بعض القضايا الفكرية في الماركسية
طرح الزميل الدكتور فالح مهدي بعض الملاحظات الفكرية المهمة حول بعض المسائل النظرية في الماركسية والتي شُوهت من خلال عرض أو تفسير ستالين أو السوفييت عموماً لها، ثم تبني الأحزاب الشيوعية لتلك الطروحات وترويجها عالمياً. منها على سبيل المثال لا الحصر موضوع المراحل الخمس أو الأنماط الخمسة في العلاقات الإنتاجية التي يشار لها وكأن هناك إلزامية التحول من نمط إلى أخرى في حركة التطور الاجتماعي في كل بلد من بلدان العالم. سأناقش هنا مسألتين هما:
- الأنماط الخمسة في الإنتاج (أساليب الإنتاج)
وبالضد من هذه الموضوعة كتب الدكتور فالح مهدي ما يلي: “… صاغ كارل ماركس مع فريدريك انجلز مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي. ماركس مع قدراته الهائلة، إنما كان واقعاً تحت سحر المركزية الأوربية ومولع بتحقيب تاريخ البشرية إلى خمس مراحل (المشاعية البدائية، الرق، الإقطاع، الرأسمالية وسينتهي بولادة الشيوعية)! هذا التقسيم اعتباطي فليست هناك مرحلة عبودية. العبودية رافقت تاريخ البشرية الاجتماعي والاقتصادي ولم تزل، من المؤكد إن القوانين الحديثة وبدءاً من القرن الثامن ألغت الرق، بيد إن الرق يأخذ ألواناً وأشكالاً كثيرة فهو لا زال حياً يرزق بيننا.” (مهدي، الكتاب، ص 229).
يطرح الدكتور فالح مهدي في هذا المقطع القصير فكرتين: الأولى حول المراحل الخمس في تطور البشرية، والثانية حول نمط الإنتاج الآسيوي. سأحاول مناقشة هاتين المسألتين في هذه الحلقة المستقلة. مع تحفظي على كلمة مولع بتحقيب تاريخ البشرية، لأني أعتقد بأن باحثاً مثل ماركس لا يمكن أن يكون الولع هو المحرك لدراسة تاريخ البشرية والوصول إلى استنتاج مادي تاريخي بهذا العمق بسبب الولع.
في الكراس الذي كتبه وأصدره جوزيف ستالين عام 1928 تحت عنوان “المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية”، جاء فيه بهذا الصدد ما يلي: “.. ان تاريخ تطور المجتمع هو قبل كل شيء تاريخ تطور الإنتاج، تاريخ أساليب الإنتاج التي خلف أحدها الاخر في مجرى القرون، تاريخ تطور قوى الانتاج وعلاقات الانتاج بين الناس. وعليه، فان تاريخ التطور الاجتماعي هو في نفس الوقت تاريخ منتجي القيم المادية أنفسهم، تاريخ الجماهير الكادحة الذين هم القوة الرئيسة في عملية الانتاج والذين ينجزون انتاج القيم المادية الضرورية لوجود المجتمع. بالانسجام مع تغير وتطور قوى إنتاج المجتمع في مسار التاريخ، تغيرت وتطورت ايضا علاقات انتاجهم، علاقاتهم الانتاجية.” ثم يواصل فيذكر: “عرفت خمسة انواع من علاقات الانتاج في التاريخ: المشاعية البدائية، العبودية، الاقطاع، الرأسمالية والاشتراكية.” (جوزيف ستالين، المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، 1928، ترجمة حسقيل قوجمان، 2018، الحوار المتمدن).
هنا يمكن أن يفهم القراء والقارئات وكأن المجتمعات البشرية أينما تكون ينبغي لها أن تمر بهذه المراحل الخمس من أنماط الإنتاج، أو أساليب الإنتاج ابتداءً من المشاعية البدائية ومروراً بالعبودية (الرق) والإقطاعية والرأسمالية وتنتهي بالاشتراكية كمرحلة أولى والشيوعية كمرحلة ثانية. أقول هنا يمكن أن يفهم بهذا الصورة لأن ستالين عرض المسألة كما يلي: “تاريخ أساليب الإنتاج التي خلف أحدها الاخر في مجرى القرون” يفهم منها وكأن أحدها ينتهي ليبدأ الآخر من أساليب الإنتاج، ومثل هذا الفهم على خاطئ، إذ إن التغير لا يحصل في كل بلد من البلدان بالتتابع أو التوالي، بل يمكن ألَّا نجد هذا النمط أو ذاك من أنماط الإنتاج غير موجود في هذا البلد أو ذاك، أو وجود أنماط متعددة في آن واحد على صعيد المجتمعات البشرية في البلدان المختلفة. وهنا “استلهم!” جمهرة من العلماء السوفييت هذا الفهم الخاطئ وكرسوه بما يفهم منه إنها المراحل الخمس التي لا بد ان تمر بها الشعوب كافة وإلزاماً.
