لم يتغير الواقع كثيرا بعد استعادة القوات الأمنية السيطرة على المحافظات التي كانت تحت سيطرة تنظيم الدولة (داعش) بين عامي 2014 و2017، إذ لا زالت ذات المشكلات تواجها تلك المحافظات قبل عام 2014 وبعد 2017 من قبل بعض منتسبي الأجهزة الأمنية والميليشيات وإن اختلفت المسميات.
تحقيق استقصائي لوكالة “يقين” يكشف عن الرشاوى والإتاوات التي تفرضها نقاط التفتيش التابعة للميليشيات في الأسواق وفي مداخل المدن ضمن المحافظات المنكوبة.
انتشار الميليشيات
تشير كثير من الوقائع إلى أن الميليشيات باتت تنتشر في المحافظات المنكوبة بشكل يكاد يفوق انتشارها في مناطق أخرى من البلاد، بحسب أحد شيوخ محافظة نينوى “مزاحم الحويت” الذي كشف عن أن الميليشيات الإيرانية باتت تشتري ذمم بعض شيوخ القبائل في المناطق النائية من أجل مناشدة الحشد الشعبي بالإبقاء على قواته بل وزيادة عددها في المناطق المنكوبة.
“عدد الفصائل المسلحة التابعة للحشد المنتشرة في المناطق المستعادة من (داعش) لا يقل عن 20 فصيلا”
وأضاف الحويت في حديثه لوكالة “يقين” إن ميليشيا الحشد استخدمت أسلوب التهديد والوعيد لمن يرفض هذه الإجراءات، لافتا إلى أن الحشد عمل على كسب الكثير من الشباب في هذه المدن من العاطلين عن العمل، إذ أغراهم بالأموال والرواتب التي قد تصل إلى 650 دولارا في الشهر، بحسبه.
وعن إمكانية دفع الحشد المرتبات الشهرية لمقاتلين جدد ينضمون للفصائل من هذه المناطق، أشار الحويت إلى أن رواتبهم باتت تستحصل من خلال الإتاوات والرشاوى التي يتقاضاها الحشد من السيطرات ونقاط التفتيش في مداخل مدينة الموصل ومحافظة نينوى.
أما الخبير الأمني والإستراتيجي “مؤيد الجحيشي” فيكشف في حديثه لوكالة “يقين” عن أن عدد الفصائل المسلحة التابعة للحشد المنتشرة في المناطق المستعادة من (داعش) لا يقل عددها عن 20 فصيلا في مختلف محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى والتأميم.
ويضيف أن كل ما يشاع عن قيام الحكومة بزعامة “عادل عبد المهدي” بسحب مقاتلي الحشد الشعبي من المحافظات المحررة واستبدالهم بقطعات من الجيش والشرطة ما هو إلا محض خدعة ومناورة سياسية تجاه الضغوط الأمريكية التي بدأت بالتعاظم، بحسبه.
ويعتقد الجحيشي أن الحشد لن ينسحب من المناطق المستعادة من (داعش) بأي حال من الأحوال، إذ تعد المناطق المنكوبة خير وسيلة لجني الأموال من خلال الإتاوات والرشاوى التي تتلقاها الفصائل من خلال المكاتب الإقتصادية التابعة لها.
وفي ختام حديثه لوكالتنا، كشف الجحيشي عن الفصائل التابعة للحشد، المنتشرة في المحافظات المنكوبة، وهي كل من عصائب أهل الحق وبدر وسرايا السلام وكتائب سيد الشهداء وكتائب الإمام علي والخراساني وكتائب الفضل والحوزة وجند الإمام وقوات الحوزة والعتبة وغيرها.
سياسة الرشاوى والإتاوات
على الرغم من مضي أكثر من 6 أشهر على تعهد رئيس الوزراء “عادل عبد المهدي” بإغلاق ما بات يعرف إعلاميا بـ(المكاتب الاقتصادية) التابعة لفصائل الحشد في المحافظات، إلا أن تلك المكاتب لا زالت تواصل نشاطها وبقوة، بحسب ما صرّح به أحد أعضاء مجلس محافظة صلاح الدين في حديثه لوكالة “يقين”.
