1840-1893
موسكو – عبدالله حبه
في 17-29 حزيران 2019 جرت الدورة السادسة عشرة لمسابقة تشايكوفسكي الدولية. وأقيم في اليوم الأخير الإحتفال بمنح الجوائز للفائزين في قاعة باشكوف التاريخية بموسكو . وقد وردت الطلبات للمشاركة في المسابقة من 954 شخصا من 50 بلدا، وإختارت لجنة التحكيم 231 عازفا ومغنيا . ونذكر من بين النجوم الذين فازوا في المسابقات في الأعوام الماضية عازفو البيانو فان كليبرن الأمريكي الفائز الأول في أول مسابقة ( وتقام الآن مسابقة في الولايات المتحدة بإسمه) وجون اوجدن وبيتر دونوهو البريطانيين، اللذين يتمتعان بشهرة في الأوساط الموسيقية الأوروبية، واليابانية اياكو اوهارا، والروس بليتنيوف وماتسويف وبيريزوفسكي وغيرهم من الذين أصبحوا من كبار العازفين في العالم. وفي المسابقة الحالية فاز بالجائزةالأولى عازف البيانو الفرنسي الكسندر كانتوروف وعازف الكمان الروسي سيرغي دوغادين وعازف الفيولونسيل الأمريكي زلاتو ميرغانغ ومغنية الأوبرا الروسية ماريا باركوفا ومغني الأوبرا اليوناني الكسندروس ستافراكاكيس بالأضافة الىالمشاركين في مسابقة الآلات الموسيقية النحاسية والخشبية. وأقيم الحفل الختامي للفائزين في قاعة “زارياديه” الجديدة التي بنيت في عام 2018 بالقرب من الكرملين بإشراف المهندس الياباني تويوتا المختص بهندسة توزيع الأصوات، وشيدت القاعة في موقع فندق “روسيا” الشهير الذي تم تهديمه وتحويله الى متنزه ثقافي الإتجاه.
إن هذه المسابقة الكبرى تجعل من المناسب الحديث أيضا عن موسيقى تشايكوفسكي وتأثيرها في الثقافة الموسيقية العالمية.
لقد بدأت أول مسابقة تحمل إسم الموسيقار الروسي العظيم في 18 آذار عام 1958، وآنذاك وقف أعضاء لجنة التحكيم أمام نصب تشياكوفسكي القائم عند مدخل مبنى كونسرفتوار موسكو في شارع بولشايا نكيتيسكايا، وأعلنوا أن المسابقة ستقام مرةفي كل أربعة أعوام في موسكو وسانكت – بطرسبورغ. علما أن إبداع تشايكوفسكي إرتبط بوشائج متينة مع العاصمة الروسية الإمبراطورية والعاصمة القديمة على حد سواء، حيث بدأ حياته الدراسية منذ سن الطفولة في بطرسبورغ التي تعلم فيها في المدرسة الأرثوذكسية ومن ثم في المدرسة الموسيقية العمومية. وإلتحق جايكوفسكي فيما بعد بالكونسرفتوار الذي إفتتحه انطون روبنشتين . وبعد التخرج إنتقل الى موسكو ، وعين فيها بصفة بروفيسور.
