يحتدم النقاش حول أهمية الدولة المدنية والحكم المدني التي لها ثوابت وطنية وديمقراطية وسياسة مستقلة تعتمد على مؤسسات قانونية وإنسانية وتستمد شرعيتها من المواطنين الذين يرون فيها الكيان المعتمد على السلطات الثلاث المعتمدة في إدارة الدول وتحديد أهدافها الوطنية والمطلبية وعلاقاتها بالمجتمع الدولي، وهي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، وبدون هذه السلطات تفقد الدولة مصداقية مدنيتها وعدم تمثيل الشعب بجميع مكوناته ، الدولة المدنية هي الهدف الإنساني الذي يسعى إليه الإنسان السوي والمسالم وتسعى له الأحزاب والمنظمات السياسية الوطنية والديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني التي تتبنى مشروعاً وطنياً ديمقراطيا يؤسس مشروعية حقوق الإنسان والتخلص من لغة عسكرة المجتمع تحت طائلة من المسوغات منها تبادل السلطة سلمياً ونبذ فكرة الحلول العسكرية والانقلابات الدموية ولهذا نجد في أكثرية البرامج والمشاريع التي قدمتها القوى الوطنية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي قبل الاحتلال وسقوط النظام الدكتاتوري تؤكد على الديمقراطية وحق تقرير المصير وفق معايير إنسانية وحضارية ووفق الظروف الموضوعية والذاتية، وبما أن الدولة المدنية مشروع للقوى المدنية بمختلف مشاربهم وأفكارهم وأيدلوجياتهم على الرغم من وجود وجهات نظر متباينة حول قضايا مستقبلية لكن ما يجمعهم هو قيام الدولة المدنية التي تقوم على أسس واضحة في مقدمتها استقلالية السلطات الثلاث وفصل الدين عن الدولة والانتقال السلمي للسلطة حسب قوانين الانتخابات والقوانين التي تختص بديمقراطية العلاقات السياسية التي تعتمد النضال السلمي من اجل تحقيق المطالب المشروعة المنصوص عليها في الدستور الدائم.
كما أن هناك الكثير من القضايا الملازمة لعملية البناء والإصلاح وعدا ذلك لا يمكن أن تسمى بالدولة المدنية. كان المؤمل بعد سقوط النظام الدكتاتوري التوجه نحو هذا الهدف لإنقاذ البلاد من الشرور التي تحيط بها وبخاصة تركة ( 35 ) عاما من الحكم الفردي الإرهابي ومن تركة الماضي التي نشأت منذ تأسيس الدولة العراقية ، ولم يكن بخلد القوى الوطنية الديمقراطية أن ذلك سيكون عن طريق احتلال البلاد وتدمير الدولة بالكامل بل كان السعي أثناء نضالها الطويل هو العمل السياسي السلمي في أكثر الأحيان ما عدا السنين التي شهر الحزب الشيوعي العراقي السلاح بسبب استهتار ودموية حكم حزب البعث الذي أغلق كل الطرق أمام العمل السياسي السلمي المعارض كم قامت العديد من القوى الوطنية والقومية العربية والكردية بحمل السلاح إلى جانب النضال السياسي من اجل التغيير لإقامة الدولة المدنية الوطنية الاتحادية بدلاً من دولة البعث الاستبدادية التي خلقت ظروفاً غاية في التعقيد على
1 ـــ المستوى الوطني الداخلي سياستها القمعية واستئثارها بإلغاء إي هامش للعمل المعارض بما فيها السلمي الذي يعتمد على أسس تبادل السلطة سلمياً بدون اللجوء للعنف والسلاح.
2 ـــ على المستوى القومي والعالمي بسبب حروبها المتواصلة واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً في الداخل والتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى تحت طائلة من الحجج في مقدمتها التضامن القومي المتطرف وبحجة الدين أو الطائفية المقيتة ثم اللعب على ورقة القضية الفلسطينية واستغلالها من اجل المصالح الضيقة التي تهدف إلى البقاء في السلطة ومحاربة أي قوى معارضة.