وأضاف المصدر الذي فضل عدم الكشف عن هويته -خوفا على حياته – أن فصائل الحشد الشعبي امتصت موارد المحافظة منذ دخولها أراضي صلاح الدين عام 2015، وعملت على نهب وسلب وسرقة كل ما من شأنه أن يدر عليها الأموال.
“جميع المطاعم والكافتيريات في مدينة تكريت خصوصا، تدفع إتاوات شهرية للعصائب ولحزب الله”
وكشف المصدر عن أن ميليشيا حزب الله والعصائب باتت هي المسيطرة الأولى على اقتصاد المحافظة من خلال استحداث مجموعة من الشركات المسجلة حديثا والتي تعمل على الحصول على جميع العقود الحكومية في المحافظة، لافتا إلى أن عدد هذه الشركات يبلغ 7 وهي المتحكمة الوحيدة في عقود المحافظة.
وعن كيفية عمل هذه الشركات والطريقة التي استطاعت من خلالها الحصول على العقود، كشف المصدر عن أن الإحالات تتم بالقوة وبمساعدة بعض سياسي المحافظة المنتفعين منها.
وللإتاوات والرشاوى فصل آخر في محافظة صلاح الدين، الضابط في مديرية شرطة المحافظة صلاح والذي عرّف عن نفسه بـ “النقيب عمر هلال” كشف عن أن جميع البضائع التي تدخل سواء من جهة بغداد أو كركوك، تخضع لرقابة فصائل الحشد ومقاتليه، وأنها لا تدخل ما لم يُدفع للحشد مبلغا يقدر بـ 200 دولار عن كل شاحنة تدخل المحافظة.
ليس هذا فحسب، إذ كشف هلال عن أن جميع المطاعم والكافتيريات في مدينة تكريت خصوصا، تدفع إتاوات شهرية للعصائب ولحزب الله، لافتا إلى أن قيمة الإتاوة تختلف من موقع إلى آخر، لكنها لا تقل عن 150 دولار للمطاعم الصغيرة و250 دولارًا لكل كافتيريا، بحسبه.
من جانبه، اتهم عضو مجلس محافظة صلاح الدين “صلاح الخزرجي” فصائل في الحشد بفرض إتاوات على مزراعي المحافظة لأجل حماية محاصيلهم من النهب والحرق.
وكشف الخزرجي في حديثه لوكالة “يقين” عن أن هناك قطعات من الجيش والشرطة والحشد تتبع سياسة فرض الإتاوات على المزارعين، مستدركا بالقول: “لا يمكنني اتهام جميع الفصائل، إذ أن هناك بعض ضعاف النفوس يمتهنون هذا الفعل الإجرامي”، على حد قوله.
نينوى.. فساد وإتاوات
ومن محافظة صلاح الدين إلى نينوى التي تعاني هي الأخرى من ويلات الحرب المدمرة التي مرت عليها، إذ يقول صاحب إحدى الكافتيريات في مدينة الموصل – في الجانب الأيسر – ويدعى “قصي مصعب” في حديثه لوكالة “يقين” إنه ومنذ شهر أيار/ مايو من العام الماضي، قدمت قوة من الحشد الشعبي للمقهى، وإنهم أبلغوه بأنه وقع عليهم مبلغ 200 دولار شهريا دعما لما سمّوه بـ “الجهاد المقدس” الذي يقوده الحشد الشعبي، لافتا إلى أن طريقة الدفع تتم شهريا في الخامس من كل شهر، إذ يأتي أحد مقاتلي الحشد بلباس مدني ويأخذ المبلغ، بحسبه.
