من تعرف على دولة الإسلام السياسي بسلطاتها الثلاث في إيران يدرك حجم وتنوع العواقب الوخيمة والمريرة التي تعرض لها الشعب الإيراني بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه الدينية والفلسفية أو الفكرية منذ عام 1979، بعد أن سيطرَ الإسلاميون السياسيون الطائفيون والمتطرفون على السلطة الفعلية في البلاد وسرقوا الثورة الشعبية الديمقراطية ضد نظام الشاه وجلاوزته وأجهزته الأمنية حتى الوقت الحاضر 2019. كما يمكن أن يدرك بأن أي تغيير إيجابي في إيران لا يمكن أن يحصل لصالح الشعب الإيراني، إن استمرت هذه الدولة الطامحة إلى الهيمنة على الدول المجاورة بسياساتها التوسعية وتصدير ثورتها البائسة، ومن ثم التحول إلى دولة كبرى لها أشباه مستعمرات في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي. فهي دولة غير قادرة على تصور وجود دولة عراقية مستقلة، لأنها كانت يوماً إمبراطورية فارسية تحتل بلاد وادي الرافدين. وبالتالي فأن أي تغيير منشود في إيران يتطلب تغييراً في ميزان القوى لصالح القوى المناوئة للقوى المهيمنة على الدولة بسلطاتها الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعلى الأجهزة العسكرية، الجيش والشرطة والأمن والحرس الثوري وجيش القدس والبسيج .. إلخ، يتطلب تغييراً جذرياً للواقع الإيراني الراهن وإقامة دولة وطنية ديمقراطية علمانية حديثة، وبناء مجتمع مدني ديمقراطي علماني حديث. إن هذا القول لا ينبع من تصور ذاتي ورغبة ذاتية، بل بقدر ما هو حقيقة تتطلع لها غالبية الشعب الإيراني. لقد تسنى لي زيارة إيران مرات عديدة وقضيت فترات غير قصيرة نسبياً فيها وأجريت لقاءات مع أوساط كثيرة وتعرفت على قوى السوق والشارع، ومن خلالها تعرفت بشكل أكثر موضوعية على طبيعة هذه الدولة بسلطاتها الثلاثوسياساتها وسلوكياتها مع المجتمع وتخلفها الفكري والسياسي وممارسات حكامها المعممين أولاً، والفساد غير المحدود للغالبية العظمى منهم من النواحي المالية والإدارية والأنسانية أو الأخلاقية ثانياً، إضافة إلى دورهم الكبير والموثق لدى أجهزة الأمن الإيرانية وفي مخابرات الدول الكبرى في نشر المخدرات والكحولياتوالتشجيع على تعاطيها واستخدام منظمات مافيوية إيرانية-أفغانية-أجنبية، إضافة إلى العهر المتنوع وبيع أعضاء الإنسان، لاسيما أطفال وشباب العائلات الفقيرة. ومما يزيد في الطين بلة مصادرتهم للحريات الفردية بشكل منقطع النظير وتسليط الضغط اليومي على سلوكيات الأفراد، ولاسيما النساء في المجتمع، ودخول أجهزة الأمن وعيونهم الشرهة إلى بيوتهم، بل وحتى غرف نومهم، مما يثير غضب المجتمع المتحرر من قيود دولة ولاية الفقيه المتخلفة. في إحدى سفراتي في طهرات استقلت الحافلة من منطقة البازار الكبير، سمعت شخصين يتحدثان بصوت مسموع قال احدهما باللغة الإيراني: “زندیگه ما مرگ تدریجی”« والتیتعنی “حیاتنا موت بطيء”. أثناء سفرتي مع الرفيق ابو سرباس إلى همدان للحصول على فيزا إلى تركيا، استفسرنا من أحد المارة عن موقع القنصلية التركية: قال ما معناه: “سيروا بهذا الشارع غى نهايته ستجون أمامكم ساحة وبوسطها مسلة وعليها الكثير من القردة (وبالإيراني ميمون)، عندها اذهبو باتجاه اليسار ستجدون القنصلية ليست بعيدة من هناك”. وحين وصلنا الساحة لم نجد سوى صور للقادة الإيرانيين المعممين معلقة على المسلة!!!
