيق المطلوب على أرض الواقع، كثيرا ما يصادفنا الارتباك، وتخوننا الثقة بالنفس. ومختصر الكلام، أننا في الغالب، نفتقر إلى جرأة القوي حين يكون إدراكنا سليما في أمر ما، بالأخص في مجال التحرر.
ولا شك، لدينا طاقات كامنة، عموما لا ندركها؛ وإن أدركناها ستخوننا الاستفادة منها. والدليل على طاقاتنا الهائلة، يتجلى ذلك عندما نخرج من محيطنا الكردي وندخل رحابة المعرفة في وسط غير وسطنا، سرعان ما نتأقلم معه، وتنفرج مداركنا في الإبداع في عالمنا الجديد ونبدع في أمور عديدة، ويذاع صيتنا…
كما يقال: “أن لكل قاعدة شواذ” وبخلاف ما مر معنا أعلاه، هناك مَن من جرب إدراكه هذا في ظل الحظر والمنع، فكانت نتائجه الناجحة دليل على أن الإدراك السليم هو من يقودنا إلى الانعتاق، وأيضا دليل على طاقتنا الكامنة حقا.
كي لا نطيل في المقدمات نتحول إلى المضمون، الذي نحن بصدده، وفي بيئة متواضعة، وشخص متواضع جازف بما وجده مستحقا للمجازفة مستخدما بطريقة سليمة معرفته المتواضعة في تحقيق ما خطط له.
صاحبنا هذا تعين وكيل معلم للمرحلة الابتدائية في قريته وقرر أن يحقق عمليا ما يجول في خلده، وكان له ما أراد، ويشهد على ذلك تلاميذه في تلك المرحلة وبالشكر والامتنان، وليس التلاميذ وحدهم بل ومعهم آباؤهم.
تعين (أحمد صابر عباس) وكيل معلم في قريته )نصران( في الأعوام 1971-1973م. حينها كان البعث يشدد وبقوة الخناق على الكردية في شكلها العام والخاص، بالرغم من ذلك باشر بتنفيذ ما رتبه في مخيلته، قبل أن يكون معلما لتلاميذ من الكرد أينما كان؛ مصمما على إحساسهم بالقضية الكردية بما يلائم مستواهم العقلي، قاصدا من وراء ذلك تنمية المشاعر القومية في خلية صغيرة من المجتمع الكردي في هذا الجزء الملحق بما يعرف بسوريا.
وبتنفيذ قرراه على التلاميذ درسٌ لنا جميعا؛ لإعادة الثقة بالنفس وتهذيب إدراكنا من الشوائب. فكيف بدأ هذا وكيل المعلم بتطبيق فكرته تلك؟
بدأ أولا بالتحدث لهم عن السرية ومدى أهميتها في تحقيق الأمور المحظورة، كما بين مساوئ الإجهار بها ومخاطره على صاحبها. وفي الفترة المخصصة لها من قبله كان كل حديثه عن هذا المجال ومدى أهميته يأخذ بعدا واسعا من أجل ترسيخها في نفوسهم بشكل لن تتلاشى دعائمها. بعد أن تيقن منها انتقل إلى الحديث عن الكرد وما عليهم من بعض المحظورات، وأن ما يدعو إلى حظرها هو أن ما يمتلكونه الآن سوف ينتقل إلى قوم آخر غيرهم، أي أنهم سيُستبدلون بأناس آخرين كمالكين لممتلكاتهم الحالية، ومن بعد أن جسد هذا في مخيلة تلاميذه باشر إلى القول إنه على الكردي أن يكون يقظا وفطنا من أجل أن يمنع استبدالهم بالغير. إلى هذه المرحلة لم يكن الأمر بتلك الخطورة، كأن يظن التلميذ لماذا سيستبدل بغيره، وهذه الأرض تملكها أبا عن جد… وما تلت هذه المرحلة كانت أخطر من ذي قبل، فبدأ يشرح لهم أن للكرد تاريخ عريق حكموا فيه من البحر إلى البحر، ولكن نتيجة غزوات الأعداء وابتعاد قادتهم عن سنن العمل من أجل البقاء ضاع حكمهم وتلاشى ملكهم. جعل التلاميذ يستقرئون ما جرى ويستنبطون منها نواقص أسلافهم، في هذه المرحلة تبين لهم مخاطر الإهمال وعدم تلافي النواقص في الذات.
حين انتهى من هذه الفترة صار يفطنهم إلى تهذيب الذات نحو تلافي هذه الفاقة. مضى فترة أكبر في التركيز عليها، ومن ثم بادر إلى إلقاء بما يشبه المحاضرات أو الدروس في الجغرافية والتاريخ الكردي، وكان يحدثهم عن أبطال الكرد وأمجادهم، ومآثرهم، فخلق لديهم رغبة في أن يكونوا مثل أبطالهم، وأن يصبحوا خلية تفكر بالأسلوب العلمي من أجل الصمود في وجه الاستبدال. فحفظهم نشيد أي رقيب جنبا إلى جنب تعليمهم القراءة والكتابة باللغة الكردية، وكذلك حاول أن يدربهم على بعض فنون الدفاع عن النفس وغيره. استطاع وبدقة رائعة أن يضبط تلاميذه عندما يدخل هو الصف أن يبدأوا بأي رقيب، أما إذا صادف أن زارهم على حين غرة مفتش التربية أو أحد المسؤولين الحكوميين أن يستقبلوه بنشيد حماة الديار بعد إخفائهم دفاترهم في تعليم اللغة الكردية. وصادف أن تكرر زيارة المفتشين من التربية وبعض المسؤولين الحكوميين مدرستهم، ويا للروعة! كيف استطاع هؤلاء التلاميذ إخفاء دفاترهم لتعليم الكردية، واستبدلوها بغيرها، لتوخي هذا الحذر كلف بعض التلاميذ أثناء تلك الدروس الممنوعة مراقبة الطريق الذي تأتي من جهتها سيارات المفتشين والمسؤولين. هذا نموذج بسيط عن كردي أراد أن يوثق الأمور قبل المباشرة بها. لم تقف جهوده عند تعليم التلاميذ الكردية، بل طال سكان القرية، مبديا لهم ما يترتب عليهم إن أرادوا المحافظة على وجودهم ككرد. وأفلح في هذا أيضا بأسلوب اختلف عما جربه على التلاميذ، وإن تشابها في العموميات، فحظي لدى أهالي قريته بالاحترام الكبير والتقدير اللائق…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
24/6/2019م