لا يخلو مجتمع بشري من تناقضات اجتماعية وصراعات طبقية وسياسية ناشئة عن طبيعة علاقات الإنتاج السائدة بالبلاد وعن مستوى تطور القوى المنتجة والوعي الاجتماعي، أي بالارتباط مع طبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي القائم. وحين تبرز مثل هذه التناقضات يفترض في السلطات الثلاث والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وعموم الناس في أي دولة من الدول ان تتحرى عن طبيعة تلك التناقضات والعوامل آلتي تسببت بنشوئها وسبل معالجتها وطرح الحلول لها في محاولة للتعرف على أفضل احتمالات حلها. لا شك في ان نكران وجود تلك التناقضات أو التغاضي عنها والابتعاد عن معالجتها لا يعني بأي حال غيابها، بل يعني دون أدنى ريب السماح لها بالتراكم والتفاقم ونشوء مشكلات جديدة ناجمة عنها وتحولها تدريجا إلى صراعات اقتصادية واجتماعية، التي يمكن ان تتحول، في حالة الاستمرار في إنكارها او تفسيرها بعوامل غير واقعية وغير حقيقية أو مواجهتها بسبل غير حضارية من قبل السلطة السياسية، إلى صراعات سياسية يمكن ان تتخذ ابعاداً اخرى بما في ذلك حصول هبات او وثبات أو انتفاضات او ثورات مدنية أو عسكرية، عندها لا يمكن معرفة وجهة تطورها ومدى قدرة القوى والأحزاب السياسية على السيطرة على عواقبها أو التأثير بوجهتها. ان هذه العملية ذات المضمون الاجتماعي والاقتصادي خاضعة لطبيعة وحركة وفعل القوانين الاقتصادي الموضوعية وقوانين التطور الاجتماعي التي تخضع لسبل التعامل معها، إذ إن التعامل غير الواعي معها يوفر الأرضية الصالحة والشروط الموضوعية لحركتها وفعلها باتجاه معين.
يقدم تاريخ شعوب العالم نماذج هائلة على امتداد تاريخ البشرية على هذه التحولات الاجتماعية والسياسية. والعراق القديم والحديث والمعاصر، وكذلك دول منطقة الشرق الأوسط، تجارب غنية على هذه العملية. ولكن الغريب حقاً ان البلدان المختلفة، حكاماً وشعوباً، وخاصة النخب الحاكمة والاستبدادية، ذات ذاكرة ضعيفة لم تتعلم ولا تريد ان تتعلم من تجارب شعبها المنصرمة او تجارب الشعوب الأخرى وتصر على خوض تجربتها الجديدة الخاصة التي يمكن ان تكون مدمرة لها وقاسية على شعوبها. ومن النماذج المثيرة، إذا استثنينا الدول الرأسمالية المتقدمة والدول النامية المعروفة في هذا المجال، نشير إلى دولة الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى التي كانت تؤكد ان مجتمعاتها لم تعرف التناقضات عموماً والتناقضات التناحرية، التي تنشأ عن طبيعة النظام الاجتماعي، خصوصاً، قادت شعوبها ونظمها السياسية الاجتماعية، بسبب إنكارها لمثل هذه التناقضات، التي كانت موجودة حقاً وفاعلة فعلاً، إلى تراكم المشكلات وتحولها إلى صراعات لم تعد قابلة للحل وقادت إلى انهيار تلك النظم السياسية الاجتماعية من الداخل، إضافة إلى فعل العامل الخارجي الذي ساعد على حصول تلك الانهيارات الزلزالية.
