انتفاضة الجيش وثورة الشعب في 14 تموز 1958
لا يمكن لأي حركة سياسية أو عسكرية أن تنجح في قلب نظام حكم في أي بلد كان وتتسلَّم السلطة، ما لم تكن شروط ومستلزمات تلك العملية، الموضوعية منها والذاتية، ناضجة ومتوفرة. فمن تابع فترة نظام الحكم الملكي في العراق في العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي، يستطيع أن يقدر بأن الصراع بين المجتمع وقواه السياسية من جهة، والفئات الحاكمة وسلطتها السياسية من جهة أخرى، قد بدأ بالتفاقم المتسارع، وإن عوامل التفكك والانحلال بدأت تنخر بالدولة الملكية وتؤهلها للتغيير. ولم تكن الوحدات العسكرية التي قادها عبد الكريم قاسم في الرابع عشر من تموز 1958 سوى الأداة التنفيذية لفعل قوانين التطور الاجتماعي والتحولات التاريخية الذي تجلى في المد الثوري العارم الذي شهدته بغداد العاصمة وبقية المدن والقرى العراقية، كما شهده العالم في صبيحة الانتفاضة العسكرية المظفرة.
أهداف حركة الضباط الأحرار
حدَّدت حركة الضباط الأحرار أهدافها بما يلي: 1) إلغاء النظام الملكي وإقامة الجمهورية؛ 2)الخروج من الاتحاد الهاشمي مع الأردن؛ 3) الخروج من منطقة الإسترليني؛ 4) نبذ الأحلاف العسكرية والخروج من حلف بغداد والالتزام بالحياد ودول عدم الانحياز؛ 5) إلغاء الإقطاع وتشريع قانون الإصلاح الزراعي وتحرير الفلاحين؛ 6) إقامة أفضل الروابط مع الدول العربية، وخاصة مع الجمهورية العربية المتحدة؛ 7) العمل عل تحرير فلسطين؛ 8) إقامة العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع جميع البلدان على قدم المساواة؛ 9) العمل على تأمين حقوق الشعب العراقي بثروته النفطية وتامين دخل أكبر لتأمين تنفيذ مشاريعه التنموية؛ 10) العمل على النهوض بالبلاد من حالة التخلف في مختلف المجالات. (قارن: حامد الحمداني، ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاساتها واغتيالها، فيشو ميديا–السويد، 2006، ص 172/173).
أهداف جبهة الاتحاد الوطني
حددت اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني أهدافها بما يلي: “1) إسقاط حكومة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي؛ 2) الخروج من حلف بغداد، والتزام الحياد الإيجابي؛ 3) إطلاق الحريات الديمقراطية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وإلغاء كل ما يتعارض معها من مراسيم وتشريعات شاذة؛ 4) إلغاء مرسوم الإدارة العرفية، وحل المجالس العرفية، وإطلاق سراح المعتقلين والمسجونين السياسيين، وإعادة المفصولين إلى وظائفهم وكلياتهم ومدارسهم وإلغاء مرسوم إسقاط الجنسية عن المواطنين؛ 5) تعزيز الروابط مع البلدان العربية المتحررة.” (راجع: المصدر السابق نفسه).
كانت هذه الأهداف بمجملها تعبر عن وعي بواقع العراق وتحمل مسؤولية تغيير هذا الواقع بما يعيد التناغم والانسجام بين النظام السياسي وسياساته وإرادة ومصالح الشعب في الداخل والخارج. ولم تجسد تطرفاً أو الانتقام من أحد، سواء أكان من العائلة المالكة، أم من النخبة السياسية التي حكمت العراق طوال 37 عاما. وهنا تستوجب الإشارة إلى استحالة السيطرة على ردود أفعال الناس إزاء ما عانوه من الحكم الملكي، بعد انتصار الثورة, وبهذا الصدد يمكن إيراد أمثلة من دول كثيرة حصلت فيها انتهاكات كبيرة، كان ينبغي لها ألَّا تحصل، كما في ثورة 14 تموز في فرنسا، أو ما حصل في العراق بالنسبة لشخصيات ثلاث ليس بقتلهم فقط، بل التمثيل بجثثهم وسحلها وتعليقها على أعمدة في شوارع بغداد أيضا، وهم عبد الإله بن علي، ونوري السعيد، وصباح نوري السعيد، إضافة إلى قتل الملك الشاب فيصل الثاني، الذي كان لتوه قد تسلم العرش، وجميع أفراد العائلة الهاشمية المالكة الذين وجدوا في قصر الرحاب حينذاك. وهي جريمة بشعة نفذها النقيب عبد الستار العبوسي دون قرار صادر عن الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، أو عن لجنة الضباط الأحرار، وانتشر خبر مفاده أن عبد السلام عارف هو من أعطى الأمر بقتلهم!