إن ما رأيته في إيران خلال مجموعة من السفرات في أوقات مختلفة ولمدن عديدة، منها طهران وقم وأرومية (الرضائية) وهمدان ومشهد وزاهدان وغيرها، أعطتني الصورة التي يمكن أن يكون عليها العراق إذا ما أقيم عليها نظام مماثل للنظام الإيراني الطائفي البشع، حتى قبل سقوط الدكتاتورية في العراق، إذ كانت الولايات المتحدة الأمريكية وإيران قد تساومتا على من يشكل الحكومة الجديدة في العراق من خلال التفاوض وعبر وسطاء من اجل قبول قوى الإسلام السياسي وبقية قوى التحالف الأعضاء في المؤتمر الوطني العراقي حينذاك بشن التحالف الدولي، المشكل خارج الشرعية الدولية، الحرب ضد العراق. وقد رسمتُ اللوحة المحتملة في أكثر من مقال لي خلال فترة السنوات المنصرمة ابتداء من عام 2002 حتى الوقت الحاضر.
وها هو الشعب العراقي يعيش سنوات مريرة، بعد سنوات الحرب والحصار والدمار والجوع الصدَّامي، تحت وطأة الصراع على السلطة، وعلى النفوذ والمال الحرام، في ظل نظام سياسي طائفي محاصصي مقيت امتهن الهوية الوطنية للشعب العراقي وأذلها بكل السبل المتوفرة لديه، وامتهن كل ما هو خيَّر وشريف في العراق،وخلق كل مستلزمات العيش الجحيمي في ظل أوسع وأشمل أشكال الفساد المالي والإداري والأخلاقي، والإرهاب والخراب والرثاثة والنزوح والهجرة التي لم يشهد الشعب العراقي مثيلاً لها خلال العقود المنصرمة، رغم كل فواجع وحروب وكوارث واستبداد وقهر النظام الشمولي للبعث وصدام حسين.
وإلى القراء الكرام بعض الأرقام المهمة:
** تصدر العراق مجدداً “المرتبة الأولى لجهة الفساد بين دول العالم، فيما وردت 6 بلدان عربية ضمن قائمة تضم 12 دولة، هي الأكثر فساداً في العالم من مجموع 180 دولة في العام 2018.”، (نصير الحسون، العراق يتصدر لائحة الدول الأكثر فساداً في العالم، جريدة الحياة، 21 أذار/مارس 2018). ويشمل هذا الفساد جميع الفئات الحاكمة تقريباً، إنها القطط السمان التي تحتل أعلى المناصب في الدولة العراقية وفي قيادة الأحزاب الإسلامية السياسية. ولا يقتصر هذا الفساد على سرقة المال العام فحسب، بل ويشمل نهب العقارات ودور الدولة ومزاد الدولار اليومي وتزوير الشهادات الصادرة عن الدوائر والمدارس الدينية في حوزة قم وغيرها وعن الكليات والجامعات الإيرانية على نحو خاص، إضافة إلى تزوير أوراق ملكيات دور وعقارات العائلات والأفراد التي أجبرت على النزوح أو الهجرة إلى خارج العراق بسبب التهديد بالقتل وغيره.
** وتشكل رواتب الموظفين موقعاً أساسياً في باب نهب أموال الدولة، حيث نشرت أخيراً قوائم بأسماء من يتسلمون 13 رابتاً شهرياً و12 راتباً شهرياً و11، و10، و9 و8 و7.. إلخ، أو ميليشيات وأحزاب إسلامية وغير إسلامية تتسلم رواتب أسماء عشرات الآلاف من الفضائيين المسجلين في قوائم، ولكنهم أشباح لا غير، وهي مبالغ كبيرة جداً تفوق تصور الإنسان السوي. (راجع الفيديو مع مشعان الجوري، أو تقارير أخرى). فقد جاء بهذا الصدد ما يلي: “قدر نائب الرئيس العراقي إياد علاوي، رئيس ائتلاف الوطنية، عدد «الجيش الفضائي» في العراق بنحو ربع مليون جندي «فضائي»، وقال في تصريحات صحافية ببغداد أول من أمس إن «أموال العراق ضاعت بسبب المفسدين»، مرجّحا أن «يصل عدد الفضائيين في الأجهزة الأمنية إلى ربع مليون، وليس 50 ألفا كما أعلن رئيس الحكومة، حيدر العبادي». (راجع: «الفضائيون» في العراق يتراوحون بين جنود ومتقاعدين.. وكلفوا الدولة مليارات الدولارات، الشرق الأوسط).