أن العودة إلى مجريات ما حدث بعد الاحتلال وتكليف أحزاب الإسلام السياسي منذ البداية بمهمات قيادة الدولة وبدعم من الإدارة الأمريكية والدول المتحالفة معها دفع التوجه نحو مشروع إقامة الدولة الدينية التي تعتمد على السلف والأصول وهذا التصور الذي كان يعشش في أدمغة البعض من المفكرين الإسلاميين الناشطين والتنظيمات الطائفية الدينية السياسية على إذكاء وهم قيام الدولة الدينية على غرار ما سبقتها من دول متخطين روح العصر والتطورات التي حدثت على العالم اجمع بما فيها مفهوم تشابك الكنيسة في الماضي مع الدولة في أوربا أو الدول المسيحية لحين حدوث فصل الدين عن الدولة والسياسة، والعجز الذي حدث في تلك المفاهيم بعد رؤيا علمية باستحالة بناء الدولة على أسس دينية مع ما يجري من تطورات واكتشافات علمية واقتصادية وسياسية ومفهوم قضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة والطبقة العاملة ونقاباتها وباقي منظمات المجتمع المدني.
إن الذي حدث من تطورات في العراق على البنية الطبقية والسياسية الاجتماعية والثقافية جعلت المواطن يدقق في الخطابات التي طرحت من قبل أكثرية القوى التي دخلت العملية السياسية مع استشراف رؤيا جديدة فيما يخص العلاقة بين هذه الأحزاب وتعاليم الدين ما بين القوى التي قامت بإطلاق الوعود ومنها وعود بعدالة توجهاتهم الدينية وارتباطها بشكل عملي بمتطلبات الحياة الاعتيادية المعيشية والاقتصادية وبين الوعد الخالد بتحمل شقاء الدنيا طمعاً في الجنة الموعودة أو استغلال أسماء الأئمة ومن هذه الرؤيا أن القائمين على أكثرية الأحزاب والدولة ومرافقها سعوا من اجل جمع الثروات بمختلف الطرق حتى غير الشرعية ومنها الاستيلاء على المال العام بدون أي ضمير ولا الانتظار الموعود بالجنة ولا أي اعتبار للائمة إضافة إلى ما جرى على نمط قيام الدولة التي كان المفروض وبعد مرور أكثر من ( 16 ) عاما تنتقل لإنجاز واستكمال شروط بناء العراق وفي مقدمة هذا البناء الخدمات العامة” كهرباء وماء والصحة والتعليم والأمن ” والتقليل من البطالة وإيجاد فرص عمل للخريجين وبقية العاطلين على العمل واستكمال بناء أجهزة الدولة التي انهارت بعد الاحتلال وفي مقدمتها الأجهزة الأمنية المستقلة الوطنية، لكن الأوضاع سارت بالاتجاه المعاكس فلا بناء الدولة أنجز معالمه بشكل صحيح ولا الفساد قضي عليه إضافة إلى ما حدث من خروقات أمنية كبيرة وقيام عدداً من التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها داعش ثم انتشار الميليشيات الطائفية المسلحة القديمة والجديدة وأصبح إلى جانب الفساد والاستئثار بالسلطة وانتهاج سياسة التزوير والتزييف في الانتخابات وغيرها ثم الهاجس الأمني المنفلت الذي أدى بحياة الالاف من المواطنين إضافة إلى التهجير والهجرات والنازحين جراء الحروب الداخلية ومنها احتلال داعش لثلث العراق ثم التحرير بعد سنين من القتال والتضحيات المريرة ، طوال هذه الفترة لعبت وما زالت تلعب البعض من التنظيمات الطائفية المسلحة دوراً في تأجيج النزعة الطائفية والتشجيع على العنف ثم الاستخفاف بقرارات الدولة وعدم الالتزام بما يصدر عنها بخصوص انتشار الأسلحة خارج إطار الدولة واستغلت هذه التنظيمات فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها السيد السيستاني والذي قال عنها جابر المحمداوي وهو رجل دين مستقل يعمل في تدريس المذهب الشيعي في النجف إن “فتوى الجهاد الكفائي ضد داعش واضحة، وتعني بأنها مؤقتة وليست دائمة” وان السيد السيستاني ليس مع وجود قوة عسكرية خارج إطار الدولة كما رفض مشاركتهم في السياسة والانتخابات، وحسب قول المحمداوي لم يكن السيد السيستاني متحمساً لقرار البرلمان بتحويل الحشد إلى قوة مستقلة “
