النظم الدكتاتورية ومثقفو العراق
يقضــي الإنســـان سنواتـه الأولـى فـي تعلم النطـــق،
وتقضي الأنظمة العربية بقية عمره في تعليمه الصمت!”
أحلام مستغانمي
كاتبة وشاعرة جزائرية
كثافة الموضوعات التي تضمنها كتاب الدكتور فالح مهدي “مقالة في السفالة: نقد الحاضر العراقي“، وكثرة الإشكاليات السياسية والاجتماعية والثقافية التي عالجها فيه، تفتح شهية القارئ والقارئة للمداخلة والتعليق وتبيان وجهة نظر مؤيدة أو مخالفة لهذه المسألة أو تلك. لكن سيجد الإنسان ما يتعلم منه ويستفيد. وقد اطلعت على قراءة نقدية جدية وجيدة ومهمة للسيد الدكتور جواد بشارة حول كتاب د. فالح مهدي تحت عنوان “ قراءة في كتاب الدكتور فالح مهدي – مقالة في السفالة نقد الحاضر العراقي“، المنشورة في الحوار المتمدن بعدده 6125 بتاريخ 25/01/2019. هذه الحلقة ستكون الأخيرة في سلسلة الحلقات التي أنجزتها والتي لم تستطع تغطية كل المقالات بالتعليق والملاحظة النقدية، الإيجابية منها والسلبية، الواردة في هذا الكتاب المهم.
من يلقي نظرة فاحصة على مسيرة الدول العربية، كلها دون استثناء، وعلى امتداد المئة عام المنصرمة، دع عنك فترة الانحطاط العثمانية، سيجد نفسه أمام ما يمكن أن يطلق عليه بسلسلة متواصلة من المآسي والكوارث الإنسانية والمهازل البشرية التي عاشت وماتزال تعيش تحت وطأتها شعوب الدول العربية بقومياتهم العديدة وأتباع دياناتهم ومذاهبهم الدينية والفكرية او الفلسفية كلها دون استثناء من جهة، والمعاناة القاسية والشرسة والمدمرة لمواهب وكفاءات وقدرات فئات الشعب عموماً والمثقفة والكفاءات العالية لبنات وأبناء هذه الشعوب المستباحة بشكل خاص من قبل نظم غير ديمقراطية واستبدادية ودكتاتورية مطلقة أو توتاليتارية مرعبة، من قبل حكام سقطوا في مستنقع العفونة وسعوا ومازالوا يسعون إلى جر شعوبهم أو إبقاءها في المستنقع الذي هم فيه. ويحتاج أي باحث إلى عشرات بل مئات الكتب ليضع أمام العالم ما جرى ويجري لهذه الشعوب من قبل حكام جلهم من السفلة الأوباش، ونماذج منهم ماتزال تحكم هذه البلدان. ولهذا سأركز في هذه الحلقة على ما ورد في كتاب الدكتور فالح مهدي عن العراق.
لم يتعرف الشعب العراقي على مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية في حياته اليومية عبر القرون والعقود المنصرمة، ولكن جزءاً مهماً وكبيراً من المثقفين والمتعلمين فيه تسنى لهم التعرف على هذه المبادئ وتعلقوا بها وناضلوا من أجلها. ولم يكن عدم التعرف على هذه المبادئ نتيجة عجز في الناس أو إهمال منهم، بل هي حالة ارتبطت بطبيعة الدولة التي ولدوا فيها وعاشوا في ظلها وتحت وطأة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي أقيم فيها ونشأ عنها. ورغم أن المتنورين من الشعب قد نهضوا عدة مرات وانتفضوا وسعوا لكسب شعوبهم إلى جانبهم لتحقيق تلك المبادئ، فأنهم لم يوفقوا كثيراً في الوصول إلى ما سعوا إليه، بل كان الفشل هو حليفهم المستمر. وسبب ذلك يكمن في كونهم لم يستطيعوا تغيير واقع الاقتصاد العراقي وطبيعة العلاقات الإنتاجية السائدة فيه ومستوى تطور القوى المنتجة في ظل تلك العلاقات، وبالتالي كانت تلك العلاقات تعيد إنتاج نفسها وتتحكم بوعي الفرد وغالبية المجتمع. أي إنها كانت تعيد إنتاج العلاقات الإنتاجية البالية ذاتها، تلك التي تساهم في إبقاء الوعي ذاته على حاله دون تغيير كبير، والتغيير الحاصل كان جزئياً ومحدوداً.
