فترة الانتكاسة والسقوط للعهد الجمهوري الأول
الفترة الثانية: فترة الانتكاسة والإجهاز على الجمهورية الأولى
بدأ الوضع الداخلي يزداد تعقيداً وتشابكاً. فما أن بدأ الجيش عملياته العسكرية ضد قوات الپيشمرگة الكردستانية في خريف عام 1961، وما أن أعلنت القيادة الكردية “ثورة أيلول” من نفس العام، ورفع الحزب الشيوعي العراقي شعار “السلم في كردستان“، حتى بدأت حملة اعتقالات واسعة في صفوف الشيوعيين وأعضاء في الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد والألوية الكردستانية وإصدار أحكام سريعة وقاسية بحق المعتقلين وزجهم في السجون، فنشأ توتر ملحوظ وضار بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم. وكانت أجهزة الأمن والقضاء مستعدة لهذا الغرض لأنها لم يصبها التغيير المنشود وتعاملت بشراسة ربما أكثر مما كان يسعى إليه قاسم. كما بدأت الجماعات الإسلامية الشيعية تتجمع تحت واجهة الحزب الفاطمي وتتحرك ضد حكومة قاسم وتشديد التهم ضد الشيوعيين. وفي الوقت ذاته رفع البعثيون والقوميون من هجومهم الشرس على الحكم والقوى الديمقراطية اليسارية والحزب الشيوعي بدعم مكثف وشامل من جانب الجمهورية العربية المتحدة ورئيسها جمال عبد الناصر. وتمادى كبار ملاك الأراضي الزراعية في الريف العراقي في تصديهم لتنفيذ بنود قانون الإصلاح الزراعي بدعم مباشر من الجهاز الإداري في القطاع الزراعي وتعطيله واتهام الفلاحين بالتعرض لهم، مما أدى إلى حصول توتر في الريف واتهام الحزب الشيوعي بالوقوف وراء ذلك أيضاً، لاسيما تنامي شعور لدى الفلاحين بابتعاد حكومة الثورة عن مساندتهم وحل مشكلاتهم المتفاقمة وعواقبها السلبية على الإنتاج الزراعي وعلى حياتهم. كل هذا أشر تحولاً ملموساً عن الحياة الديمقراطية التي برزت في أعقاب ثورة تموز حتى بداية عام 1960. فما هي العوامل الكامنة وراء هذا التراجع في مسيرة ثورة 14 تموز 1958؟
إن المتتبع لأحداث تلك الفترة يمكنه أن يستنتج ما يلي:
أدرك عبد الكريم قاسم شدة الأزمة الداخلية المتفاقمة، ولكنه لم يرَ إن سببها كامن في سياساته وممارساته، بل عزاها لغيره وللأحزاب السياسية العراقية. لهذا لم يطرأ على باله تغيير دفة السياسة لصالح الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني والبدء بوضع دستور دائم والتهيئة لانتخابات برلمانية ديمقراطية لتسليم الحكم للقوى المدنية وإقامة الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني وعودة القوات المسلحة إلى ثكناتها. بل راح قاسم يفجر الصراعات الخارجية التي تزيد من حدة الأوضاع الداخلية والخارجية، بأمل امتصاص الاحتقان الداخلي. فعمد إلى المطالبة بالكويت باعتبارها جزءاً من ولاية البصرة منذ العهد العثماني وقبل ذاك أيضاً، وهي حقيقة من حيث المبدأ قبل ترسيم الحدود من جانب الاستعمار البريطاني. بهذه المطالبة هيج ضده بريطانيا ودول الخليج والسعودية مرة واحدة، فبدأ العمل المكثف لتوفير الحلفاء في الداخل للانقضاض على الحكم الوطني. ثم بدأ معركة جديدة مع شركات النفط الأجنبية وألزمها على التفاوض لاستعادة بعض حقوق العراق في نفطه، لاسيما موضوع “تنفيق الريع” وما إلى ذلك. وبهذا حرك شركات النفط الاحتكارية وكل الدول الرأسمالية التي تقف مع هذه الشركات ضده. كما لم تكن الدعوة إلى تشكيل الأوبك موقع ارتياح من قبل شركات النفط العالمية ولا الدول الرأسمالية. ولا شك في أن وقوف الحكومة العراقية إلى جانب الحياد الإيجابي والتحرر من حبائل الحرب الباردة والعمل مع دول عدم الانحياز، قد حركت العالم الغربي ضد العراق واُعتبرت سياسات قاسم كلها موجهة ضدها ومساندة للاتحاد السوفييتي وحلفاءه، وأنها كلها ناجمة عن وجود ودور للشيوعيين في البلاد وتأثير الحزب الشيوعي على قاسم وحكومته!!
