مساء الأمس وكعادتي اليومية كنت في مقبرة مدينتي الصغيرة، لأسقي الزهور التي تزيّن ضريح صغيري الراقد هناك بهدوء والأشجار تظلل مرقده والمكان. وحالما جلست لأعدل من لعبه التي تنتشر على ضريحه منذ ساعة رحيله وأنا أناجيه كعادتي، حتى شعرت وكأن شخص ما يتحدث إليّ. فوقفت ملتفتا في أرجاء تلك المقبرة لأرى المتحدّث، وإذا به صغيري نفسه. للحظات، شعرت وكأنّ روحي قد خرجت من جسدي وأنّ القيامة قد قامت، فأرتعش كل شيء في جسدي خوفا ورعبا. الّا إنني وكأب تقدمت منه لأحتضنه وأقبله، فأبتعد عني بقدر تقدمي نحوه، وأستمر الحال هكذا للحظات.
سألته متعجبا عن سبب خروجه من ضريحه وحديثه إليّ، وإبتعاده بنفس الوقت عني كلما تقدّمت نحوه. فنظر في عينيّ وهو يقول: لقد جئتك برسالة عليك إيصالها للسيّد مسعود البارزاني! مسعود البارزاني، أجبته وأنا شديد العجب من طفل فارق الحياة ولم يبلغ الرابعة من عمره؟ نعم، أجابني بثقة وهو يقول، سوف يأتي بعد قليل ملاك من الجنة التي نقيم فيها نحن الأطفال، لينقلك الى صحراء مدينة أسمها السماوة وأظنك تعرفها جيدا، فهي من مدن العراق الذي أنت منه. نعم أعرفها، ولكن إلى أي مكان في تلك الصحراء الواسعة سينقلني الملاك؟ إلى مقبرة جماعية فيها عدد من الأطفال الكورد وأمّهاتهم، مقبرة من مقابر البعث التي تملأ أرض بلدك، ولتذهب معهم الى حيث يقيم البارزاني في سه ري ر ه ش. وكأنني أحاور شخصا بالغا قلت له مستفسرا، لكنك قلت للتو من أنّك قادم من جنّة الأطفال التي في السماء، فلماذا لا يقيم فيها أطفال تلك المقبرة الجماعية. فأجابني وإمارات الأسى بادية على وجهه الجميل، أنّ الأطفال هؤلاء لا يريدون دخول الجنّة إلّا إذا وصلت رسالتهم للسيد مسعود البارزاني.
لم يطل الحديث بيننا طويلا، فالملاك الذي أخبرني عنه صغيري ما لبث أن هبط من السماء، ليحملني وأنا أودّع صغيري والحزن يلّفني وكأنني فقدته للتو، الى صحراء السماوة الحارقة ..
في صحراء السماوة الحارقة حيث الرمال تمتد الى الأفق غير المتناهي وكأنها قطعة من جهنم، هبط بيّ الملاك عند تخوم قبر جماعي فيه أجساد نسوة وأطفال رضّع ورؤوس إستقرّت فيها رصاصات جبانة في وقت ما. تقدّمت بخطى ثقيلة نحو القبر، فإذا بنسوة عليهنّ بقايا ملابس كانت زاهية يوما، وهنّ يحملنّ أطفالهنّ الرضّع ومعهنّ أطفال صغار يتقدمون نحوي. فتوقفت والملاك بعد أن تقدّم منا أحد الأطفال ليسألني، إن كنت أنا من سأقوم والملاك بنقل أمّهاتهم الى مقر السيد مسعود البارزاني لعرض رسالتهم عليه. نعم، أجبت وأنا التفت الى الملاك الذي رأيته يفرش جناحيه ليطير بنا الى سه ري ر ه ش، بعد أن عادوا جميعا للحظة الى القبر، ولتخرج منه النسوة فقط ومعهنّ أكياس لم أرى ما في داخلها، فطرنا الى حيث يقيم البارزاني.