فقد شهد المجتمع العراقي في العقود الأخيرة ردة فكرية واجتماعية وثقافية وسياسية عميقة وشاملة ومريرة، تسنى فيها لفئات اجتماعية رثة فكراً وسياسة وممارسة القفز على السلطة وتدمير الدولة وتعذيب من يعيش فيها بشتى السبل. في ظل هذه الأوضاع لعبت الدولة الهشة والعليلة، وماتزال تلعب، دوراً مركزياً ومحورياً في إبقاء تلك العلاقات المتخلفة وتنشط دورها في إعاقة أي تغيير منشود نحو التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وتعرقل حركة المجتمع وقدرته صوب تغيير موازين القوى لصالح التغيير الحر والديمقراطي المنشود. هذا هو حال العراق منذ عقود وحتى الآن. كتب الدكتور فالح مهدي: “لقد أتت الانقلابات في البلدان التي يطلق عليها “تقدمية” بأسفل الناس وأكثرهم غباءً، وأصبح شعار “كل شيء من أجل المعركة” إلى “كل شيء من أجل البقاء في الحكم”! لذا وجدت تلك الأنظمة “الوطنية” إن أهم شروط ديمومة الحكم يتمثل في إخصاء المواطن وتحويله إلى إمعة وتابع أو موضوعاً هامداً همه الأول البقاء على قيد الحياة. التجربة البعثية السوداء في العراق (1968-2003) تقدم لنا صورة دقيقة عن عملية الإخصاء تلك، فقد اجتمعت مجموعة من الشروط سمحت بانزلاق تلك السلطة إلى قعر الدونية.” (مهدي، الكتاب، ص 222).
لم يستطع الشعب العراقي على امتداد ما يقرب من قرن كامل تقريباً (1921-2019) التخلص من الطابع الريعي للاقتصاد الوطني ومن نشوء وتطور دولة ريعية نفطية غير ديمقراطية، ومن ثم في مراحل لاحقة، استبدادية وتوتاليتارية شوفينية أو مستبدة تحت غطاء ديني ومذهبي، كما هو حال العراق الآن. إذ امتلكت الدولة العراقية، وماتزال، سلاحين مهمين هما: المال المتأتي من إنتاج وتصدير النفط الخام أولاً، واحتكار العنف والقوة في ممارسة سلطات الدولة الثلاث ثانياً. وقد استخدمت هذين السلاحين على امتداد الفترات السابقة بأساليب وأدوات متنوعة، ولكن الحصيلة كانت وما تزال واحدة، فمن لا يخضع لها بالمال ومن لم تشده إليها بالتبعية المالية والبقاء على قيد الحياة، وجهت وماتزال توجه له سلاح الدولة الآخر، استخدام القوة والعنف بطرق وأساليب شتى. وتركز هذا التعامل بشكل خاص مع مثقفي العراق أولاً، ومع مثقفي الدول العربية، بل ومع مثقفين في دول أسيوية وأفريقية وأوروبية، بل وصل الأمر إلى حد إرشاء حكومات، كما فعل مع حكومتي اسبانيا وفرنسا في فترات معينة، بأمل كسبهم إلى جانب نظام البعث والدفاع عنه والتحريض ضد من لا يقف معه. وهنا كان النظام العراقي البعثي يمارس ما سميّ بـ “مكرمات الرئيس القائد“. لقد اعتبر صدام حسين خزينة الدولة العراقية خزينته الخاصة وله الحق في التصرف بها كما يشاء وليس من حق أحد محاسبته عليها. ومن يجرأ على قول كلمة بهذا الصدد، يمكن أن يصاب برصاصة من كاتم صوت ويجده الناس مرميا على قارعة الطريق في بغداد أو في غيرها من مدن العراق. فلم يطبق صدام حسين الحملة الإيمانية لإخضاع العراقيين والعراقيات لإرادته فحسب، بل وتصرف بالمال العام كما كان يتصرف به معاوية بن أبي سفيان أو أبو جعفر المنصور. فالأول قال حين خطب في الجامع: “إنما المال مالنا والفيء فيؤنا فمن شئنا أعطيناه ومن شئنا منعناه” (راجع أميل توما: الحركات الاجتماعية في الإسلام. دار الفارابي. بيروت. 1981. ص 58. راجع ايضاً: أمين، أحمد. فجر الإسلام. لجنة التأليف والنشر والترجمة. القاهرة. 1964. ص 258/259). والثاني أبو جعفر المنصور إذ وقف يوم عرفة خطيبا حدد فيه برنامجه السياسي فقال: “أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته، وإرادته وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلا، إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني“. (راجع: إمام عبد الفتاح إمام: الطاغية– دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي، سلسلة عالم المعرفة رقم 183، الكويت 1994، ص 219).