“قيمة الإتاوة تختلف من موقع إلى آخر، لكنها لا تقل عن 150 دولار للمطاعم الصغيرة و250 دولارًا لكل كافتيريا”
إتاوات لا زالت تفرض على السيارات ومركبات الحمل في مداخل محافظة نينوى من جهة محافظتي أربيل ودهوك، إذ يقول أحد ضباط سيطرة الحمدانية جنوب شرق الموصل ويدعى “موسى عبد” في حديثه لوكالة “يقين” إن السيطرة المشتركة للجيش والحشد والتي تعرف بسيطرة “المحور” القريبة من حدود محافظة أربيل تفرض إتاوات تقدر بـ 50 دولارا لكل شاحنة تمر من خلالها، لافتا إلى أن مئات الشاحنات تعبر يوميا من هذه السيطرة، وهي تحمل مختلف أنواع البضائع القادمة من تركيا.
ويكشف الضابط “موسى عبد” عن أن سيطرة (المحور) يشرف عليها لواء 30 التابع للحشد الشعبي إضافة إلى بعض الجنود من قيادة عمليات نينوى، غير أن المتنفذ هم مقاتلو لواء 30 التابعين للقيادي الشبكي “أبو جعفر” التابع للحشد الشعبي، وأن تواجد قيادة عمليات نينوى لا يتعدى الوجود الشكلي.
وفي ختام حديثه لوكالتنا، كشف عبد عن أن سيطرة (المحور) بدأت أخذ الإتاوات من الشاحنات بعد أن أغلقت حكومة بغداد منفذ (فايدة) الجمركي بين الموصل ودهوك، والذي كان يعمل بإمرة الحشد الشعبي، إذ كان منفذ فايدة يمنع دخول أي شاحنة إلى محافظة نينوى من جهة كردستان ما لم تدفع تلك الشاحنات المبالغ الجمركية، بحسبه.
وفي الموصل ذاتها، تعرض مزارعون من قضائي البعاج والحضر لتهديدات مباشرة من الحشد الشعبي مفادها وجوب دفع نسبة 20% من قيمة حصادهم لمحصولي القمح والشعير، وبخلافه يحرق الزرع، بحسب المزارع “خلف الحديدي” الذي تحدث لوكالة “يقين”.
ويضيف الحديدي أن آلاف الدونمات أحرقها الحشد الشعبي في الحضر والبعاج بعد أن امتنع المزارعون عن دفع الإتاوة أو طالبوا بتأخيرها لحين استلام مستحقاتهم، لافتا إلى أن غالبية المزارعين رضخوا للتهديدات بعد أن تبين لهم أن لا خيار أمامهم سوى الدفع أو خسارة المحاصيل برمتها.
الدفع أو الانتقام!
“السيطرة المشتركة للجيش والحشد والتي تعرف بسيطرة “المحور” القريبة من حدود محافظة أربيل تفرض إتاوات تقدر بـ 50 دولارا”
وكانت الموصل قد شهدت عدة تفجيرات خلال الأشهر الماضية استهدفت مطاعم في المدينة، إذ أشار عدد من المراقبين إلى أن الحشد الشعبي مسؤول عن هذه التفجيرات، بحسب تصريحات لبعض مسؤولي المحافظة ومنهم عضو مجلس محافظة نينوى “علي خضير” الذي أشار ضمنيا إلى أن المكاتب الاقتصادية للحشد كانت وراء تهديد مطعم “أبو ليلى” لعدم دفعه الإتاوة لفصيل معين.
وأشار خضير في حديثه لوكالة “يقين” إلى أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال اتهام جميع فصائل الحشد بالوقوف وراء الخروقات التي ينفذها بعض منتسبي الحشد والتي تشمل فرض الإتاوات على سكان محافظة نينوى.
من جانبه كشف المستثمر “سعد آغا” صاحب معمل الموصل للحديد والصلب عن أنه تعرض في غير ذي مرة لضغوط من أجل دفع إتاوات لفصائل عسكرية، حتى تسهل له نقل الحديد المنتج من معمله إلى الأسواق أو إلى بقية المحافظات وخاصة إلى بغداد.