مسيرة ثورة 14 تموز 1958
مرَّت ثورة تموز/يوليو 1958 بفترتين هما:
الفترة الأولى: النهوض والمنجزات وبداية الصراعات والمصاعب
لم تحصل أعمال شغب أو نهب أو سرقات للبيوت والمحلات التجارية، ولم تقع حوادث أمنية، ما عدا الجريمة التي أشرنا إليها، رغم خروج الملايين إلى شوارع البلاد، عبرت فيه عن نضجها العام ووعيها السياسي وحرصها على ممتلكات الدولة والمجتمع. وتجدر هنا المقارنة بين أيام الثورة الأولى عام 1958، وبين ما حصل في بغداد والمدن الأخرى بعد احتلال العراق عام 2003. إذ سمحت القوات الأمريكية التي احتلت بغداد بوقوع عمليات نهب وسلب لدوائر الدولة وبيوت المسؤولين والكثير من المحلات التجارية والبنوك، إضافة إلى الاستيلاء على الكثير منها. شارك في ذلك الكثير من جنود وضباط الاحتلال، لاسيما في نهبهم لثروتنا الوطنية من المتاحف العراقية والقصور الرئاسية والبنوك. إن هذه الأعمال المشينة عبَّر عن حالة الجماهير بعد 35 عاماً أو 50 من هيمنة القوى البعثية والقومية والاستبداد والظلم الذي عانت منه تحت حكم حزب البعث، إضافة إلى الحروب والمجاعات التي تسبب بها وعمقها وزاد فيها الحصار الاقتصادي الدولي.
خلال هذه الفترة تم إعلان الدستور المؤقت بمضامين ديمقراطية وتأكيد شراكة العرب والكرد في هذا الوطن، وحرية أتباع الديانات والمذاهب في ممارسة دياناتهم وطقوسهم، وتشكيل مجلس الرئاسة من ثلاث شخصيات سياسية تجمع بين المدنيين والعسكريين، وبين الشيعة والسنة وبين العرب والكرد في أن واحد، والخروج من حلف بغداد ومن منطقة الإسترليني، وعقد اتفاقية تصنيع البلاد مع الاتحاد السوفييتي وإصدار قوانين العمل والعمال والإصلاح الزراعي والأحوال المدنية وتوسيع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الاشتراكية وغيرها، والدعوة إلى إقامة أفضل العلاقات مع الدول العربية والمجاورة، والانضمام لدول عدم الانحياز، ومبادرة تشكيل منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، وقرار استعادة 99،5% من الأراضي غير المستغلة التي كانت بحوزة شركات النفط الأجنبية، وتوزيع الأراضي السكنية على العائلات الفقيرة، لاسيما في مدينة الثورة، وتأسيس جامعة بغداد والتوسع في إرسال البعثات والزمالات الدراسية ومكافحة الأمية…الخ.