تحت عنوان المثقف العاهر كتب الدكتور فالح مهدي يقول: “إن أحد أسباب الدمار الذي حل لا في العراق فحسب، بل في كل بلدان العالم الريعية، لاسيما الناطقة باللغة العربية، وجود هذا العدد الكبير من المثقفين الذين يبيعون أنفسهم بأسعار زهيدة“. ويواصل قوله: المثقف يفترض أن يكون صاحب ضمير ويساهم عبر ثقافته وعمله في الكشف عما يراد له أن يكون طي الكتمان، أو نقد ما ينبغي نقده“. (الكتاب، ص 252). الأساس في المسألة هو استعداد الإنسان لبيع نفسه، أما السعر، فسواء أكان بخساً أم عالياً، فلا يغير من حقيقة دوس البائع على ضميره ومصالح شعبه. والمشكلة الثانية هنا علينا أن نتحدث عن الجلاد الذي يجبر جمهرة من المثقفين على بيع ضمائرهم ليس بالمال وحده أو المنصب، بل بالعصا الغليظة، بجعلهم يرون الموت بأم عيونهم أو الاعتداء على شرف عائلاتهم. هذا ما حصل في زمن النظام البعثي وأعرف حوادث كثيرة حصل هذا مع مثقفين لا أريد أن أبرر لهم فعلتهم، بل لأشير إلى إننا يفترض ان نركز في شجبنا وإدانتنا على الجلاد، الحاكم الفاسق والفاسد والظالم.
ولكن ماذا يجري في الدولة الطائفية المحاصصية في العراق؟ كل المعطيات التي تحت تصرفنا تشير إلى إن حكام الدولة الطائفية الجديدة قد فاقوا حكام الإمبراطوريات “الإسلامية” الثلاث (الأموية والعباسية والعثمانية) ودولة البعث التوتاليتارية في نهب أموال الدولة وحجم النهب والسلب أولاً، وتجاوزا في مكرماتهم لأنفسهم ولغيرهم ممن يريدون بها شراء ذمم الناس وكرامتهم. فهم يتصرفون باعتبارهم أولياء الله في أرضه، يتقاسمون مع أغلب شيوخ الدين من الشيعة والسنة أموال الشعب ويترحمون على الشعب ويتمنون له حياة رائعة يوم الآخرة تعوض له عن حياة العذاب والفقر والفاقة في حياته الراهنة. أنها المأساة والمهزلة في آن واحد. لكي يتستروا على أوضاعهم يقومون ببناء المزيد من الجوامع والمساجد ويوزعون بعض المكرمات أو يمارسون اللطم والبكاء والعويل مع الاطمين على “أهل البيت” والمصيبة التي حلت قبل مئات السنين بالشهيد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وصحبه الكرام. وبصدد هؤلاء الفساق والدجالين يشير الدكتور فالح مهدي بصواب كبير إلى ما يلي: “من يبني قصوراً ومساجدَ على ذلك النحو المفرط، بعيد عن حب الله بل هو الأكثر فسقاً وكفراً” (الكتاب، ص 214). وإذ يتحدث هنا عن صدام ورهطه، لم ينس من يسرق المليارات من الدولارات الأمريكية من خزينة الدولة العراقية ويضعها في حساباته في البنوك الأجنبية ويشتري القصور في الداخل والخارج، والأمثلة كثيرة ترد هنا من النخبة الحاكمة ومن أعضاء قياديين بارزين في الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة. وهنا يشير الدكتور فالح مهدي إلى مفهوم المال السائب فيكتب” على ضوء هذا المبدأ الفقهي، تم نهب موارد الدولة. من جاء إلى السلطة ليس له علاقة بثقافة الدولة وكيفية إدارتها. ثم يمثلون الرثاثة بعينها … صدام حسين حكم باسم “الأمة العربية“، إنما لم يتمكن ذلك الشعار من إخفاء حكم العشيرة والعائلة، هم استلموا السلطة على طبق أمريكي من ذهب وحكموا بشعار “المظلومية” الشيعية، علماً إن عهد التشيع في العراق قريب العهد، فقدموا مفهوم الطائفة، بدل الوطن، والمسيرات المليونية بدلاً من نشر الثقافة والتعليم“. (الكتاب، ص 289).