وهكذا تحولت الفتوى بدون أي اعتراض علني واضح من” طواعية قتال الإرهاب ” إلى دمج تنظيمات وميليشيات طائفية مسلحة اتفقت فيما بينها على ” الحشد الشعبي ” ( للعلم نحن لسنا بالضد من الحشد الذي التزم بالفتوى نصاً وروحاً وندعم الجهود المخلصة للتخلص من إرهاب داعش ) وعلى الرغم من جميع الجهود لجعله تحت قيادة القائد العام للقوات المسلحة ودمجه بالقوات العسكرية الحكومية مثل الجيش والشرطة …الخ فقد رفضت الفكرة واستبدلت بجعل الحشد الشعبي قوة عسكرية مستقلة نسبياً عن الجيش والشرطة وقد ” رفضت تنفيذ الأمر الديواني الذي أصدره رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي القاضي بدمج الفصائل المسلحة ضمن تشكيلات وزارتي الداخلية والدفاع” وهناك أراء من قبل البعض من قيادة فصائل منظمة للحشد الشعبي ومنها النجباء حيث صرح يوسف الناصري معاون زعيم النجباء في حديث على التلفزيون بان الجيش العراقي ” مرتزق ” ودعا إلى حله واستبداله بالحشد الشعبي مما أثار حفيظة الكثير واعتبروا تصريحه إساءة للجيش وطريقاً لتسهيل أمر الحشد الشعبي لينتقل إلى شبيه الحرس الثوري الإيراني، واستنكرت قيادة العمليات المشتركة في الجيش العراقي هذه التصريحات التي أطلقها يوسف الناصري ورد الفريق الركن عبد الأمير رشيد بار الله نائب قائد العمليات المشتركة إن تصريحات يوسف الناصري “غريبة ومفاجئة”،ووجه للجيش “تهما قاسية تطعن بوطنيته وعليه الاعتذار ” وأشار النائب عبد الخالق العزاوي ” إن فصائل الحشد الشعبي ترتبط بأحزاب وقوى سياسية ولا تنفذ القرارات التي يصدرها عبد المهدي، وأن الكثير من هذه الفصائل أعلنت أنها ترفض الانصياع لأوامر الحكومة” وخير مثال ما حدث في منطقة جرف الصخر وسهل نينوى ومناطق أخرى امتنعت بعض فصائل الحشد الشعبي تسليمها للجيش وأبقتها تحت سيطرتها على الرغم من قرارات الحكومة المركزية، وبين النائب عبد الخالق تمرد فصائل الحشد يهدف ” لإشغال ” مواقع أمنية اكبر مساحة من الأجهزة الأمنية الحكومية توضح حيثيات خطته “لتشكيل دولة عميقة داخل الدولة العراقية ما يجعل استتباب الأمن والاستقرار أقرب إلى المستحيل” وهذا الأمر يتناقض مع الدولة المدنية ولا يمت بصلة إلى دولة ذات سيادة تقوم على مؤسسات قانونية واضحة .. من الجهة الثانية عادة القوى الإرهابية وعلى رأسها داعش لشن هجمات والقيام بالاغتيالات في أماكن عدة وذكرت الصحف من بينها فاينانشال تايمز في 15 / 8 / 2019 وتهديد تنظيم داعش مازال ” قائماً في سوريا والعراق ” وأشار تقرير الصحيفة المذكورة وجود ما بين “14 و18 ألفا من مقاتلي التنظيم ما زالوا في سوريا والعراق ..وتذكر فاينانشال تايمز إن “التقرير الذي أعتده البنتاغون يأتي وسط قلق من أن تتسبب تحولات جيوسياسية في الشرق الأوسط في تقويض الانتصارات التي تحققت حتى الآن” ضد تنظيم داعش
أمام هذه الصورة التي تبدو أكثر من مأساوية بالنسبة لاستتباب الأمن فان الدول العراقية تبدو في مهب الريح وسط هذه العواصف المتتالية وهنا تظهر استحالة بناء الدولة المدنية إذا لم يجري إصلاح الأمور بشكل سريع ومسؤول وقد ظهر القلق على المصير في تساؤلات المرجعية الدينية جاء على لسان ممثل المرجعية العليا في كربلاء السيد أحمد الصافي في خطبة الجمعة ” تعب وتعب وتعب بات المواطن يفكر بمغادرة البلاد، ولماذا الدولة لا تربي الشعب على احترام القانون، فالبلاد تتجاذبها الرياح يميناً وشمالاً والجميع يتفرج”. نُذكر السيد الصافي ليس الجميع يتفرج بل أولئك المهيمنين على السلطة بعيداً عن متطلبات القوى الوطنية والديمقراطية منذ زمن غير قليل وقبل ما جاء على لسان السيد أحمد الصافي مؤخراً.