منجزات العهد الملكي في العراق
تخلص العراق من ظلمتي النظام الاستعماري العثماني القديم والبالي، ظلمة التخلف والجهالة، وظلمة الفقر والقهر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الظلمة المعرقلة لكل نمو وتقدم وتطور، مع نهاية الحرب العالمية الأولى ووقوعه تحت الاحتلال الاستعماري البريطاني. مع بدء الاحتلال بذلت بريطانيا الجهود الكبيرة لجعل العراق جزءاً من التاج البريطاني ومشابها لوضع الهند، ولكنها فشلت في ذلك تحت ضغط الحركات الشعبية الثورية في سائر أنحاء العراق، ابتداءً من انتفاضة نجم البقال في النجف وثورة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية في عام 1919، وأخيراً ثورة العشرين في عام 1920، وأجُبرت الدولة البريطانية على صرف النظر عن مشروعها الأول والإقرار بمطلب تأسيس الدولة العراقية الملكية في عام 1921، مع وضعها تحت الانتداب البريطاني بقرار من مجلس عصبة الأمم.
مع تشكيل الدولة الجديدة وانتخاب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق بدأت مرحلة جديدة في تاريخ العراق الحديث. إذ رغم علاقاته الحميمة مع بريطانيا، أبدى الملك فيصل الأول مسؤولية كبيرة إزاء المجتمع العراقي وتوجهاً علمانياً وعقلانياً في وضع أسس الدولة العراقية، مع السماح لبريطانيا بتحقيق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية ووجودها المديد في البلادعبر اتفاقيات ثنائية ملزمة. فتم منح شركات النفط الاحتكارية امتياز النفط لعقود عدة في عام 1924 مع حصة ضئيلة قدرها أربع شلنات ذهب عن كل برميل نفط خام يصدر إلى الخارج، ثم البدء مباشرة بمباحثات لوضع معاهدة تضمن الوجود العسكري المديد للقوات البريطانية في البلاد والتي وقع عليها في عام 1930، كما أُقر الدستور العراقي الديمقراطي في عام 1925، رغم تضمينه مادة تقول بأن “الإسلام دين الدولة الرسمي”، إذ أن الدولة لا دين لها، بل الدين للناس لا غير. وفي عام 1926 ألُحقت ولاية الموصل بأقضيتها العربية والكردية بالدولة العراقية مع تقديم التزامات من جانب الملك فيصل والحكومة العراقية بمنح الكرد بعضاً من حقوقهم المشروعة والمهمة، ولكنها لم تقترن بضمانات فعلية.
جرت في هذه الفترة انتخابات المجلس النيابي وتعيين أعضاء مجلس الأعيان، حيث كانت تجري فيه نقاشات حرة نسبياً، رغم أن الحكومة، ومعها بريطانيا، كان لها اليد الطولى في التأثير على جو الانتخابات والمرشحين وأعضاء المجلس. وكانت جريدة الوقائع العراقية الرسمية تنشر تفاصيل جلسات مجلس النواب ومناقشات النواب في مختلف المسائل المطروحة للنقاش والإقرار ويطلع عليها من يريد. وكانت بداية فعلية لبناء مجتمع مدني في بلد كانت أكثريته بدوية وفلاحية ويعم الجهل والأمية والفقر في البلاد. وفي هذه الفترة بالذات برزت صراعات متعددة الاتجاهات، وتتفاقم سنة بعد أخرى، وهي:
- صراع حول دور بريطانيا في السياسات الداخلية والخارجية، إذ كان هناك من رفض هذا الدور ومن أيده ودافع عنه، والذي تجلى فيما بعد بانقسام النخبة السياسية إلى قوى معارضة، أخرى تمسك بزمام الحكم.
- صراع بين البداوة والحضر والتي كتب عنها الدكتور علي الوردي في العديد من مؤلفاته الاجتماعية المهمة، كما نجدها في كتب الدكاترة شاكر مصطفى سليم وإبراهيم الحديري وفالح عبد الجبار.
- صراع حول المرأة وتعليمها ودورها في المجتمع وما أطلق عليه بـ “السفور” أي نزع المرأة عباءتها”، وتجلى في الصحافة العراقية، حيث انبرت هيئة تحرير جريدة “الصحيفة” في تكثيف الكتابة عن أهمية وضرورة تحرير المرأة من أغلالها وقيود المجتمع البالية، وكان الشاعر جميل صدقي الزهاوي واحداً من أبرز مؤيدي حرية المرأة.