لحظات وكنت وأمّهاتهم قرب مقرّ البارزاني، والذي جاءه خبر قدومنا من حرسه المتعجب من هبوط ملاك ومعه العشرات من النسوة. ففتح لنا الحرس أبواب مقر إقامة البارزاني بأدب جم وتعجب أكبر وأشّد. وما أن حضر البارزاني مرحبّا بالجمع، وليسأل عن النسوة ومن أين أتين وما سبب زيارتهنّ. حتى تقدمت إحدى النسوة وبيدها كيسها المغلق كالذي بيد النسوة الأخريات وقالت: نحن نسوة كورد ومن ضحايا الأنفال أيها السيد مسعود البارزاني، وكنّا نعيش كما باقي فلاحي الكورد البسطاء والفقراء في قرانا آمنين، حتى فتح النظام البعثي علينا أبواب جهنم وأبادنا كما أباد حلبجة والبارزانيين والكورد الفيليين والملايين الآخرين من شعب العراق.
السيد البارزاني: إن العالم بأكمله يعرف كما أنت أن نظام البعث هو من أرتكب جريمة الأنفال، وقد رأينا بأنفسنا أجهزتهم العسكرية والأمنية وهي تعتقلنا وتنقلنا الى حيث صحارى الجنوب وتقتلنا بدم بارد. ولسنا بالحقيقة هنا لنقول لك ذلك، فقولنا أن البعثيين مجرمين وقتلة لا يحتاج الى برهان، ولسنا هنا لنقول أنهم دمروا قرانا وهتكوا أعراضنا وأنفلوا ما نخجل من ذكره لتفاهته وهو الآخر لا يحتاج الى برهان ودليل، ولسنا هنا لنشكوك من وجودهم في البرلمان الأتحادي وفي أجهزة الدولة المختلفة. إننا هنا أيها السيد البارزاني لنشكو من دلّ البعثيين على قرانا الآمنة، من تقدم صفوفهم وهم يحشروننا في السيارات العسكرية الى حيث مقتلنا وأطفالنا. إننا هنا لنشكوك الجحوش الذي كانوا أشّد فتكا بنا من البعثيين، إننا هنا لنسألكم أن لماذا لم تحاسبوا قائدا منهم، إننا هنا لنسألك متعجبين: أن كيف تصرفون لهم وعوائلهم رواتب خيالية!!
صمت البارزاني للحظات، وقبل أن يبدأ الحديث فتحت النسوة أكياسهنّ ورمين رؤوس أطفالهنّ التي ثقبها رصاص الجبناء بين أرجل السيد البارزاني قائلات: الأمر يعود إليك أيها السيد البارزاني، فأطفالنا يرفضون دخول الجنّة ونحن معهم لأنّهم يريدون رؤية الجحوش في أقفاص الأتهام. هذه جماجم أطفالنا أمامكم ، فأمّا أن تركلوها الى حيث أرجل الجحوش ليتلاعبوا بها، أو يضعوها على موائد طعامهم الدسمة والمنهوبة من جيوب فقراء الكورد، وأمّا أن تثبتوا للشعب الكوردي قبل أن تثبتوا لنا من أن إمتيازات الجحوش والذين تعرفهم أكثر منّا ستنتهي بقانون، وأن لا مكان لهم في الحقل السياسي بكوردستان بعد اليوم. من المعيب أيها السيد البارزاني أن يكون القتلة طلقاء، والمقابر الجماعية شاهدة على إجرامهم ودناءتهم. السيد البارزاني، هناك من يتعامل بالمثل بين الجلاد والضحية، لكن أن يكون الجلاد مكرما معززا والضحية تصرخ (وإذا الموءُودة سئلت . بأي ذنب قُتِلَتْ)، فأنها وقسما بأطفال الكورد في مقابرهم الجماعية لقسمة ضيزى كما تقول العرب.
زكي رضا
الدنمارك