إن موسيقى تشايكوفسكي ذات الطابع الروسي الأصيل تحظى حتى اليوم بإهتمام كافة الفرق الموسيقية العالمية، لأنها مزيج من تراث الغناء الشعبي الروسي ومنجزات الموسيقى الأوروبية. وتكمن أهمية المسابقة في أن موسيقى تشايكوفسكي بحد ذاتهاذات مكانة خاصة في الثقافة الموسيقية العالمية، حيث إنها مهدت الطريق لحركة الحداثة التي أصبح من روادها تانييف وسترافينسكي وبروكوفييف وشوستاكوفتش. لكن تشايكوفوسكي لم ينضم الى الجماعة الموسيقية ” الزمرة الجبارة”(ماغوتشسكايا كوتشكا) التي تشكلت في عام 1850 وضمت كبار الموسيقيين الرواد الروس منهم العازف الفذ بالاكيريف والطبيب بورودين وضابط البحرية ريمسكي- كورساكوف وضابط الخيالة موسورغسكي، الذين ركزوا على تطوير الموسيقىالشعبية الروسية ذات الطابع القومي ورفعها الى ذرى الموسيقى الكلاسيكية العالمية. لقد قرر تشايكوفسكي المضي في دربه الخاص وإنجذب الى أنطون روبنشتين نجم الموسيقى في بطرسبورغ آنذاك ومؤسس أول كونسرفتوار في روسيا التي تعلمفيها تشايكوفسكي. لكن سرعان ما تبين إن نطاق معارف روبنشتين الموسيقية التي لا تعرف الحدود كانت تتعارض مع قيود واجباته كأستاذ محافظ يعلم طلابه. ولهذا رفض بشدة المقدمة الموسيقية التي ألفها تشايكوفسكي بعنوان “العاصفة الرعدية”وإستخدم فيها الآلات الموسيقية المحظورة في التأليف لدى طلاب الكونسرفتوار مثل القيثارة (آرفا) والبوق الانكليزي والنفير والطبل الكبير والأطباق. وكاد أنطون رونشتين أن يحرم تشايكوفسكي من دبلوم التخرج لهذا السبب، لكنه أعطاه رسالة توصية الى شقيقه نقولاي روبنشتين الذي عمل في تأسيس الكونسرفتواربموسكو.
وبدأت مرحلة جديدة في حياة تشايكوفسكي الإبداعية بموسكو التي أصبحت مدينته حيث الكرملين والمباني الروسية الطراز التي تختلف عن مباني بطرسبورغ الأوروبية الطراز. إن موسكو تذكره بتاريخ روسيا وتراثها القومي. وفي الواقع إن موسكو دخلت في حياته بإعتبارها مدينة الخروج عن القواعد المألوفة في التأليف الموسيقي. إنه لم يبدع الكثير في بطرسبورغ وساعد عمله في الكونسرفتوار بموسكوعلى تطوير قدراته كناقد ومؤلف موسيقي وتكوين أسلوبه الخاص وتفتح قدراته الإبداعيةوكسب الثقة بالذات.ويذكر الباحثون كيف وقف تشايكوفسكي ضد نقولاي روبنشتين مدير الكونسرفتوارالذي إعتبر كونشرتو البيانو التي ألفها تشايكوفسكي معقدة وغير مريحة بالنسبة لعازف البيانو. لكن تشايكوفسكي أصر على نشر نوتات الكونشرتوكما هي . وبعد عدة سنوات غير روبنشتين رأيه وعزف الكونشرتو رقم واحد بنفسه والتي حققت نجاحا كبيرا. وآنذاك كتب سيرغي تانييف المؤلف الموسيقي الشاب :” أهنئ الجميع بصدور أول كونشرتو روسي للبيانو من تأليف بيوتر ايلتش”. وعندما ألف تشايكوفسكي موسيقى أوبرا ” يفجيني أونيجين” كتب بتواضعه المألوف :” لا أعرف فيما إذا كنت أؤلف بصورة جيدة أم سيئة ، لكن لا ريب في أنني إنطلق في ذلك من الدافع الداخلي الذي لا يقهر . أنا أتحدث بلغة الموسيقى ، لأنه يوجد لي دائماما أرغب في قوله. وهاجسي الصدق في التعبير..”. ومصداقية تشايكوفسكي جعلت موسيقاه تفيض بالصراحة التي إعتبرها النقاد في زمانه نوعا من التحدي للقواعد الجمالية السائدة آنذاك.وقد جذبت هذه الصراحة ناديجدا فون ميك المرأة الثرية التيأعجبت بموسيقاه وقدمت له الدعم المالي عدة سنوات لمواصلة العمل في التاليف الموسيقي ولو أنه رفض لقاءها طوال الوقت. أن موسيقي تشايكوفسكي تتسم بكونها خالية من التزويق والمنمنمات، شأنها شأن جميع أصناف الإبداع الأدبي والفني في روسيا مثل روايات بوشكين وغوغول وتولستوي ودوستويفسكي وقصص ومسرحيات تشيخوف ولوحات ريبين وسيروف وسوريكوف .إن تشايكوفسكي يلد بموسيقاه الزهور من الصخور.