واجهت هذه الإجراءات ردود فعل متباينة على المستويات الداخلية والعربية والدولية. فعلى المستوى الداخلي وقفت الغالبية العظمى من المجتمع إلى جانب السياسات الاقتصادية والاجتماعية والدولية التي مارستها حكومة عبد الكريم قاسم وأيدتها بحرارة، لأنها كانت تتطلع لها وتحتاجها، في حين كانت مجموعة صغيرة من الفئات التي تضررت بتلك السياسات، ممن أشير إليهم سابقاً. كما برزت صراعات سياسية جديدة في نهاية هذه الفترة بين مجموعتين سياسيتين مختلفتين من جهة، وحكومة الثورة من جهة أخرى، ثم تفاقمت في الفترة الثانية، وهما الحزب الديمقراطي الكردي (الكردستاني)، بسبب الموقف من القضية الكردية وتباين الرأي بينهما، ومن ثم المؤسسات الدينية السنية والمرجعيات الدينية الشيعية بسبب قانون الأحوال المدنية وحقوق المرأة الذي أقرَّ بعضها القانون، ومسائل أخرى تمس التحولات الاجتماعية التي وقفت القوى الدينية كلها ضدها والادعاء بشيوعية قاسم!!
وعلى المستوى العربي اتخذت الجمهورية العربية المتحدة ورئيسها جمال عبد الناصر موقفاً مناهضاً لحكومة قاسم، لأنها لم ترفع شعار الوحدة معها، الشعار الذي طرحته القوى القومية والبعثية، وأدى إلى انشقاق الشارع العراقي إلى مجموعتين، إحداهما ايدت الوحدة وأخرى رفعت شعار الاتحاد الفيدرالي لتجاوز شعار الوحدة، رغم إن الوضع لم يكن مناسباً للشعارين. وتسبب هذا الصراع إلى نشوب خلاف جديد مع الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي طرح السؤال التالي: كيف سيكون وضع الكرد وكردستان في حالتي الوحدة أو الاتحاد؟
لم تكتف الجمهورية العربية المتحدة بطرح هذا الشعار، بل نظمت تحالفا ضد الثورة ونهجها وموَّلت القوى القومية والبعثية وكل المناهضين للثورة بالمال والسلاح والعتاد وسخَّرت الإعلام المصري والسوري وأسست إذاعة خاصة لتبث من دمشق باسم العراق. لم يمر على الثورة عامها الأول حتى نفذ أول تمرد وتآمر على جمهورية 14 تموز من جانب القوميين والبعثيين ومن ساندهم من القوى المتضررة من الثورة. وحصل هذا التآمر بعلم وتأييد تامين من عبد الناصر ومكتب المخابرات المركزية الأمريكي، حين تحرك العقيد عبد الوهاب الشواب ونفذ تمرداً فاشلاً في الموصل. وقد أدى إلى توترات إضافية شديدة في أوضاع البلاد السياسية، وإلى نزوح كبير للعائلات المسيحية وعائلات شيوعية بسبب حملة إرهابية واغتيالات مكثفة ضدهم.
لم تستطع الدول الرأسمالية وشركات النفط الاحتكارية قبول الثورة وعواقبها على وجودها العسكري ومصالحها الاقتصادية والسياسية في العراق، بما اتخذته حكومة الثورة من اجراءات عرَّضت الكثير من مصالحها ومواقعها إلى مخاطر جمة لا في العراق فحسب، بل في منطقة الخليج وعموم الشرق الأوسط، مما دفعها إلى الدخول في عملية تآمر واضحة ضد الوضع الجديد والسعي لتشويهه في الصحافة والإعلام الدوليين وإثارة الإشكاليات الداخلية وتمويل القوى المتآمرة.
لم يكن الوعي السياسي للأحزاب السياسية العراقية كلها دون استثناء، رغم وجود تباين فيما بينها، ولجوء بعضها القوى القومية والبعثية إلى الاغتيالات والتآمر، في حين أيدت أخرى نظام الحكم الجديد، كما لم يكن قاسم والحكومة على مستوى المسؤولية الكبيرة. وكانت الحكمة القديمة تقول: القيام بالثورة أسهل بكثير من الاحتفاظ بزخمها وتنفيذ سياساتها وتطويرها وحمايتها. في هذه الفترة بالذات، لاسيما بعد محاولة الاعتداء على الزعيم قاسم من جانب قوى حزب البعث، برزت بشكل واضح أولى علامات الانفراد بالقرارات والإجراءات والاستفادة من صراع القوى والأحزاب السياسية العراقية لدى قاسم، وسعيه لتعزيز دوره والتخلي عن الوجهة الأساسية التي كان على الحكم السير صوبها، أي إرساء أسس الحياة الديمقراطية واعتماد دستور ديمقراطي متقدم ودائم وإجراء انتخابات نيابية، أي البدء بتسليم السلطة إلى المدنيين وعودة القوات المسلحة إلى معسكراتها لحماية حدود البلاد.