من يتابع مواقف المثقفين في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة يستطيع القول بأنهم انقسموا إلى فصيلين، فصيل مع السلطة، وفصيل معارضٌ لها. وهذا الانقسام في صفوف المثقفين يرتبط بعوامل كثيرة لست في معرض البحث فيها، ولكن الثابت حتى الآن أن الكثير من مثقفي السلطة يعتمدون أساليب السلطة ذاتها لإقناع أو إخضاع المثقفين المعارضين للسلطة ليكونوا في صف السلطة غير الديمقراطية والمستبدة، بل ويساهمون في التآمر على المثقفين المعارضين للتخلص منهم. حصل هذا في العهد المظلم في فترة حكم صدام حسين، كما حصل في استشهاد المناضل المدني والمثقف العضوي الشيوعي كامل عبد الله شياع، وهادي المهدي على سبيل المثال لا الحصر في هذا العهد المظلم، عهد الحكم الطائفي المحاصصي الفاسد والمهين للشعب كله.
لقد أصدر صدام حسين قائمة تتضمن 1000 اسم من مثقفي العراق، وكان شخصي المتواضع من بينهم، منع تداول كتبهم وسحبها من المكتبات وأحرقها، كما فعل الهتلريون النازيون بحرق كتب كبار المثقفين الألمان وغير الألمان التي وجدت في دور الكتب الألمانية. لقد تسبب صدام حسين ونظامه بموت أو القتل المباشر لعدد كبير من مثقفي العراق، نذكر منهم الدكتور الطبيب خليل جميل الجواد، والدكتور محمد سلمان حسن، والدكتور محمد صالح سميسم، والدكتور صفاء الحافظ، والدكتور صباح الدرة، وعائدة ياسين وعزيز السيد جاسم، بل والعديد من مثقفي السلطة.
إن النظام السياسي الطائفي المحاصصي القائم حالياً في العراق يعتبر نظاماً معادياً للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان أولاً، ويعتبر معادياً فعلياً للثقافة الديمقراطية والتقدمية وللمثقفات والمثقفين الديمقراطيين والحياة الديمقراطية ثانياً. ويسعى المتحكمون به بممارسة كل السبل لنشر ثقافتهم الخاوية والبكائية، ويحرمون المؤسسات والمنظمات المدنية الديمقراطية من إمكانية التقدم والتطور من خلال حبس أموال الدولة عنها وعن دعم نشاطاتها الفكرية والثقافية العامة وفي مختلف مجالات الثقافة والفنون الإبداعية. إنهم يريدون دولة رثة بثقافة وحياة رثة لا تختلف عن رثاثة فكرهم وضحالته وخواء وجدب الحياة الثقافية في عهدهم.
إن كتاب مقالة في السفالة يكشف عورات النظام البعثي من جهة، والنظام السياسي الطائفي من جهة أخرى، ويعري القاعدة أو الأرضية الفكرية التي يستندون إليها ويعتمدونها، إنه الفكر الدائري المغلق الناشئ عن عقل دائري مغلق، والذي يعتبر السبب المباشر، وليس الوحيد، وراء واقع العراق المظلم والمعلول، كما أشار بصواب الكاتب والصحفي المتميز توفيق التميمي في تعليقه على هذا الكتاب. والكاتب يدرك إن هذا العقل الدائري المغلق لا مستقبل له في عالم الحضارة الحديثة، وبالتالي يراهن بصواب على الإنسان العراقي المتحرر من سجن العقل الدائري المغلق، المثقف الواعي والمتمسك بثقافة ديمقراطية ورؤية عقلانية واقعية لمستقبل العراق والعامل من أجل ذلك.
انتهت الحلقة العشرون وتليها الحلقة الحادية والعشرون
08/06/2019