” الشعبوية ” كخطاب سياسي صاخب يعتمد الأثارة الجماهيرية بأنتقاء مواقف او احداث معينة, لنقدها خارج سياق عملية الصراع الشاملة, التي لها مدخلاتها ومخرجاتها وتعقيداتها, هي غير” الثورية ” كنظرية بما تعنيه من مشروع تغيير لواقع مجتمع ما… والتي لها أساليب عملها المتعددة التي تبدأ من التنظيمي السري وبث الوعي والتظاهر الأحتجاجي والأشكال النضالية الأخرى, مروراً بالنضال النقابي والعلني والبرلماني… والكفاح المسلح أحدها. ولكل من هذه الأساليب ظروفه وشروطه الذاتية والموضوعية.
ان لأستثمار ظروف واقعنا السياسي الحالي, بعد توفر امكانية النشاط العلني القانوني, أهمية خاصة, من اجل جذب الجماهير نحو برنامج واقعي طويل النفس, والأنغمار في الصراع الطبقي والسياسي الدائر, وعدم ترك الساحة للفاسدين والرجعيين, ليعبثوا اكثر مما عبثوا بمقدرات البلاد, بل السعي لأيقافهم عند حدهم, والعمل على تحقيق اهداف الكادحين ولو بإستلال قانون يخدم مصالحهم ويحسّن ظروفهم الحياتية.
وهذا كله لا يلتقي مع الشعارات الشعبوية الفارغة وتعابيرها الرنانة, التي يطلقها البعض, ودعوات عدمية رافضة لكل شيء واي شيء, تقود للأنعزال.
وكانت الجهود الدؤوبة والعمل المتفاني للشيوعيين بين الناس ومعهم في اماكن العمل والأحياء وفي ساحات الأحتجاج قد أثمرت بوصول نائبين شيوعيين الى قبة البرلمان, هما السيد رائد فهمي والسيدة هيفاء الأمين, وقد أثار نشاطهما انزعاج وخشية اوساطاً رجعية متعددة, ترجموه أخيرا,ً بالهجوم على مقرات الحزب في مدينتي الناصرية والبصرة, لاسيما وانهما يشغلان رئاسة لجنتي متابعة تنفيذ البرنامج الحكومي برئاسة السيد رائد فهمي, ولجنة المرأة برئاسة السيدة هيفاء الأمين, المهمتان في مجلس النواب العراقي, اللذان هما اكبر من مجرد مواقع شرفية او وجاهية, بل هما مجالات عمل مسؤول لخدمة العراقيين, بمتابعة الأداء الحكومي واقتراح التشريعات التي تؤمن حقوقهم وحرياتهم.
لذا فأن دعوات البعض لترك كل شيء وعدم المشاركة في العملية السياسية والأنكفاء الى المقرات والأكتفاء بصب اللعنات من بعيد, ولعن الظلام دون ايقاد شمعة, هي دعوات غريبة عن مباديء الشيوعيين, لأنها لا تأتي بفائدة للشعب, وهو مسعى الشيوعيين الأول ومبرر وجودهم, خصوصاً في ظل غياب برنامج عمل واقعي بديل لدى مطلقي هذه الدعوات.
كما ان المصابون ب ” فوبيا التحالف “, أسرى الماضي المكبلون بذكريات جبهة 73 مع البعث الذي اجهضها بسبب نزعات قادته الأستبدادية اولاً, واخطاء قيادة الحزب حينها ثانياً, والتي ربما كان المؤتمر الوطني الرابع للحزب, البداية للأطاحة بأغلب القيادة السابقة, اضافة الى ما تكفل به الزمان بتغييبهم بسبب المرض او الشيخوخة… وبعد إجراء الحزب لمراجعة نقدية شاملة لكل تجربته, لازالوا يتهيبون خوض النضال السياسي من خلال تحالف, الذي هو كممارسة سياسية واردة ومشروعة في العمل السياسي, لذا فأنهم يطالبون بالأنسحاب من ” تحالف سائرون “, لأنهم واقعون في أسار المقارنة الميكانيكية بين جبهة 73 والتحالف الحالي, رغم ان طبيعة الظروف السياسية وأساليب العمل, تغيرت… كما ان خارطة القوى السياسية قد طرأ عليها تبدل كبير جداً. فقد أفل نجم بعضها مثل حزب البعث وظهرت اخرى بأيديولوجيا دينية… تحاول تأبيد طريقة حكم طائفية محاصصية جائرة… ونشأ وعي مجتمعي آخر وليد لفترة الأستبداد والحروب والحصارات ليس متفاعلاً مع افكار اليسار التحررية.
كما شهدت الأحزاب التاريخية ذاتها تغيرات بنيوية واسعة, واكتسابها لتجربة سياسية اعمق كما في الحزب الشيوعي العراقي وصعود قيادات جديدة.
ان تعثّر عمل ” تحالف سائرون “, ناتج عن احتدام الصراع حوله وداخله, وضغط قوى المحاصصة لأجهاض خططه الأصلاحية وشقه وتفتيته, ويعرف بأنه اكثر التحالفات السياسية تماسكاً وثباتاً, وهو ببرنامجه المدني يشكل المعادل الموضوعي لمتحاصصي السلطة… وعلى الحزب الشيوعي ليس الأنسحاب منه بل النضال من اجل ترجيح كفة الأفراد او الأطراف الأكثر صدقاً في انحيازها للفقراء والمضطهدين وتعميق توجهاته الصائبة والدفع لتحقيق شعاراته التي قام على أساسها… فهو لم يستنفذ امكانياته بعد.
ولابد لتجاوز تلكؤات هذا التحالف, من تطويره ليكون تحالفاً على مستوى الشارع, وليصبح عامل ضغط شعبي حقيقي ولا يبقى أسير قاعات الأجتماعات المغلقة لقادة محدودين.
كما ان توجيه بعض التقدميين نيران غضبهم نحو ” تحالف سائرون “, يبدو غير مبرراً سياسياً, لأنه ببساطة, ليس هو العقبة امام التقدم, كما يتوهمون في سعيهم للأجهاز عليه, بل قوى المحاصصة التي ينبغي محاصرتها ومكافحتها… ولأن الغاء قوة سياسية فاعلة, بكل ما لها وما عليها, ذات أهداف مدنية, تقف ضد تغوّل التوجه الطائفي والمحاصصة, من مسرح الصراع سيؤدي الى صعود الكفة الأخرى وخسران الجميع.
لازال هناك من يستهويهم العمل السري رغم تحولات الزمان, ويحنّون اليه لدوافع رومانتيكية, في عودة سلفية حالمة الى ايام الماضي التليد… هؤلاء, حان وقت إيقاظهم !