لقد حصلت صراعات حادة بين القوى الوطنية والديمقراطية واليسارية من جهة، والقوى القومية والبعثية ومن ساندها من قوى النظام السابق من جهة ثانية، واستقطب الوضع حول وجهة تطور البلاد وتركز على شخصين هما عبد الكريم قاسم وعبد السلام محمد عارف على التوالي. ورفعت الجماهير الواسعة، التي ملأت شوارع العاصمة والمدن الأخرى، شعارات منها: عاش الزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم، والحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم، والاتحاد الفيدرالي، ولم يكن لقيادة الحزب الشيوعي دور في ذلك، ولكنها لم تقف ضدها. في حين برَّزَ البعثيون والقوميون وقوى رجعية عبد السلام محمد عارف ورفعوا شعار الوحدة وضد قاسم والشيوعيين وكل الديمقراطيين. وكان الوضع يزداد تأزماً. فتوجه قاسم بالقمع ضد القوميين والبعثيين بحدود ضيقة جداً وأعدم شخصيات عسكرية منهم، ثم غير الدفة فتوجه ضد الشيوعيين والديمقراطيين، لاسيما بعد وقوع الصراعات الدموية في الموصل وكركوك وسقوط قتلى وجرحى، ثم البدء بعمليات اغتيال للشيوعيين والديمقراطيين في مختلف مدن العراق من جانب قوى البعث والقوميين، إضافة إلى قيام الحكم باعتقال إعداد غفيرة من الشيوعين وزجهم في السجون بسبب رفعهم شعار “السلم في كردستان“، بعد أن بدأت المعارك بين الجيش العراقي والقوات المسلحة الكردية في أيلول عام 1961.
وفي الفترة الأولى، ومن أجل حماية مكاسب الثورة، اعلنَ قاسم قرار تشكيل المقاومة الشعبية رسمياً، وكان الشيوعيون واليساريون والديمقراطيون المستقلون قوامها الأساس. لعبت هذه المنظمة شبه العسكرية تحت قياد ضابط حكومي معين من قبل رئيس الحكومة دوراً في مواجهة بعض الأعمال المعادية والكشف عن بعض مؤامراتها، ولكن المعلومات الحيادية المتوفرة تشير إلى ارتكاب بعض الأخطاء من قبل بعض الشباب الأعضاء فيها وإساءة تصرف في هذه المدينة أو تلك. وقد شن المعادون للثورة حملة شعواء موجهة ضد المقاومة الشعبية، مما أدى إلى إعلان حلها وتعرض أفرادها إلى حملة ظالمة من جانب القوى المعادية للثورة.
أصدرت حكومة الثورة قراراً بتشكيل محكمة الشعب لمحاكمة النخبة القيادية الحاكمة في العهد الملكي، وفيما بعد من اتهم بالتآمر في أحداث الموصل وكركوك. وإذا كانت ضرورية ومعبئة في البداية، فإنها تحولت بمرور الوقت إلى منبر للخطابة والدعاية والسخرية من المتهمين. وأصبحت المحكمة غير متناغمة مع أصول المحاكمات الشرعية وحقوق الإنسان وحقوق المتهمين مهما كانت التهم الثقيلة الموجهة لهم، إلِّا إنها كانت تحاكي مزاج غالبة الناس ومستوى وعيهم ومدى وإدراكهم لحقوق الإنسان. وهي الأخرى تعرضت مع رئيسها فاضل عباس المهداوي إلى حملة كبيرة أدت في النهاية إلى إنهاء عملها.
انتهت الحلقة السادسة وتليها الحلقة السابع