العراق “الجديد!”، بما في ذلك إقليم كردستان العراق، يعيش تناقضات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية متفاقمة ومتراكمة ومتعقدة لأسباب ترتبط بطبيعة النظام السياسي الطائفي والأثني القائم على المحاصصة المذلة والظالمة لعموم الشعب وسياساته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية غير العقلانية والسلوك غير السوي للنخب الحاكمة واللاأخلاقي الذي يتسم بالفساد والوعود الكاذبة، وكأن فرق ” الشطار!!” في فترة تدهور الدولة العباسية قد نهضت من جديد مرتدية لبوس المليشيات الطائفية المسلحة الإرهابية (أو) والتكفيرية بمختلف أشكال ظهورها وروعت المجتمع وأغرقت البلاد بالدم والدموع. فالفساد السائد وغياب العدالة الاجتماعية كلية ومصادرة حقوق الأنسان وحقوق اتباع الديانات والمذاهب وانعدام ثقة المجتمع بالنخب الحاكمة دون استثناء ودورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي غير الإنساني والخطير قاد ويقود البلاد إلى النتائج والعواقب التالية:
1. تصاعد في المد الشعبي المناهض للطائفية والتحاق قوى جديدة ونظيفة بحركة المظاهرات السلمية وتحولها إلى حركة ذات ديناميكية خاصة بها لا يمكن للحكم الراهن الصمود بوجهها ولن ينفع خروج “مارد!!!” إبراهيم الجعفري من قمقمه المطمور حينذاك!
2. استمرار نزوح الكثير من العائلات وخاصة الشبيبة من العراق صوب الخارج طلبا للأمن والبقاء على قيد الحياة والعيش بكرامة إنسانية. ويشكل هذا النزوح خسارة هائلة لا تعوض للعراق المستباح!
3. انخراط شبيبة اخرى ضائعة بالقوى الإرهابية بسبب عجزها عن إعالة عائلاتها بسبب الفقر المنتشر بالبلاد، وبالتالي فالوضع يقدم وقوداً جديدة للتنظيمات الإرهابية.
4. انخراط المزيد من الشبيبة بقوى الجريمة المنظمة التي تعيش وتنمو في مثل هذا الأوضاع الفاسدة بالعراق، خاصة وإن للعديد منها روابط وشراكة مع بعض النخب الحاكمة آلتي توفر الغطاء الواقي لنشاطاتها.
5. تنامي شبكة العاملين في الدعارة واتساع قاعدة المنخرطين بها من النساء والرجال لأسباب ترتبط بالفقر والخراب الأخلاقي الذي تسببت به النخب الحاكمة ونظامها السياسي الطائفي.
إن مجيء ا لعبادي على رأس السلطة السياسية وتحت إمرة رئيسه في الحزب نوري المالكي، وتحت إمرة رئيسه في التحالف الوطني ابراهيم الجعفري حينذاك، وذهابه، ثم مجيء عادل عبد المهدي، بتأييد قوى الإسلام السياسية وأحزابها الفاسدة، لا يعني حصول أي تغيير فعلي في النظام الطائفي والفساد، بل تكريسا لهما من خلال إجراءات ترقيعية لا يمكن القبول بها لأنها تريد استغفال الشعب وكادحيه لا غير. ومن المؤسف ان ينطلي ذلك على جمهرة غير قليلة من الناس ومن القوى السياسية، رغم وجود بعض الصراعات داخل النخب الحاكمة في سبل عبور أزمة النظام الطائفي المحتدمة حالياً. إن الأزمة الراهنة متفاقمة بفعل ما يحصل في البلد الجار، إيران وخلافاته المحتدمة مع الولايات المتحدة والغرب عموماً، وتدخل قادة النظام الإيراني الفظ في الشؤون الداخلية للعراق، الذي فقد سيادته واستقلاله عملياً.
إن الحل السلمي والديمقراطي لمشكلات البلاد يكمن في مدى قدرة القوى الدمقراطية والتقديمية وكل الحريصين على إقامة دولة ديمقراطية دستورية وبرلمانية ومجتمع مدني ديمقراطي منفتح على الحضارة العالمية ومكافحة الطائفية والفساد السائدين على تعبئة الأوساط الشعبية الواسعة المتضررة جداً من طبيعة وسياسات النظام السياسي القائم ومن الجرائم المريعة المرتكبة بحق الشعب منذ وصول هذه النخب الحاكمة إلى قيادة الدولة والتحكم بسلطاتها الثلاث وإفسادها، لتناضل بحرص ومسؤولية وديمومة للخلاص من هذه الأوضاع البائسة.