في ذات الفترة أجرى قاسم تغييرات واسعة في قيادات الفرق العسكرية العراقية باتجاه إبعاد الديمقراطيين أو الذين شعر بأنهم مع الحزب الشيوعي العراقي، وتم إبعادهم إلى مواقع بعيدة عن العاصمة بغداد، ونسَّب مكانهم عناصر قومية وبعثية أو من الضباط القدامى من العهد الملكي الذين لا يكنون الود لحكومة قاسم. وقدم قاسم بهذه التنقلات أكبر خدمة ممكنة غير مقصودة لتلك القوى التي كانت تتآمر عسكرياً ضده وضد الجمهورية الأولى.
رفض قاسم بإصرار عجيب، رغم حديثه عن تشكيل لجنة لوضع دستور دائم وإنهاء فترة الانتقال، إلى تحديد فترة الانتقال وإنجاز ما هو ضروري، إذ إن الواقع الفعلي كان يشير إلى خمس مسائل حاسمة:
-
إنه لا يريد التخلي عن السلطة مع اشتداد النزعة الفردية في حكم البلاد وفي اتخاذ القرارات، وعدم عودته للحكومة ولا حتى استشارتها فيما يتخذه من إجراءات.
-
وهو غير راغب بوضع دستور دائم في الوقت الحاضر ولا يميل إلى إجراء انتخابات برلمانية أو حياة ديمقراطية دستورية.
-
وأنه مصر على بقاء العسكر في السلطة، وأن يبقى هو القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الحكومة في آن واحد، كما أضعف دور مجلس السيادة الثلاثي كلية.
-
وأنه قد حقق تفوقه على القوى الأخرى بتأييد الشعب له، باعتباره الزعيم الأوحد للبلاد. وبهذا بدأت محاولاته التخلص من دور وتأثير الحزب الشيوعي على الجماهير من جهة، ودور القوميين والبعثيين من خلال ضرب بعضهم أو إعادة بعضهم لمواقع المسؤولة من جهة أخرى، لإرضاء بعض الدول العربية.
-
وأن تكون المعارك الخارجية التي أثارها مساعدة له في تخفيف الأجواء الداخلية وإشغال الناس بقضايا وطنية مثل الكويت ومفاوضات النفط.
مع هذا التراجع في سياسة قاسم واعتقاله المزيد من الشيوعيين والديمقراطيين وإبعاد الضباط الشيوعيين والديمقراطيين عن مواقع المسؤولية في القوات المسلحة، برز صراع ملموس في قيادة الحزب الشيوعي العراقي واللجنة العسكرية التابعة للحزب، دار حول الموقف من دور عبد الكريم قاسم وحكومته. كان الرأي الأول يميل إلى إجراء تغيير في العراق اعتماداً على قدرات الحزب والقوى الديمقراطية القريبة منه في القوات المسلحة، في حين رفض الرأي الآخر ذلك وأكد ضرورة العمل مع قاسم ومساعدته في تجاوز العثرات الراهنة في سياساته. تغلب الرأي الثاني في الحزب، كما وجد التأييد من جانب الاتحاد السوفييتي، الذي رأى في حكومة عبد الكريم قاسم وفي العراق دولة متحررة وصديقة يستوجب دعمها. ولا يعرف حتى الآن ما إذا كان فحوى هذا الصراع قد وصل إلى آذان عبد الكريم قاسم، فضلاً عن الشعار الخاطئالذي رفعته الجماهير “الحزب الشيوعي في الحكم مطلب عظيم“، فانتفض ضد الحزب وقرر معاقبته بالطريقة التي أدت إلى عواقب وخيمة عليه وعلى الحزب الشيوعي وعلى الشعب العراقي كله، رغم أن قرار قيادة الحزب الشيوعي النهائي كان لصالح العمل مع قاسم ودعمه.