هذا الطرح غير وارد وبالتالي الاعتراض عليه سليم، إذ ليس بالضرورة أن تمر كل المجتمعات بهذه المراحل، ولكن مثل هذه المراحل موجودة في تاريخ البشرية ويمكن أن تسير جنباً إلى جنب أو ألَّا يوجد بعضها في بعض المجتمعات ووجد بعضها الآخر في مجتمعات أخرى. أي إن البشرية بمجملها وليس بالضرورة كل أجزاء البشرية تتعرف على هذه الأنماط الخمسة بالتتابع وفي جميع المجتمعات. وفي هذا كان كارل ماركس محقاً فيما طرحه بصدد الأنماط الخمسة وتطورها تاريخيا. كتب الزميل الفقيد الدكتور فالح عبد الجبار في مقالة له تحت عنوان “تأملات في الماركسية” بهذا الصدد بصواب ما يلي:
“لقد كان ماركس على غرار هيغل يرى إن التاريخ البشري، كتاريخ واحد، تشترك فيه كل الحضارات، والشعوب، وأن هذا التاريخ ينطوي على أنماط تقسيم عمل: مشاعية، وعبودية، وإقطاعية، ورأسمالية، وأيضاً شرقية (نمط الإنتاج الآسيوي القديم). هذا التنميط العمومي (المختلف عن نظرية المراحل الخمسة) يراد به قول ما يلي:
- وجود تطور ارتقائي في التاريخ البشري.
- إن هذا التطور هو عملية عالمية واحدة.
- إن نمط الإنتاج الرأسمالي هو ثمرة التطور السابق.
- إن هذا النمط الأخير ظاهرة جديدة وليس قديمة قدم الإنسان.
ثم يختم قوله: أرادت نظرية ماركس أن تؤكد على فكرة التطور والتناقض، وعلى الطابع المادي للتطور، الذي لم يكن مدروساً من قبل”. (راجع: فالح عبد الجبار، تأملات في الماركسية، الثقافة الجديدة، العدد 404 و405، أذار 2019) ص، 18). الرفض هنا لصيغة المراحل الخمسة المتتابعة لكل مجتمع من المجتمعات وليس في رفض وجود مثل هذه الأنماط الخمسة في تاريخ البشرية وحضارتها.
- نمط الإنتاج الآسيوي
كتب الدكتور فالح مهدي بصدد نمط الإنتاج الآسيوي ما يلي: “- قامت تلك النظرية على مفهوم الري والقنوات المائية في بلدان الشرق التي فيها أنهار، كبلاد الرافدين، مصر، الهند، الصين. أي كانت مهمة السلطات الأولى هو حفر القنوات وتنظيم المياه.”، ثم يشير في موقع آخر من نفس الصفحة إلى ما يلي: “لقد تحول موضوع الاستبداد الشرقي عبر نمط الإنتاج الآسيوي إلى شتيمة لكل الشرق يراد منها أن الشعوب القاطنة في مجتمعات آسيوية وأفريقية غير قادرة على التطور…. يكفي أن ننظر إلى الأدب السياسي لنظام الحكم في بابل، فسنجد دون أية صعوبة، من أن قانون حمورابي خلى كلياً إلى ما يشير إلى وجود هذا النمط”. (راجع: فالح مهدي، مقالة في السفالة: نقد حاضر العراق، دار سطور، بغداد 2019، ص 229/230).