** ومنذ العام 2004 بدأت المخدرات تدخل الأراضي العراقية من أفغانستان وإيران لا لتخرج منه إلى دول الخلج ومنها إلى الدول الأخرى، كما كان يحصل في الغالب الأعم في فترة حكم البعث الدكتاتوري، فحسب، بل تبقى كميات كبيرة ومتزايدة يوماً بعد أخر وشهراً بعد آخر وسنة بعد أخرى في العراق لتباع وتستهلك من بنات وأبناء الشعب العراقي من مختلف الأعمار، لاسيما من الشبيبة وكذلك الصبية. وقد أورد الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح أرقاماً مذهلة في المؤتمر العلمي وكذلك الندوة، وكلاهما أقيما في بغداد وأدارهما الأستاذ ذاته وقدم فيهما محاضرتين، إذ كتب يقول: “عقدت منظمة الجوهرة للتعليم والخدمات العامة مؤتمرا علميا تحت شعار (من اجل مجتمع خال من المخدرات). وفي عصر اليوم ذاته (السبت 22حزيران 2019) اقام الاتحاد العربي للأعلام الإلكتروني بالتعاون مع تجمع عقول ندوة علمية في ملتقى رضا علوان الثقافي بعنوان (المخدرات: حجمها، أسبابها، مخاطرها، والحلول)”. وقد بين الأستاذ صالح الأضرار الفادحة التي تصيب الشبيبة والصبية بسبب تعاطيهم تلك المخدرات وبشكل خاص أقراص الحبوب ذات التأثير التدميري على عقل الإنسان ووضعه النفسي وصحته العامة، كما أشار إلى العوامل التي تتسبب في نشوء هذا الواقع وعواقبه على أجيال العراق من الصبية والشبيبة. وعلينا أن نعرف بأن من يمارس هذه المهنة، مهنة تجارة المخدرات، هم ليسوا بعيدين عن أولئك الذين يمسكون زمام الأمور في العراق، إذ ليس غيرهم بقادرٍ على إمرار هذه الكميات الهائلة من المخدرات عبر حدود العراق المفتوحة عبر البصرة وكردستان، سواء تلك التي تبقى في العراق أم التي يعاد تصديرها إلى الخارج. ويحمل عنوان مقال الأستاذ قاسم مغزىً بالغ الأهمية معبراً عن حقيقة وضع الحكم في العراق: “في العراق .. المجتمع يتعاطى المخدرات والدولة تتعاطى السرقات”، (أ. د. قاسم حسين صالح، في العراق .. المجتمع يتعاطى المخدرات والدولة تتعاطى السرقات، الحوار المتمدن-العدد: 6277-2019/7/1)، وأضيف إليها، وتحقق الأرباح من خلال السكوت على تهريب المخدرات أو المشاركة للبعض منهم فيها. إن مشكلة تجارة وتعاطي المخدات ليست أخلاقية، بل هي بالأساس سياسية واقتصادية واجتماعية، إنها الرغبة في تدمير الشباب وحسهم السياسي الوطني ودفعهم بعيداً عن واقع الحياة العراقية والعيش في حياة مضببة ومليئة بالعقد والتي تقود في الكثير من الحالات إلى الانتحار أو العيش في عزلة هائمة أو إلى ارتكاب الجرائم بهدف الحصول على المخدرات والاستعداد لبيع الذات من أجل ذلك. وأخيرا نشر الدكتور قاسم حسين صالح يؤكد ما يلي: “المرجعية تؤكد في خطبة الجمعة (أمس).. اتهامنا بوجود مسؤولين يحمون تجار المخدرات الذي أعلناه بمؤتمر مكافحة المخدرات قبل ايام، وفي الندوة العلمية التي اقمناها بملتقى رضا علوان عن المخدرات قبل اسبوع.. واعلنا بالصريح عن وجود احزاب وميليشيات ترعى تجار المخدرات بشراكة مالية.. والموثق بمقالتين لنا في جريدتي المدى والزمان”. (من رسالة معممة بتاريخ06/07/2019 ).