وكشف آغا عن أن كل شحنة حديد تخرج من محافظة نينوى، يضطر معمله خلالها لدفع مبلغ 250 دولارا عن كل 50 طنا يسوق خارج المحافظة، عادًا ذلك أنه يرهق الوضع الاقتصادي في المحافظة ويتسبب بزيادة النفقات الكبيرة في إنتاج حديد التسليح المحلي.
من جانبه، قال النائب في البرلمان عن محافظة نينوى “عبد الرحيم الشمري” في حديثه لوكالة “يقين” إن التقارير الأمنية التي قدمها قائد عمليات نينوى السابق اللواء “نجم الجبوري” لرئيس مجلس الوزراء “عادل عبد المهدي” كشفت عن أن المكاتب الاقتصادية للأحزاب والحشد تعمل على فرض الإتاوات ودخول المناقصات الحكومية وعقود الإعمار والحصول على الأراضي المتميزة في المحافظة بطرق غير قانونية وبالقوة.
“غالبية المزارعين رضخوا للتهديدات بعد أن تبين لهم أن لا خيار أمامهم سوى الدفع أو خسارة المحاصيل برمتها”
وأردف الشمري في حديثه لوكالتنا قائلا: “كنا قد اتفقنا مع رئيس مجلس الوزراء على إغلاق هذه المكاتب الاقتصادية والأفرع التابعة لها استنادًا إلى تقارير قائد عمليات نينوى السابق، لكن أي إغلاق لهذه المكاتب لم يحصل حتى اللحظة”، بحسبه.
وكشف الشمري في ختام حديثه لوكالتنا عن أن الأدلة المقدمة في تقارير قيادة العمليات أكدت على أن تفجيرات عدة حصلت في مدينة الموصل وجميعها ترتبط بالمكاتب الاقتصادية، ولم تكن من فعل تنظيم الدولة (داعش)، لافتا إلى أن إقالة قائد عمليات نينوى السابق “نجم الجبوري” كانت بضغوط من الحشد بسبب التقارير التي كان قد قدمها.
تبريرات: مخالفات من بعض العناصر
من جهة أخرى، نفى النائب عن كتلة (الفتح) والمقرب من الحشد “حنين القدو” صحة الأنباء التي تشير إلى ضلوع الحشد في فرض إتاوات على المواطنين في مدينة الموصل ومحافظة نينوى بصورة عامة.
وكشف القدو عن أن التقارير التي قدمها قائد عمليات نينوى السابق اللواء “نجم الجبوري” كانت مضللة وغير صحيحة، وأن الجبوري كان يعمل وفق أجندة أمريكية، إذ أنه يحمل الجنسية الأمريكية ويأتمر بأوامر السفارة الأمريكية في بغداد، على حد قوله.
وعن بعض الوقائع التي تؤكد ضلوع الحشد في فرض إتاوات بطرق غير مشروعة، أكد القدو على أن الأمر لا يخلو من بعض المخالفات من بعض منتسبي الحشد ضعاف النفوس، غير أن مديرية أمن الحشد تعمل جاهدة على ملاحقة هؤلاء وإنزال أشد العقوبات بحقهم، بحسبه.
ومن نينوى إلى محافظة الأنبار، إذ يقول التاجر “سعيد الحديثي” من منطقة القائم غربي المحافظة، إن مفارز وسيطرات الحشد الشعبي باتت المتحكم الرئيس بدخول البضائع إلى مناطق غربي المحافظة، مشيرا إلى أن الحشد الشعبي يتمتع في غرب محافظة الأنبار بزخم وتمدد عسكري كبير، بسبب بعد المسافة عن مدينة الرمادي (مركز المحافظة).
ولم يتسنى لوكالة “يقين” التواصل مع مسؤولين من محافظة الأنبار للحديث عن ابتزاز قوات الحشد الشعبي لسكان المحافظة، إذ اعتذر غالبية النواب ومسؤولي ديوان المحافظة عن الحديث في الأمر.