على ماذا اعتمد كارل ماركس في استنتاجه حول نمط الإنتاج الآسيوي؟ لقد اعتمد على دراسات سابقة أو مزامنة له حول واقع عدد من الدول الشرقية في آسيا من جهة، وعلى ثلاث مؤشرات أشار إليها بصواب الزميل والباحث الماركسي الأستاذ عبد الحسين سلمان من جهة أخرى، وهي:
- “غياب الملكية الفردية للأرض أو دور الدولة المركزية في تنفيذ المشروعات الكبرى للري خاصة بما يمنح رأس الدولة الحق النظري أو الشرعي في ملكية الأرض وبذلك يستولي جهاز الدولة علي فائض العمل لتصبح الدولة بموظفيها هي الطبقة الرئيسية والحاكمة بأمرها (الطاغية في الوقت نفسه).
- الفلاحون أعضاء المشتركات الفردية القائمة بالإنتاج.. عبيد الدولة صاحب الأرض لا عبيد فرد ما.
- يقترن الاقتصاد الطبيعي لهذه لمشتركات المكتفية ذاتياً باحتلال الحرف المنزلية والعمليات الصناعية المكانة الثانوية بالنسبة للزراعة، ويحول الإنتاج المشترك دون تطور التجارة والتبادل بين القرى بحيث يمنعه عن أن يصبح عنصراً حيوياً وتحريكاً اقتصادياً لتحيا المشتركات القروية حياة بنائية راكدة”. (راجع: عبد الحسين سلمان، المفهوم الماركسي لنمط الإنتاج الآسيوي، الحوار المتمدن- العدد: 4589 – 2014 / 9 / 30).
وفي تحليل آخر نشر في جريدة المدى أشار كاتب، دون أن يذكر اسمه، إلى ما يلي بشأن نمط الإنتاج الآسيوي: “- وجود مجتمعات زراعية رعوية كبيرة بملامح قبلية في أقطار واسعة تخترقها انهار كبيرة وذات مناخ جاف عموما. – نشوء مشاريع ري كبرى يترتب عنها تحميل الدولة أعمال إصلاح وإدامة الأنهار وقنوات الري والأراضي الزراعية. – غياب الملكية الخاصة للأرض لصالح تملك الدولة للأرض كلياً، وغياب طبقة نبلاء وراثية نظرا لعدم وجود ضمان للملكية يمكن ان يؤسسها، وعدم انفصال الزراعة عن سبل الإنتاج الاخرى.“ (راجع: مشكلة مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي 1، جريدة المدى، في 18/01/2015).
على وفق دراستي لمقولة نمط الإنتاج الآسيوي والكتب التي تسنى لي قراءتها أثناء تدريسي لأنماط الإنتاج والنمط الآسيوي في الإنتاج في الجامعة أجد بأن ليس هناك نمط إنتاج آسيوي واحد كما تم شرحه باختصار شديد وبشكل عابر من قبل ماركس وانجلز، بالاعتماد على دراسات قديمة وغير مكتملة، اتفق مع ما توصل إليه الفقيد الدكتور سمير أمين بأن ليس هناك نمط إنتاج آسيوي بذاته، بل هناك أنماط إنتاجية في هاتين القارتين آسيا وافريقيا. إن هذه الأنماط تحد من قدرة المجتمع على التطور والانطلاق صوب التغيير المنشود في القوى المنتجة على نحو خاص. ومن هنا اتفق مع ما توصل إليه الدكتور فالح مهدي بهذا الصدد من جهة، ومع حقيقة إعاقة أنماط الإنتاج في الدول الآسيوية والأفريقية على التقدم والتغيير من جهة أخرى. وتأكيد ذلك يرد في الفكرة الصائبة التي توصل إليها الدكتور مهدي ومفادها: إن العراق في ظل الإمبراطورية العثمانية كان قد أخرج من التاريخ، إذ كتب ما يلي: ” لقد مَّر العراق بعد سقوط بغداد في عام 1258 بسلسلة لا تعد ولا تحصى من المآسي التي أخرجته من التاريخ. لذا يُعد الاحتلال البريطاني للعراق، في تقديري، بداية دخول هذا البلد في حركة التاريخ وحيويته. الاحتلال البريطاني يمثل موضوعياً إعادة ولادة هذا البلد!”. (مهدي، الكتاب، ص 128). ويصح هذا القول على الهند أيضاً، التي خضعت للاحتلال البريطاني منذ أن نصب أول حاكم انكليزي عليها في العام 1774 ومن ثم فرض الاحتلال المباشر للهند رسمياً في العام 1875 ومن ثم تحت التاج البريطاني منذ العام 1876.