لقد كانت تحركات المتآمرين صارخة ومفضوحة، يسمعها ويتلمسها كل إنسان يمتلك حساً سليماً ورؤيةً سياسية واقعية وناضجة. وفي حينها تلقى الحزب الشيوعي العراقي معلومات كثيرة ودقيقة تشير إلى استعدادات قوى التآمر، بُلّغَ بها عبد الكريم قاسم أكثر من مرة. لم يأبه بها واعتبرها، كما يبدو، مناكدة من الحزب الشيوعي ضد البعثيين والقوميين! وكان يؤكد باستمرار بأن الجيش والشعب معه ولن يخشى أحدا. فكانت الطامة الكبرى، وكان الانقلاب الفاشي الدموي الذي قاده حزب البعث وأشرفت عليه وكالة المخابرات المركزية ووفرت له المعلومات لتنفيذ مجزرة رهيبة ضد قادة الثورة والحزب الشيوعي العراقي، وضد القوى الديمقراطية وحركة التحرر الوطني في العراق.
يجري الحديث عن نزاهة ووطنية قاسم وعن دوره في الخلاص من النظام الملكي وإصداره التشريعات الديمقراطية المهمة. هذا الكلام صحيح جداً وتماماً، ولا يشك فيه حتى أعداء قاسم. ولكن النزاهة والوطنية وحب الفقراء ومأثرة قيادة الثورة سمات طيبة، غير إنها ليست كافية لوحدها لقيادة البلاد وحماية المكاسب ومصالح الشعب، بل لا بد لها أن تقترن بوعي عميق وقناعة تامة بالنظام السياسي الديمقراطي والحياة الحرة والدستورية والبرلمانية، والمجتمع المدني الديمقراطي والعلماني، والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة والالتزام بدور القوات المسلحة كمؤسسة في حماية حدود الوطن وليس حكم البلاد أو التدخل في شؤون الحكم. يفترض في الحاكم الديمقراطي أن يعي مسؤوليته إزاء الشعب والوطن، وأن يتصرف بحكمة وعقلانية إزاء مصائر البلاد. لم يتمكن قاسم، كما أرى، وعي الأوضاع الإقليمية والدولية المحيطة به والتي لم تكن إلى جانبه، بل كانت كلها تعمل بسرعة وكثافة ضده. لم تكن تلك المتطلبات الديمقراطية متوفرة في قاسم بفعل تربيته العسكرية وحبه للسلطة وقناعته بانه الشخص الأفضل في خدمة الشعب وحماية الوطن والأكثر إخلاصاً، وأن الشعب والجيش معه ولن يخذلاه!
لم يكن عبد الكريم قاسم وحده المسؤول عما حصل في العراق، لكنه كان المسؤول الأول، بل تتحملها معه القوى السياسية الديمقراطية والتقدمية واليسارية التي لم يكن وعيها ونشاطها بالمستوى المطلوب، بما يسهم في تجنيب المجتمع ما حصل له في انقلاب شباط/فباير 1963 وما بعده. ولكن المسؤولية الكبرى والأساسية في كل ما حصل للشعب والوطن تتحملها تلك القوى التي تآمرت على العراق والحكم الجمهوري الأول وعلى المكاسب الوطنية والديمقراطية التي تحققت للشعب خلال فترة قصيرة من عمر الجمهورية، فضلاً عن القوى العربية والإقليمية والدولية وشركات النفط الاحتكارية التي شاركت القوى الداخلية في عدائها للثورة ومكاسبها ولعبد الكريم قاسم بالذات. لقد لعبت الولايات المتحدة ووكالة المخابرات المركزية ودول حلف بغداد والدول العربية، لاسيما، مصر دوراً قذراً وعدوانياً مباشراً ضد الشعب العراقي والجمهورية الأولى وضد قائد ثورة تموز 1958.
إن ما حصل في 8 شباط/فبراير 1963 حتى سقوط نظام التحالف البعثي–القومي–الرجعي–الأمريكي من مجازر دموية ضد قادة الثورة وضد قادة وكوادر وأعضاء وأصدقاء الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية ومناصري قاسم وضد المجتمع عموماً، فضلاً عن جريمة قطار الموت وإعدام المناضلين الشجعان حسن سريع ورفاقه، وزج الآلاف في السجون والمعتقلات وتنفيذ عمليات التعذيب في قصر الخزي والعار، قصر النهاية المشؤوم، لكفيل بفضح الأهداف الإجرامية والخيانية الوطنية لقادة الانقلاب.