فسوريا الحالية المسماة بالعربية، لم تكن تشمل الثلث الكردي، ديمغرافية، وجغرافية، المسماة الأن بشرقي وغربي الفرات. فالدولة المتكونة بناء على معاهدتي أنقرة 1 و2 ولوزان الثانية عام 1923م، كانت أقل من نصف مساحة ما هي عليها الأن، وخريطتها كانت مرسومة بدون كردستان، أي الجزيرة من ديركا حمكو إلى الطرف الغربي من منطقة عفرين، قبيل إسقاط الإمبراطورية العثمانية المنهارة في معاهدة سان ريمو في 25 نيسان عام 1920م بناء على أغلبية الديمغرافية العربية أو المستعربة، من السوريين الأصلاء بحكم اللغة.
كانت سوريا هي المنطقة الممتدة ما بين نهر الفرات والبادية السورية شرقا والبحر الأبيض المتوسط غربا، والممتدة إلى حوران جنوبا، وحلب شمالا، وكانت مساحتها بحدود 60 ألف كم مربع فقط، وقدر عدد سكانها بـ 3 مليون نسمة مع لبنان الحالية، وسميت حينها بسوريا الكبرى، المقسمة إلى أربع كيانات: حكومة حلب من غربي الفرات إلى البحر الأبيض المتوسط. ولبنان من طرابلس إلى فلسطين. دمشق وحماة وحمص وحوران، ودولة جبل الدروز. وقد ثبتت هذه الجغرافية ككيان لسوريا الكبرى ثانية بعد عدة أشهر في 10 آب من نفس العام، ضمن معاهدة سيفر المجتمعة فيها 27 دولة في المدينة الفرنسية سيفر شمال مدينة ليون بمعمل لصنع الخزفيات.
وما نرى الأن سوريا كوطن، تشمل عدة قوميات، تضم إلى جانب الجغرافية الأساسية، الجزء الجنوبي الغربي من كردستان بقسميها، منطقة عفرين في غربي الفرات، وشمال حكومة حلب المذكورة في معاهدة سان ريمو، وشرقي نهر الفرات الفاصل من جهة الوسط والجنوب بين كردستان والولايات العربية التابعة للدولة العثمانية. ففي الفترة التي حاول العثمانيون فيها تحضير البدو في منطقة دير الزور لسهولة جمع الضرائب منهم، بعكس قبائل الرحل وفشلوا فيها، لم يدرجوا معهم شمال نهر الفرات المنطقة التي لم تبلغها القبائل العربية (باستثناء سنوات الجفاف) إلا بعد الاحتلال الفرنسي، وبالتالي، وتحت هيمنة السلطات العروبية، مهدت لهم تجاوز النهر والتمدد في كردستان الجنوبية، وتم تعريب مدن ومناطق عدة، وقلصت الديمغرافية الكردية في الجزيرة والمناطق المحيطة بعفرين، كالباب وجرابلس ومنبج، وغيرها، تحت عمليات استيطان القبائل العربية الرحل القادمة من حائل، وتحضيرهم. وعن طريق مخططات التعريب، والتهجير القسري، والحصار الاقتصادي للهجرة من مناطقهم، وإخلاءها للعرب القادمون الجدد إلى المناطق الكردية.
ولمعرفة المراحل الزمنية وخلفية الهجرات المتتالية للقبائل العربية من منطقتها حائل نحو جنوب الفرات بعد خسارتها أمام أل السعود، يمكن الاطلاع على كتاب (البدوي الأخير) لمارسيل كوربر شوك، وكتاب الليدي آن بلنت (قبائل بدو الفرات). والمعركة المشهورة التي جرت بين (أل المطلق) من زعماء الشمر وأل السعود معركة (العدوة) تعتبر بداية الهجرات الأولى للشمر والطي وفروعهما، وعشائر أقل مكانة مثل السبعة والعبيدات والعكيدات من مناطقهم، وكان ذلك في نهاية القرن الثامن عشر، لكنهم لم يقطعوا نهر الفرات إلا بمجموعات قليلة، وجلهم من عشيرة الشمر المشهورة والكثيرة العدد والمتجهة نحو شمال الأنبار، ويتحدث في هذه الرحالة الدانماركي كارستن نيبور قرابة عام 1765م في كتابه (وصف بلاد العرب)، وتؤكد على هذا أن جميع المعارك التي جرت بين الرولة والشمر من جهة والفدعان من فروع العنزة والسبعة من جهة أخرى في نهايات القرن الثامن عشر كانت في جنوب نهر الفرات على أطراف البادية ما بين تدمر ودير الزور.
أما عن الهجرات التي تمكنوا فيها من اجتياز نهر الفرات بشكل واسع والدخول في مناطق جنوب كردستان، فقد تمت مع مراحل تأسيس الدولة السعودية الثالثة الحالية، كما يسميها مؤرخو أل السعود، لأن المملكة الثانية فشلت بعد فترة قصيرة من ظهورها في الرياض، وقضى عليها محمد بن رشيد حاكم حائل، ونعني هنا أن مراحل الهجرة العامة للقبائل العربية المذكورة، ظهرت مع بدايات تكوين المملكة العربية السعودية أي بدايات القرن الماضي، فمن المعروف أن عبدالعزيز بن سعود أحتل الرياض عام 1902م ومضت عليها سنوات إلى أن تمكن من بلوغ منطقة الحائل في شمال شبه الجزيرة العربية بمساعدة الإنكليز ومجموعات الحركة الوهابية التابعة لصهرة محمد بن عبد الوهاب ويذكر أنه تم احتلال منطقة الحائل عام 1921م وبعدها منطقة حفر الباطن والعرعر، وهي من المناطق التي كانت للقبائل المهاجرة نحو كردستان. وللتغطية على هذه الهجرات وهذا التاريخ، يقوم البعض من الكتاب العروبيين أمثال محمد جمال باروت وغيره المجندين لتحريف تاريخ الكرد في الجزيرة، بخلق حكاية الهجرة الكردية بعد ثوراتنا في الشمالي الكردستاني، وجعلها سببا في ظهور الديمغرافية الكردية في الجزيرة. ومن المؤلم، بشكل أو أخر، مرور هذا التلاعب بالتاريخ على عدد من الكتاب والسياسيين الكرد، ومنهم من بنوا عليها دراساتهم التاريخية عن الجزيرة الكردستانية.