بعد مصادقة الحكومة العراقية على معاهدة 1930 وملاحقها العديدة التي واجهت معارضة شديدة من القوى السياسية العراقية والتي قال عنها الشاعر معروف الرصافي (ت 1945): “والعهد بين الإنجليز وبيننا… كالعهد بين الشاة والغربال” (الرسالة العراقية، انظر رشيد الخيون، نوري السعيد وبريطانيا).
وافقت بريطانيا على تقديم طلب بإنهاء حالة الانتداب البريطاني على العراق، حيث تم فعلاً في عام 1932، وبالتالي أصبح العراق من حيث المبدأ مستقلاً عن بريطانيا، ولكن لم يتخلص من وجودها ومستشاريها في كافة الوزارات العراقية وتدخلها في الكثير من الشؤون العراقية. وقد وصف الشاعر محمد باقر الشبيبي (ت1960) الوضع حينذاك بقوله:
قالوا استقلت في البلاد حكومة فعجبت إن قالوا ولم يتأكدوا
أحكومة والاستشارة ربها وحكومة فيها المشاور يعبد
المستشار هو الذي شرب الطلا فعلام يا هذا الوزير تعربد؟
ورغم ذلك تمتع العراق خلال هذه الفترة القصيرة بأجواء من الحرية والديمقراطية العامة والنسبية التي تناغمت مع حالة المجتمع الخارج لتوه من ظلمات الدولة العثمانية ومستوى الوعي السياسي والاجتماعي العام. وقد تمتع بهذه الحريات أتباع مختلف الديانات والمذاهب، كما أمكن تأسيس بعض الأحزاب والجمعيات وتوفرت حرية عقد الاجتماعات وتنظيم المظاهرات.
وقبل وفاة الملك فيصل الأول وقعت بعض الأحداث المرعبة، كما في معركة ديرابون على الحدود العراقية السورية أو مذبحة سهل سميل حيث قتل الكثير من الآشوريين، وكان بالإمكان تفاديها، على وفق تقدير الملك فيصل الأول أيضا. وقد اشتكى الملك فيصل الأول من تفكك وتخلف المجتمع العراقي، وسعيه الجاد لبناء دولة حديثة و”أمة” عراقية من قوميات مختلفةومجتمع مدني في مادة له وجهها للشعب العراقي قبل وفاته.
توفي الملك فيصل الأول في عام 1933 وتسلم غازي الأول العرش بعد وفاة والده في عام 1933 وتوّج ملكاً على العراق. في عهده برزت جملة من الإشكاليات السياسية والاجتماعية التي عصفت بالوضع السياسي، لاسيما وأن حياة التخلف والجهل والأمية والفقر والبطالة قد سادت البلاد ولم تعالج خلال الفترة القصيرة المنصرمة. كما برز تيار قومي يميني في الحكم توجه ضد يهود العراق وإزاحتهم من وظائف الدولة في العام 1935، إضافة إلى توجه ملموس صوب النازية الألمانية والدولة الهتلرية من قبل قوى “نادي المثنى بن حارث الشيباني” الذي تأسس في العام 1935. وقبل ذاك أقرت قوانين الخبير البريطاني في شؤون الأرض ارنست داوسن الجائرة في عامي 1932/1933 والتي أطلق عليها بـ “قوانين تسوية حقوق ملكية الأراضي” ثم استكملت بقوانين مجحفة أخرى في عام 1938، ثم صدرت قوانين وتعديلات أخرى في عامي 1951 و1952، حول بيع الأراضي الأميرية التابعة للدولة والتي كُرَّست، بموجب جميع تلك التشريعات، علاقات الإنتاج شبه الإقطاعية الاستغلالية في الريف العراقي، حيث تم انتزاع الأراضي من أيدي الفلاحين الفقراء وصغار المنتجين ووضعت في أيدي شيوخ العشائر والمتعاقدين السابقين مع الحكم العثماني وتجار المدن والعائلات الميسورة. وعليه كرست سيطرة كبار الملاكين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على الريف والفلاحين والإنتاج الزراعي والريع الزراعي. فتفاقمت مشكلة الأرض والزراعة والفلاحين، كما تصاعدت رغبة التصنيع بعد بدء تصدير النفط في نفس العام، رغم قلة التصدير حينذاك وحصة العراق الضئيلة من إيراداته.
تبلورت في الثلاثينيات من القرن العشرين أحزاب جديدة منها الحزب الوطني (1929/1930)، وجماعة الأهالي والإصلاح الشعبي (1933/1934) والحزب الشيوعي العراقي (1934)، ونادي المثنى بن حارث الشيباني القومي (1935). وخلال هذه الفترة بالذات وفي أعقاب عقد معاهدة 1930 انشطرت القوى السياسية في البلاد إلى مجموعتين، رغم التداخل بينهما، قوى الحكومة وقوى المعارضة السياسية، خاصة بعد أن وقعت أحداث مناهضة لسياسة الحكومة في عامي 1935/1936 في الفرات الأوسط وفي كردستان العراق.