واصل تشايكوفسكي العمل في موسكو طوال 12 عاما قام خلالها بتأليف السيمفونية الأولى والثانية والفنتازيا السيمفونية” العاصفة” وموسيقى مسرحية الكاتب الكسندر اوستروفسكي “فتاة الثلج” وأوبرا ” اوبريتنشيك” وأوبرا” يفجيني أونيجين”ومقاطع من السيمفونية الرابعة. وأقام الملحن بموسكو علاقات مع الموسيقيين والأدباء والنقاد منها إقامته حفلة موسيقية خاصة تكريما للكاتب الكبير ليف تولستوي تركت تأثيرا قويا في الكاتب.فكتب له رسالة جاء فيها :” أرسل لك ياعزيزي بيوترإيليتش الأغاني الشعبية.إنها كنز عجيب – في يديك.. لكن ، بحق الرب ، تعامل معها وإستخدمها بإسلوب موزارت وهايدن، وليس بالإسلوب المتكلف لبيتهوفن وشومان وبرليوز.كم من الزمن لم أتحدث فيه معك ! وحتى لم أقل ما أردت قوله لك. فلم يتوفرالوقت لذلك. إنني إغتبطت. ولكن زيارتي الأخيرة الى موسكو ستبقى بإعتبارها من أفضل الذكريات. أنا لم أحصل أبدا على مثل هذه المكافآت لقاء أعمالي الأدبية، كما حصلت في تلك الأمسية الموسيقية الرائعة “.
في 25 أكتوبر 1893 توفي تشايكوفسكي في شقة أخيه موديست في بطرسبورغ ، وقبل هذا بعدة أيام في 16 أكتوبر قاد الأوركسترا لدى عزف السيمفونية السادسة التي وصفها الناقد فلاديمير ستاسوف :” إنها ليست سوى صرخة يأس كما لو أن صاحب الألحان يقول :آه ، لماذا عشت في هذه الدنيا!..”. إن جوهر الثقافة العالمية- وليست الثقافة الروسية وحدها – يتركز ضمنا في إبداع تشايكوفسكي الذي ينهل الموسيقيون في القرن 21 الكثير من روائعه من سيمفونيات وباليهات واوبرات .
إنني إذ أرسل نفسي على سجيتها في الحديث عن تشايكوفسكي ومسابقته لابد لي من التوقف عن دور الموسيقى الكلاسيكية في تطوير الثفافة الحديثة في العالم العربي. وجدير بالذكر أن أي أحد من العازفين والمغنين من البلدان العربية لم يشارك كالعادة في هذه المسابقة التي يصبح الفائز فيها من نجوم الموسيقى الكلاسيكية العالمية .بينما شارك هذه المرة ممثلو ايران واسرائيل فقط من منطقة الشرق الأوسط. ويبدو أن هناك إصرارا من قبل المسؤولين على “الوقوف على هامش الحضارة ” ولهذا لا يرسل الطلاب لدراسة الفنون في البلدان ذات الباع الطويل في هذا المضمار. وأذكر أن طلابا درسوا في الستينيات في كونسرفتوار موسكو بينهم الملحن فريد الله ويردي وعازف الفلوت حسام يعقوب وعازف الكمان فكري بشير. وقدم هؤلاء خدمات كبيرة في تعليم الموسيقى في العراق في حينه. ولكن خلال العقود التالية من السنين لم ترسل اية بعثة لدراسة الموسيقى في روسيا التي يأتي إليها الطلاب للدراسة حتى من أمريكا وأوروبا واليابان والصين وغيرها من الأمم الراقية. زد علىذلك إن الحكومة العراقية ترفض أحيانا حتى قبول الزمالات التي تقدمها الحكومة الروسية لتعليم العراقيين وبضمنها في المجالات الإنسانية في المعاهد العالية الروسية . فالمسؤولون العراقيون يرون الموسيقى بدعة مخالفة للدين . وإذا كان حب الوطن من الإيمان فلا بد أن يستند هذا الحب الى الثقافة والمعرفة ومنها الموسيقى . وأملنا أن نجد بين المشاركين في مسابقة تشايكوفسكي القادمة ولو أحد الفنانين العراقيين.
3/7/2019