هذه الإشكاليات تغيب عن مدارك البعض من كتابنا الكرد أو يتجاهلونها عند حضور غاية حزبية أو شخصية، ولا يدركون أنها تتلاءم ومفاهيم المتربصين بالحقوق القومية الكردية، الذين يتناسون الماضي الذي تم فيها طمس حقوقنا، وعمليات التعريب، والتهجير القسري، ومحاولات القضاء على لغتنا، والحد من العلاقات الكردستانية، وغيرها.
ومن الأخطاء الفادحة الأخرى المتعلقة بتاريخ جزيرتنا والتي يقع فيها العديد من كتابنا وباحثينا، نشرهم للعريضة المقدمة من قبل البعض من رؤساء العشائر الكردية، إلى إدارة المستعمر الفرنسي في الثلاثينات من القرن الماضي، عام (1937م) وعلى رأسهم الأمير جلادت بدرخان، على أنهم طالبوا فيها بإدارة ذاتية، وبناء مدرسة باللغة الكردية في الحسكة، وبعض المطالب الأخرى البسيطة والتي لم تتغير على مدى قرن كامل، فالبنود والمطالب هي ذاتها تدرج اليوم ضمن مناهج معظم أطراف الحراك الكردي.
فحينها مثلما اليوم، مطالب معظم أطراف حراكنا، تتلاءم وطموحات أقلية تعيش في ضيافة دولة تحاول الحفاظ على وجودها، ومن الخطأ التباهي بها، والترويج لها، خاصة في هذه المرحلة. فما وردت في تلك العريضة، تلقفها البعض من الباحثين العرب السوريين ليظهروا على أن الكرد لم يكن لهم طموحات ولا ركائز القومية في سوريا، وجغرافية الجزيرة التي يطالبون أن تكون لهم فيها حقوق ثقافية، وإدارة ذاتية، تؤكد أنها ليست جغرافيتهم، ولذلك تشدق أمثال محمد جمال باروت، وعزمي بشارة، والبعض من شخصيات المعارضة السورية، بالقول إن الكرد قدموا إلى الجزيرة في العشرينات من القرن الماضي كشريحة مهاجرة وأرادت فيما بعد البقاء ضمن سوريا! استخلص أعداؤنا هذه الجدلية من كتابات البعض من كتابنا الكرد، ومن مجموعة ساذجة أرادت تفخيم الذات على حساب تاريخ الأمة، المتناسين أن ما تم كان لها خلفيات وكان ورائها غايات غيبت فيها مصالح أمتنا، مثلما فعلها البريطانيون في العراق.
فالزعماء الكرد أمثال جلادت بدرخان، وغيره من المثقفين الذين كان لهم دراية بالعلاقات الدولية، كان عليهم أن يطالبوا المستعمر الفرنسي بالاستقلال وليست بإدارة ذاتية، وعلى حراكنا الثقافي في الوقت الحاضر والذين يروجون لهذه الوثيقة، أن يدركوا أن هذا المطلب دفعهم إليها الفرنسيين وبخباثة، لإعلاء شأن الأقلية المسيحية، ومساواتها بالكرد ضمن الدولة السورية، وعلى أثرها دعمت فرنسا حينها البعض من الكرد ماديا ومعنويا، وهمشت الأكثرية وخاصة الشخصيات الثقافية الواعية، ليصبح سهلا لها فرض شروطها، وعلى أثرها أدعت السلطات العروبية بأن الكرد دخلاء على جغرافية جنوب غربي كردستان، وهي ذاتها التي تروج لها اليوم شريحة من الكتاب العروبيين في المرحلة التي لم يعد يتمكنون فيها من التعتيم على الكرد كشعب صاحب قضية.
ومن المؤسف هذه الخدع التاريخية، والمفاهيم الموبوءة لا ينتبه إليها أغلبية باحثينا الكرد، ولا يعلم معظم المطلعين على أن تاريخ المنطقة مليئة بالمعارك الجانبية، رغم ما كان عليه القبائل الكردية من حسن الضيافة والاستقبال للقبائل العربية الهاربة من بطش أل السعود، والجنوح إلى حل الإشكاليات بالطرق السلمية، مع ذلك أجبروا على خوض معارك مع القبائل العربية، بدءا من التي جرت في منطقة عفرين بين العشائر الكردية وحركة المريدين من جهة وبينهم وبين العشائر العربية القادمة من الجنوب كالعبيدات وفروعها، دفاعا عن جغرافيتهم وممتلكاتهم، بالضبط مثلما يقوم به أهلنا الأن في عفرين ضد مرتزقة أردوغان الذين يستولون على الممتلكات بكل الوسائل الخسيسة، فحينها كانت تقتطع أراضيهم سنة بعد سنة وبدعم من السلطات العروبية، تفعلها الأن سلطة أردوغان وتساند مرتزقتها من المنظمات العروبية التكفيرية…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
3-12-2018م