في عام 1936 حصل انقلاب بقيادة بكر صدقي العسكري-حكمت سليمان، وبتأييد من جماعة الأهالي والحزب الوطني، الذي كان قد التحق بالأهالي. وكان أول انقلاب عسكري في الدولة الحديثة. لم يستمر حكم الانقلابيين طويلا، حيث قتل قائد الانقلاب عام 1937 في مطار الموصل فسقطت بموته الحكومة. ولكن هذا الانقلاب أقلق القوات البريطانية كثيراً، لاسيما وإننظام الانتداب لم يعد قائماً وأصبح العراق دولة مستقلة من الناحية الرسمية، كما نشأت بدايات أجواء غير ديمقراطية في نظام الحكم وإزاء المجتمع بضغط متزايد من بريطانيا. وحصلت خلال الفترة 1936-1940 سلسلة من التشكيلات الوزارية المتعاقبة إذ كانت تحل بعد سنة أو أقل لتشكل حكومة جديدة. وكان هذا أحد الأسباب التي تذرعت به الحكومات المتعاقبة لتشير إلى إنها عجزت عن تحقيق البرامج الاقتصادية الثلاثية التي كانت تضعها والتي أوقفتها مع بدء الحرب العالمة الثانية. خلال هذه الفترة تنامي عدد العاطلين عن العمل وعدد الفقراء وتفاقمت أوضاع الفلاحين المعيشية، كما ازداد التجاوز على الحريات العامة بإصدار قوانين لا تنسجم مع مواد ومضامين الدستور، وكذلك تفاقمت تجاوزات دائرة التحقيقات الجنائية وشُعبها الخاصة في الألوية، إضافة إلى تصاعد تأثير ألمانيا النازية على القوميين العراقيين ومناهضة الوجود البريطاني في البلاد. قادت مجمل هذه الأوضاع إلى انقلاب عسكري قومي قاده الضباط الأربعة زائداً يونس السبعاوي ورشيد عالي الكيلاني ومحمد أمين الحسيني (مفتي القدس) وحزب الشعب القومي السري في الأول من أيار/مايس 1941. بعد مرور شهر سقط الانقلاب تحت ضربات القوات البريطانية التي اشتبكت بمعارك ضارية مع قوات الجيش العراقي وانتصرت عليها. علماً بأن هذا الانقلاب القومي قد حاز على تأييد غالبية القوى السياسية بما فيها قوى اليمين واليسار، ومنها الحزب الشيوعي العراق. وبعد سقوط حكومة الانقلاب مباشرة، أي في يومي 1 و2/حزيران/يونيو 1941 وقعت عمليات قتل للمواطنين والمواطنات اليهود وسلب ونهب لدورهم ودكاكينهم، أطلق عليها “فاجعة الفرهود”. لقد شارك في هذه المجزرة، التي قتل فيها 144 مواطنة ومواطنا من يهود العراق، جمهرة من المناهضين لليهود وافراد من الجيش العراقي المهزوم ومجموعة من فدائيي يونس السبعاوي وكثرة من سكان أطراف بغداد. بعد هذه الأحداث تصاعد بشكل كبير دور وتأثير وتدخل بريطانيا في السياسات العراقية الداخلية والخارجية. وهي التي عمقت الخلاف بين قوى الحكومة وقوى المعارضة لا بسبب دور بريطانيا فحسب، بل وفي توجهات السياسة الداخلية.
في اعقاب الحرب العالمية الثانية وفي الأجواء الديمقراطية التي سادت العالم بعد انكسار القوى النازية والفاشية والعسكرية (دول المحور الثلاث، ألمانيا وإيطاليا واليابان) انتعشت الحياة السياسية في العراق، فتأسست بعض الأحزاب والجمعيات ومنعت أخرى وصدرت الصحف والمجلات وتنامت الحركات المطالبة بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وتغيير شروط امتيازات النفط الممنوحة للشركات الأجنبية (شركة نفط العراق) وفي النصف الثاني من العقد الرابع تم تأسيس (شركتي نفط البصرة والموصل)، واتسعت المعارضة السياسية لمعاهدة 1930.
