إن يوم الخبز والخبازات في الموصل يوم مشهود وقصته طريفة جميلة وجديرة بالكتابة للذكرى والتاريخ. فيوم الخبز يوم متميز في حياة الموصليين نظرًا لأهميته عند الجميع فالموصليون معروفون بالاهتمام الكبير بما تحتاج إليه الأسرة من أنواع المؤونة قبل حلول فصل الشتاء الطويل، من برغل بأنواعه الناعم والخشن، ثم الرشتا ( الشعرية المحلية) والدهن (السمن) والرزوالسماق والملح، وكذلك الحطب والخشب والفحم و…
نبدأ بالبرغل وهو مهم في حياة أهل الموصل على اختلاف أنواعه. ويكون تحضيره أولا بسلق الحنطة في قدر كبير (دست) وذلك أمام باب البيت، وبعد أن تخمد النيران ينقلون المسلوق إلى السطح ليجف، مدة يومين أو ثلاثة وأحيانا أربعة، حسب تقدير الخبيرة عجوز البيت، ثم يضعونه في الحوش فيحضر بعد ذلك بيومين أو ثلاثة أصحاب ماكنة الجرش (ميخو ويوسف السناطيان) مع ماكنتهما الضخمة بصوتها الصاخب فيقومان بعملية الجرش وتكون أم البيت جاهزة وأمامها الأواني لتصنيف أنواع البرغل بالغربال: الخشن للطبخ والآخر للكبة ثم الناعم للشوربة (السنداغة) والجريش للكبة مع ناعمة البرغل. أما الحبية (المدقوقة) فلها عملية خاصة: بعد أن تأتي الحبية من مدار بيت سقا الحصيغ تكون جاهزة لطبخ (الكشكا) أو الهريسة أو البرما، توضع فيالكوارا أو البراميل، إلى جانب الإناء المحفوظة فيه (الغشتا-الرشتا)، وهذه لها يوم خاص لتحضيرها ويوم في تحميصها في الجافوف وينتج عن هذه العملية ما يعرف بالـ(سويق) وهو الطحين المحمص المرافق لتحميص الرشتا ويتهافت الأولاد على تناوله والاستمتاع بطعمه اللذيذ وهم يرددون: (سويق اللّويق).. ولا تسألني ما المقصود بهذه العبارة!
وبعد هذه المقدمة التاريخية الفلكلورية، أبدا بموضوع الخبز والخبّازات. إذ على أهل البيت أولاً أن يأخذوا الموعد ليوم الخبز من الخبازات وأدركت هيئتين من الخبازات في محلتنا (حوش الخان وسوق الشعارين) بالموصل، فالهيئة الأولى من الكلدان برئاسة الشبّاكة (نرمي/أم إيليا) وهي من تلكيف مع مواطنتها الخبازة (ميّة=مريم) والمعاونة (شوشي) من تلسقف وهذه لها نشاطات أخرى متعددة في البحث عن العرائس والدلالة عليهن. أما الفئة الثانية فهي من قرةقوش برئاسة الخبازة (وردايي=وردة) والشبّاكة (هلّوكي). وكل فئة من هاتين الهيئتين لها زبائن ومعارف.
هذا في مناظق حوش الخان وسوق الشعارين والميدان وحوش البيعة، ولا بد من وجود خبازات غيرهن في منطقة الساعة ومار توما وخزرج وكان تواجدهن في بيت (خاتون خوقا)* مقابل السرجخانة على شارع نينوى قرب بيت دبدوب.
فبعد أخذ الموعد تحضر هيئة الخبازات إلى بيتنا على الشارع (شارع نينوى)، وبعد الترحيب بهن يكون طعام العشاء جاهزًا (باميا أو غيرها) ثم النوم في الحوش فالدنيا خريف. وبعد منتصف الليل تقريبا تبدأ عملية العجن، فالطحين جاهز ومقداره نحو مئة كيلو، بعد نخله من قبل أم البيت (فصل النخالة وبيعها بعدئذٍ لأحد المتجولين من أصحاب المواشي). وتقوم بالعجن (نرمي وشوشي)، فالخميرة جاهزة (قطعة من العجين المخمر مسبقًا يتم إعدادها أو طلبها من بيوت الأقارب بالتبادل حسب الحاجة) وكذلك الماء الحار. ويحفظ العجين ملفوفا في الطشت الكبير، ويكون الصباح قد لاح والفطور جاهز (قيمر وجبن مع الشاي وخبز السوق)..
