الموت لا يوجع الموتى،
الموت يوجع الأحياء…!
محمود درويش
مساء يوم السبت المصادف 29 حزيران/يونيو 2019 أغمض عينية وتوقف قلبه عن الخفقان رفيق النضال المديد الوطني والشيوعي المخلص لشعب ووطنه وحزبه والمبادئ التي اعتنقها منذ فترة مبكرة من شبابه، أبن الحلة الفيحاء، أبن بابل وتراثها المجيد، الصديق الطيب حكمت تاج الدين (أبو دنيا). أغمض عينيه إلى الأبد بعد معاناة طويلة ومريرة مع مرض السرطان الذي انتشر في جسده النحيل، وبعد معاناة شديدة من الوحدة المضنية، وكانت آخر كلمات نطق بها وبصوت حزين وصرخة صادرة من الأعماق.. يمه يمه.. بويه! ولمدة يومين كانت بجواره السيدة برجيتا جباوي زوجة خاله الدكتور الفقيد حسن جباوي، التي حضرت من مدينة أخرى وسهرت في المستشفى بجواره وأبدت عناية كبيرة به وحزنت كثيراً لموته.
خلال العقود الثلاثة المنصرمة تعرض حكمت في مرتين متتاليتين للموت بسبب أمراض الكبد، ولكنه نجا منهما بأعجوبة، ولكن داء السرطان، الذي لم يشخص من الطبيب المعالج في البداية بشكل صحيح، تأخر علاجه، وانتشر الداء في جسده ولم يمهله طويلاً. لم يتسن له كتابة وصيته، رغم مطالبة أصدقاء له بأن عليه أن يكتب وصيته. لم يكن مقتنعاً بأنه سيموت، وأنه سينجو كما نجا في المرتين السابقتين، ولهذا طلب وألح بعدم الاستعجال بمجيء أخيه السيد سعد تاج الدين من قطر، وحين وصل كان قد فات الأوان..!
كان حكمت تاج الدين شيوعياً طيباً محباً لحزبه ورفاقه، متواضعاً كريم النفس. درس علم النفس ولم يمارسه. عمل بصمت وحيوية أثناء شبابه، وحمل جريدة الحزب ومجلة الثقافة الجديدة لتوزيعها على الرفاق والأصدقاء مقابل تبرع أو ثمن المجلة. قام بتوزيع مجلة الثقافة الجديدة، التي كانت تصله من بغداد شهرياً،حتى قبل وفاته بأسبوعين وقبل دخوله المستشفى، ثم وفاته، وكان يتسلم سعرها أو مع تبرع بسيط. وآخر ثلاثة أعداد سلمهما لي وتبرع بالاثنتين للدكتور حامد فضل الله من السودان والدكتور غالب العاني. كم تمنى في أيامه الأخيرة أن يجد من يأخذ مهمة توزيع المجلة على عاتقه بعد أن أصيب بساقه اليمنى التيأعاقته عن السير!
كان حكمت من محبي الحياة والتعلق الشديد بها، ولم يقتنع بأنه سيموت، رغم عدم خشيته من الموت بل من الآلام المحتملة. كان من محبي الكتب وهواة جمعها، ولكن غير قاريْ لها إلا لماما، وربما لم يجد الوقت لقراءة أي منها! كما كان من هواة جمع الطوابع النادرة والعملات النادرة أيضاً حتى نمت لديه ثروة كبيرة من العمل الذهبية النادرة، بعضها من فترة الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، وبعضها من العملات الذهبية التي تصدر في ألمانيا أو في بلدان أوروبية لأخرى وغيرها. كان من جامعي الأقلام الجافة، إضافة إلى إقلام الحبر النادرة والغالية الثمن وكذلك بعض الساعات. وقبل وفاته بأسبوعين اشترى كمية من العملات الذهبية كما أخبرني، ولا أدري إن كان قد دفع ثمنها أو وصلته اصلاً. عبر هذه الهوايات كان يجسد حبه لهذه المقتنيات وحبه للحياة، إذ لم يفكر في الموت، ولكنه، وكما أشار لي مراراً، لم يجد الحب في حياته، كما برز، فأحب هذه المقتنيات، وحين أحب فتاة في جامايكا كان يسافر لها مرتين في السنة، وأخر سفرة قال لي بأنه سيسافر ثلاث مرات في السنة، ولم يمهله المرض ليسافر ولو لمرة أخيرة إلى صديقته الجميلة التي وجد عندها الحب الذي افتقده طويلاً. كان يحمل لها الهدايا الجميلة ويقضي عندها ثلاثة أسابيع في كل سفرة، كانت زاده لأشهر أخرى كي يغادر إلى جامايكا ثانية. حتى بعد أن عجز عن الكلام، بدأ بالكتابة لهاليعبر لها عن وحدته ورغبته في رؤيتها.
كان حكمت متزوجاً. أنجبت زوجته منه أبناً وبنت. مات الأبن قبل سنوات ولم يكن قد رآه بعد طلاق مبكر جداً، ولم ير انته أيضاً ولا يعرف مكانها وهي من القسم الشرقي من ألمانيا، إذ تزوج في حينها من امرأة ألمانية حين كان يدرس علم النفس في ألمانيا الديمقراطية. وإذ لم يكتب أي وصية، كما يبدو حتى الآن، فأن وريثته الشرعية ستكون ابنته الوحيدة التي ربما دنيا!
كان من محبي حضور الحفلات والاجتماعات العامة، لاسيما احتفالات 14 تموز وتأسيس الحزب الشيوعي، أو يوم المرأة العالمي ورابطة المرأة العراقية، ومؤتمرات حقوق الإنسان، وكان سخياً في بعض تبرعاته. عجز في الأسابيع الأخيرة عن حضور الاجتماعات العامة بسبب المرض والإصابة في ساقه. ولكن حينأخبرناه، الدكتور غالب وأنا، بأننا سنقوم بزيارة صديقنا العزيز، صدق العمر الدكتور راجح عبد الصاحب البدراوي، في واحد من دور رعاية كبار السن المرضى، قرر أن يأتي معنا، كان ذلك قبل أسبوعين فقط من وفاته. حزن لوضع الدكتور راجح، رغم أنه بالذات كان في وضع صحي ميؤوس منه!
أقام رفاقه في منظمة الحزب الشيوعي العراقي في ألمانيا حفل تأبين بتاريخ 06/07/2019 في برلين حضره جمع كبير من رفاق وأصدقاء ومحبي حكمت تاج الدين، حيث قُدم عرض لصور من أرشيف الرفيق سامي كاظم (أبو عادل) عن حكمت، كما ألقيت في الحفل التأبيني كلمات منها: كلمة منظمة الحزب الشيوعي العراقي (أبو عادل) والحزب الشيوعي الكردستاني (معروف محمد أمين) وكاظم حبيب وفرياد فاضل عمر وناجح العبيدي وكلمة منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان في ألمانيا (أومرك) باعتباره عضوا فيها (الدكتور غالب العاني).
العزاء لعائلة الفقيد في الحلة والذكر الطيب لفقيدنا الصديق حكمت تاج الدين أبي دنيا.