اهداء..
الى من شارك في وأد البراءة .. اعتبرها وخزة ضمير ليس إلاّ.. بدوري أقول: انها البداية يا لبيد ..
كنت قد وعدت الأطفال بأن ارقص في اعراسهم.. لكي افلت من الحاحهم في تلك الليلة المتعبة التي وصلت فيها الى مراني بعد سير دام لأكثر من 14 ساعة متواصلة .. حينما طلبوا مني وهم يلتفون حولي يصفقون ويضحكون ويمرحون احتفاء بوصولي اليهم من جديد.. بعد فراق لأشهر قضيتها مختفياً فيما كنا نسميه بلغتنا المتداولة أيام الانصار بالعمق ..
والعمق يشمل سهل نينوى وبقية مدن العراق.. التي كنا ندخلها خلسة لنؤدي نشاطاتنا السياسية السرية بين الناس في ظروف الحرب والقمع و الاستبداد.. كان فرح الاطفال بقدومي يعني لهم الشيء الكثير.. معناها غداً ستكون مع وجبة الغذاء كمية من اللحم من الصيد .. او من الدجاج المجمد الذي يتاجر به الباعة الجوالون .. او في اقل تقدير كمية من البيض و الفواكه من القرى القريبة.. التي يتواجد دكاكين بسيطة و صغيرة فيها.. تتداول بعض المقتنيات من الفلاحين والعوائل.. لتعيد بيعها للآخرين بأسعار مناسبة ..
احداث تلك الليلة ما زالت عالقة في ذهني .. قاومت السهر .. حاولت التخلص من الملتفين حولي.. لينا عاصف.. بسيم.. الذين كانوا يشاركوني الفراش .. احدهم في اليسار.. والآخر من اليمين.. والثالث على صدري ..
كنت احاول ان امسد ظهورهم بحكم قناعتي لأهمية المساج للأطفال.. وكانوا يركنون للصمت والتوقف عن المشاكسة بعد ان ابدأ بتدليك اجسادهم الواحد بعد الآخر قدر المستطاع .. لا اعرف لماذا جاءتني فكرة أن ارقص في اعراسهم كما تخيلتها في تلك اللحظات .. ولا اعرف ان كان هذا له علاقة بالبقية ممن تجاوزوا عمر الأطفال .. ودخلوا مرحلة المراهقة و الشباب .. مناضل .. شامل .. اميل .. خيري.. سربست .. زخاروف.. لوركا .. نصير .. فيدل .. فرمان.. شمو.. سردار.. طيبان.. جمال .. جلال..
وهكذا بالنسبة لـ ميديا .. نصيرة .. سندس .. سورياس .. بريفان .. بيمان.. هوزان.. وفاء.. نارين.. هافانا.. روزا.. جيزن.. رفين .. اطفال اجسادهم تنمو ويكبرون بين شعاب جبل كاره ومياه مراني العذبة ينضحون طيبة وفرحاً وسعادة .. اطفال يحلمون ببراءة.. كما يحلم بقية الاطفال في العالم بأشياء صغيرة.. واحياناً تافهة.. ويسعون لخلق اجواء مرحة تتفق مع اعمارهم وتنسجم مع طفولتهم.. كنت في الكثير من الحالات هدفاً لهم ..
ما جرى في تلك الليلة لا يمكن ان يمحو من ذاكرتي .. لا ادري كيف ومن بدأ بفكرة التحرش بي اولاً.. وسرعان ما تجمع حولي الآخرون.. يسعون لجري للمشاركة في رقص وهرج ومرج.. اخذوا يؤدونه بفوضوية كأنهم على خشبة مسرح .. يرددون وفقاً لأدوارهم مقاطع تمثيلية و مشاهد مسرحية مما علق بأذهانهم .. من بينها رينكو .. مينكو ..
لكني تشبثت بالأرض و بقيت اداعبهم دون ان البي مطلبهم.. او ابدي استعدادا للمشاركة في دعوتهم للرقص بسبب التعب والارهاق..
ها هي ثلاثة عقود مضت على تلك الليلة التي ما زلت اتذكرها اليوم.. سأنسى الأنفال وأشطبها من ذاكرتي .. سألغي العقود الثلاث المنصرمة كأنها لم تكن .. لن اتحدث عن الجرائم البشعة المتسلسلة في الأنفال ..
لا اريد ان اتذكر اسماء الجحوش ورؤساء العشائر والقادة العسكريين الذين كرموا حينها من قبل الدكتاتور .. وما زالوا يكرمون للحين!! ..
لا اريد ان اتذكر شيء من ذلك الزمن المر ولا صفحة من صفحاته القبيحة ..
لا اريد ان اتذكر كل تلك السيئات.. أو أي تفصيل لتلك المحنة ..
لكن هيهات ..
هل اقدر على النسيان؟..
هل اقدر أن امحو من ذاكرتي تلك الأسماء والضحكات البريئة لهؤلاء الاطفال الأبرياء؟.. الذين كانوا يشاكسوني ويسعون لجرجرتي لأجواء طفولتهم لأشاركهم الرقص والمرح.. كأني واحد منهم رغم فارق العمر ..
اتذكر كل تلك الأسماء ..
لينا .. سندس .. عاصف .. بسيم .. مناضل سربست.. سورياز .. ميديا .. كاوار .. وفاء..
اتذكرهم الليلة ليس كأطفال ما زالوا مدفونين في المقابر الجماعية ..
اتذكرهم جميعاً واحدا بعد الآخر .. شباباً وصبايا يافعين ويافعات يدعوني لحفلات زواجهم .. استعد للمشاركة و الرقص .. اتهيأ لأداء ما يناسب حفلات الفرح دون تردد .. سأغلق الباب على نفسي هذه الليلة.. كي ارقص للصباح وانا أتذكركم.. واحدا بعد الآخر في حفلات اعراسكم .. هذا وعد مني ان ارقص الليلة حتى الصباح ..
سأرقص .. رغم معاناتي من آلام الروماتيزم والتهاب المفاصل واوجاع الركب.. بقلب مجروح .. سأرقص لـ سندس ولينا .. وبقية الاسماء .. لن أنسى شامل .. خيري .. أميل .. أو سربست .. أرقص و أرقص .. كطير مذبوح من الألم يرقص ويرفرف .. يدور حول نفسه ..
سأدور الأرض في هذه الليلة.. أجول المدافن الواحدة بعد الأخرى .. لأبحث عن رفاتكم بين المقابر الجماعية .. كي أشارككم الرقص حتى الصباح كما وعدتكم ..
ــــــــــــــــ
صباح كنجي
من حكايا الأنصار والجبل
8/8/2019