ثم تبدأ عملية التدوير بالـ(شوبك =المرقاق) من قبل شوشي على رخامة صغيرة أمامها، ثم تقدم القرص إلى الشبّاكة (نرمي) وتضعها على ظهر القصعة أمامها ثم تعمل فيها بالنشّابة عدة مرات فيتحول إلى رغيف دائري قطره نحو (70سم) تقريبا.. وتكون مية الخبازة قد انتهت من إيقاد التنور بالحطب وقطع الخشب الصغيرة والتبن مع نشارة الخشب. وها هي أمام التنور وبيدها الملزقة تضع فوقها الرغيف المتهدل من أطرافها فتسارع إلى لصقه بالتنور ويخرج بعد قليل خبزًا حارًا شهيًا (والملزقة هي أشبه بوسادة من القماش تستعملها الخبّازة للصق الرغيف بالتنور كما تضعها تحت رأسها عند النوم وهي بأبعاد (40*30)سم، ولها فتحة خاصة تدخل يدها فيها لتسهيل العمل.
بعد خروج الرغيف من التنور تطويه مرتين وهكذا تستلم أم البيت الأرغفة وتأخذها إلى السرداب لتضعها في المخزن الخاص الجاهز لحفظ الخبز (الدَّن) وهو صندوق من الخشب يتسع لنحو مئة رغيف.. وكنا نقف بالمرصاد أمام الخبّازة لتناول الخبز الحار اللذيذ بعد عودتنا من المدرسة ومشاهدتنا أحداث هذا النهار المميز.
وهكذا بعد الانتهاء من تهيئة العجين كله لخبزه بعد شبكه وتقديمه للتنور، لا تنسى أم البيت تهيئة لوازم (المطبقايات) وهي أقراص تعجن بالدهن وتقوم الخبازة بإنضاجها في التنور لتصبح طعاما شهيا بنكهة طيبة للآكلين.. هذا وقبل أن تنتهي الخبّازة من عمل الخبز والمطبقايات تقدم لها أم البيت (البرما) لتضعها في التنور قبل انصرافها لكي تصبح في فجر اليوم التالي فطورًا لذيذًا جدا..والبرما كما يعرفها كثير من الشيوخ هي خليط من العدس الصحيح (غير مجروش) والحمص والحبية مع اللحم المكبوس توضع كلها في البرما وهي إناء من الفخار لا يتأثر بالنار.
وهكذا ينتهي هذا اليوم المميز عند أهل البيت فتقبض نرمي وشوشي كل واحدة منهما (150فلسا أجرة عملها.. وتبقى الخبازة نحو ساعة أخرى لتنظيم أمر البرما وإطفاء التنور من اللهب ثم تأخذ اجرتها كذلك (150فلسا) ثم تحمل ملزقتها وتنصرف بسلام..
وبعد وضع الخبز في موضعه الآمن في السرداب والاطمئنان عليه من الفئران، تعود أم البيت النشيطة إلى تنظيف وترتيب الحوش وإعادة الأمور إلى نصابها بعد هذا اليوم المتعب.. ويتكرر هذا الاحتفال مرة أخرى في بيتنا عندما يقوم بيت العم ناصر ثم بيت العم سمعان بالخبز ولا عجب في ذلك فنحن في بيت واحد واسع كبير يقع على شارع نينوى فيه ست غرف في طابقين عدا السراديب الثلاثة وعدد الساكنين ثلاث أُسر مع الأولاد وكذلك العم الخوري روفائيل ووالدته (نانا مجودة العجوز) وعددنا جميعا أكثر من عشرين نفسا..
كان ذلك في حدود سنة 1940 أو قبلها بقليل.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
-*بيت خاتون خوقا هو بيت عتيق كان يستخدم كخان أو نزل للمغتربين أو القادمين الجدد
إلى المدينة من القرى القريبة.