في عام 1947 بدأت مفاوضات مع بريطانيا لوضع اتفاقية جديدة لتحل محل معاهدة 1948 وقد تم التوقيع عليها في عام 1948 في مدينة بورتسموث من قبل صالح جبر رئيس الوزراء والتي تسببت في حصول وثبة كانون عام 1948 واستطاعت إلغاء الاتفاقية، ولكن الحركة الوطنية أصيبت بالتراجع وعاشت جزراً موجعاً حيث تفاقم القمع في البلاد وازدادت السجون وعدد السجناء.
في عام 1952 وافقت شركات النفط الأجنبية على مبدأ المناصفة في إيرادات صادرات النفط العراقي، ابتداءً من عام 1950/1951، وبالتالي توفرت للعراق إمكانيات مالية أفضل، فشكلت الحكومة مجلس ووزارة الإعمار فأقدما خلال الفترة بين 1952-1958 إلى وضع برامج اقتصادية مهمة وواسعة، ولكن أغلب تلك المشاريع لم يرَ النور، بسبب كثرة التبدلات في التشكيلات الوزارية والوضع السياسي الملتهب وعجز الحكومة عن تأمين الحياة الديمقراطية. ومع ذلك أقيم عدد من المنشآت الصناعية الخفيفة والاستهلاكية في أنحاء مختلفة من البلاد. كما توفرت إمكانيات أفضل للزراعة حيث ارتفع عدد المضخات المائي المستخدمة على ضفاف الأنهر، وبعض المكائن الزراعية، ولكن بقى العمل اليدوي الفلاحي هو السائد في الزراعة العراقية والأساليب القديمة البالية.
في عامي 1952 و1956 حصلت انتفاضتين ضد السياسات الداخلية والخارجية في الأولى، وضد موقف الحكومة العراقية من تأميم قناة السويس ومن العدوان الثلاثي على مصر تحديداً. حيث استخدم نظام الحكم الحديد والنار ضد المتظاهرين فسقط بعض الشهداء في الانتفاضتين. في عام 1957 أقيم الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن وشكلت في العام 1958 أول حكومة مشتركة لهذا الاتحاد دون ان يُسأل الشعب العراقي ويؤخذ رأيه بذلك!
والخلاصة، يمكن تقسيم العهد الملكي إلى فترتين: تمتد الأولى من عام 1921 وتنتهي يعد عام 1933، حيث لعب الملك فيصل الأول دوراً مهماً في التأثير على سياسات الحكومة العراقية ومنع تدهور الحريات العامة. ومن أبرز منجزات العهد الملكي في هذه الفترة هو الاتفاق على إلحاق الموصل بالعراق بدلاً من جعلها جزءاً من الدولة التركية الجديدة، والبدء ببناء المجتمع المدني وفسح المجال أمام الحريات العامة والبدء بنشر التعليم الحديث وبناء المدارس للأولاد والبنات، إذ توفرت فرص لا بأس بها لدخول أبناء وبنات العائلات المتوسطة والضعيفة فيها وبدء تقلص عدد البدو لصالح الريف والزراعة والتوطن. أما في الفترة الثانية فقد بدأ التراجع التدريجي عن الحريات العامة وتنامى التشدد وتبلور في بروز معارضة سياسيةمنذ عام 1932/1933، لاسيما بعد وقوع الانقلابين العسكريين، واستمر حتى سقوط النظام الملكي. وفي هذه الفترة يمكن القول باحتدام الصراعات السابقة وتبلورها أكثر فأكثر. ومع ذلك فقد اتسع التعليم ونشأت صناعة وطنية خفيفة في القطاعين العام والخاص إضافة إلى قطاع مختلط، كما تم تأسيس المزيد من المدارس والكليات والمعاهد التربوية والمهنية وإرسال البعثات إلى الخارج للدراسة. وتقلص سكان البادية لصالح سكان الريف، وكذلك انتقال الكثير من سكان الريف إلى المدن وزيادة الولادات وتقلص وفيات الأطفال، بحيث حصل في نهاية هذه الفترة تغيراً ملموساً في ميزان القوى السكانية لصالح الحضر. لم تكن في بداية هذا العهد أجواء مناهضة لأتباع الديانات الأخرى والمذاهب أو ضد الاتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى، لاسيما في عهد الملك فيصل الأول، في حين برزت ظاهرة التمييز في الفترة الثانية.
لقد أشرنا في هذه الحلقة إلى أهم وابرز منجزات العهد المكي وجوانه الإيجابية، وستتضمن الحلقة الثالثة الجوانب السلبية أو الإخفاقات الفعلية لنظام الحكم الملكي والتي قادت إلى بروز الشروط الموضوعية والذاتية لحركة الضباط الأحرار في الانقضاض على الحكم عسكرياً وإسقاطه، وخروج الشعب كله ليعلن ثورته في صبيحة اليوم ذاته في 14 تموز 1958.