** لقد سقط للعراق مئات ألوف القتلى والجرحى والمعوقين خلال فترة حكم البعث الفاشي بسبب سياساته الشمولية المطلقة والعدوانية، وبسبب الحروب الداخلية والخارجية التي تسبب بها أو أعلنت ضده، وبسبب الحصار الاقتصادي الذي شارك في موت المزيد والمزيد من الأطفال والعجزة والمقعدين وكبار السن. وبعد إسقاط الدكتاتورية الغاشمة تسبب الاحتلال الأمريكي والنظام السياسي الطائفي الذي أقيم على أنقاض النظام الشوفيني السابق، وسياساته الطائفية المقيتة والتمييز الديني والمذهبي والشوفينية والاتجاهات النيولبرالية البائسة و”الإسلامية” الفاسدة إلى سقوط مئات ألوف الضحايا خلال الأعوام الـ 17 المنصرمة، إضافة إلى الجرحى والمعوقين وإلى إبادة جماعية ضد الإيزيديين ووإلى استباحات ضدهم وضد المسيحيين والتركمان الشبك واغتصابات وقتل ونهب وسلب لا مثيل له من قبل عصابات الدواعش في فترة حكم الطاغية الأرعن والطائفي المقيت والعدواني بامتياز والخادم المطيع للمرشد الإيراني الأعلى رئيس الحكومة الأسبق للفترة 2006-2014 ونائبا لرئيس الجمهورية حالياً. وبذلك رفع عدد اليتامى وعدد الأرامل وعدد المعوقين في العراق، إضافة إلى تزايد عدد المصابين بالأمراض السرطانية وغيرها في جنوب ووسط العراق بشكل خاص. إن من يدعي بأن هذا النظام يمكن إصلاحه يغالط نفسه، إذ إن النظام السياسي الراهن يعتمد على خمسة قوائم: الطائفية والتمييز الديني، التحالف بين المرجعيات الدينية والأحزاب الإسلامية السياسية، الفساد المالي والإداري والأخلاقي، المليشيات الطائفية المسلحة وتغلغلها في جميع صنوف القوات المسلحة العراقية (الجيش والأمن والشرطة)، والوجود الإيراني الكثيف والمتنوع والمتعدد الجوانب في العراق.
ابتلى الشعب العراق بحكومة لا تعرف معنى للشعب، بل لما يدخل في جيوب النخبة الحاكمة من أموال. فلا التنمية ولا الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والمواصلات في البلاد بخير، بل في أسوأ أحوال الشعب بالنسبة للكهرباء لاسيما في فصل الصيف. والوحيد المستفيد من الكهرباء هم سكنة المنطقة الخضراء وما جاورها من بيوت المسؤولين. واليوم تحدث أستاذ جامعي عن أزمة السكن فأشار إلى ارتفاع هائل في إيجارات البيوت والشقق بحيث لا يستطيع الإنسان الاعتيادي أن يحصل على دار يعيش فيها، مما يدفع بهم إلى بناء أكواخ أو بيوت من طين في مناطق عشوائية. فسماسرة البيوت والعقارات هم من الحكام المتنفذين وأعوانهم وحواشيهم. والغريب أن حجم المظاهرات والاحتجاجات ما زال محدوداً رغم اتساعه النسبي، إذ من غير المعقول ألَّا يجد الإنسان ما يحتاجه وزاد فقر الكثير من العائلات، حتى بدأت الحكومة تخصص أموالاً خاصة للفقراء في كربلاء مثلاً، لأنها تلتهم الأموال التي يفترض أن تكون لهم، إنها المهزلة المضاعفة في بلد غني كالعراق.
إنها المأساة والمهزلة التي كان يعيش تحت وطأتها العراق منذ العام 1963 حتى العام 2003، ولكنها تفاقمت أكثر فأكثر خلال العقدين الأخيرين، لاسيما في أعقاب إسقاط الدكتاتورية الغاشمة والاحتلال وإقامة النظام السياسي الطائفي المقيت في البلاد واجتاح الموصل وعموم نينوى. ليس الترقيع بنافع في بلد أصبح الشق أكبر بأضعاف المرات من الرقعة الراهنة. والحل هو التغيير الجذري الذي يفترض أن تعمل عليه القوى الديمقراطية اليسارية واللبرالية العلمانية والشخصيات المؤمنة والملتزمة بدولة ديمقراطية مدنية علمانية بهدف أن تنشط حركة الشعب لتبني شعارات التغيير الجذري الفعلي، وايس الإصلاح الذي لا يمكن ولن يأتيممن ينبغي قلعه، لأنه ضد أي إصلاح فعلي في البلاد. وهنا ليس المقصود شخصاً واحداً، بل النخبة البائسة التي حكمت العراق منذ 2003/2004 حتى الوقت الحاضر.