.
شاهدت مؤخرا فيلما ( نشر رابط له على موقعه في فيس بوك الفنان هادي ياسين) ، بإنتاج مشترك ، فرنسي الماني بريطاني ، وبطاقم عمل أممي من مختلف الجنسيات، وطيلة ساعة وثلاثة واربعون دقيقة، زمن الفيلم، الذي يقدم لنا قصة شجاعة هادئة بدون صخب، يجترحها عامل في ورشة نجارة لصناعة التوابيت مع زوجته التي ساندته لأخر لحظة، فوجدت ذهني لا اراديا يدور في بغداد، او أي مدينة عراقية أخرى، في زمن الطاغية المجرم صدام حسين ونظام حزبه الفاشي الاشتراكي القومي، رغم ان احداث الفيلم تدور في المانيا، برلين الغربية، في سنوات الحرب العالمية الثانية تحت ظل نظام الحكم الهتلري الفاشي والسلطة الوحشية لقوات الغستابو، فوجدتني، من اللاوعي، اضع لشخصيات الفيلم والاحياء والشوارع أسماءً عراقية، فلم يكن هناك اختلاف كبير، فهذا الفيلم بين لي بشكل واضح وصريح، ان الديكتاتوريات الشوفينية، مهما كان ثوبها ولونها، والمعادية للإنسان وحقه في الحياة الكريمة، تتناسل، وان عسفها الفاشي واحد وتتشابه طرق تنفيذها للجرائم بحق الناس الأبرياء، إضافة الى ذلك بين لي الفيلم جيدا القدرة الهائلة التي تمتلكها السينما لإدانة العسف والظلم وأيضا لتمجيد البطولة .
الفيلم هو “وحيدون في برلين” انتاج 2016 من اخراج فنسنت بيريز (مواليد 1964) مصور وممثل ومخرج سويسري، كتب السيناريو بالتعاون مع الألماني آخيم فون بوريز(1968)، صاحب سيناريو فيلم “وداعا لينين” 2003 الذي ترشح للعديد من الجوائز حينها. كُتب سيناريو فيلم “وحيدون في برلين” عن رواية للكاتب الألماني هانز فالادا (1893 – 1947)، صاحب الحياة المثيرة للجدل، وكانت بعنوان “كل رجل يموت لوحده“، وتذكر لنا سيرته الذاتية (موقع ويكيبيديا مثلا)، انه كتب الرواية خلال 24 يوما، قبل موته بأشهر قليلة مخبراً اهله انه كتب قصة عظيمة. كتب فلادا روايته استنادا الى واقعة حقيقية، وجدها في ملفات جهاز الغستابو، عن قصة رجل وزوجته، العاملان أوتو وإيليز هامبيل، المواطنان الالمانيان، الذين لم يكونا عضوين في الحزب النازي لكنهما مجبران على الاشتراك في نشاطاته، بعد مقتل ابنهما الوحيد في الحرب في فرنسا، وجدا في ذلك ظلما كبيرا لهما، واكتشفا خداع الفكر الفاشي، فتحول الحزن في روحيهما الى غضب بارد، جعلهما ينتفضان ضد الحرب والفاشية فابتكرا أسلوب فرديا للمقاومة، وذلك بكتابة نصوص تحريضية قصيرة، على بطاقات بريدية، تطالب بنشر الحقيقة وإيقاف الحرب، وصارا يوزعانها في كل مكان في احياء برلين، يضعانها على السلالم والمداخل حيث يمكن رؤيتها من قبل المارة، واستمرا بنشاطهما الذي استنفر جهاز الغستابو ضدهم بين عامي 1940 و1943. يذكر ان هذ القصة سبق واخرجت للتلفزيون والسينما في المانيا الديمقراطية والغربية في أعوام1962 و1970، والفيلم موضوع حديثنا يحمل اهداء لذكراهما وان كان السيناريو غيّر أسميهما الى أوتو وآنا كوانجيل.
يبدا الفيلم، الذي تم تصويره في عدة مدن المانية عام 2015، بانتصار القوات الفاشية في فرنسا ومقتل الابن، وعند ابلاغ الاب أوتو كوانجيل بمقتل ولده حافظ على رباط جأشه بشكل يثير الاعجاب، وأدى دوره ببراعة الممثل الأيرلندي برندان غليسون (1955) الذي لعب دور ونستون تشرشل في فيلم ” في العاصفة” 2009، وشارك في أفلام هاري بوتر (2004-2010)، قلب شجاع (1995)، وافلام أخرى قادته لنيل عدة جوائز رفيعة والترشيح لأخرى. كانت حوارات الفيلم قصيرة وعميقة ودالة، ربما من أبرزها حوار الزوج مع زوجته الذي استمد منه الفيلم العنوان حين يخبر أوتو كوانجيل زوجته آنا، بعد ان بدأ في كتابة البطاقات البريدية: ” من الآن فصاعدًا، نحن لوحدنا“. لعبت الممثلة البريطانية إيما تومسون (1959) دور الزوجة آنا، التي تناغمت في هدوءها ورباطة جأشها وشجاعتها مع زوجها وان كانت لامته على موت ابنها (انت الملام وحربك اللعينة، انت وزعيمك اللعين) فأثر على حميمية علاقتهما الزوجية، لكن الحزن بفقدان ولدهما الوحيد ولجوئهما الى ابتكار طريقة لمقاومة ماكينة الحرب النازية، يساهم بإحياء علاقتهما الزوجية. وفي مشهد رائع بتنفيذه وتمثيله، في قاعة المحكمة وقبل ان يرسلهما القاضي للموت بالمقصلة، تقترب آنا من زوجها فيسألها: تعرفين ماذا سيحدث؟ فتخبره بالإيجاب، فيقول لها “انه أمر لا يمكن تغييره“، ويقصد حكمهما القادم بالإعدام، فتنظر اليه بحب وتقول بثبات: “أعرف. أوتو، لا يهم“. ان الفيلم يقول لنا في هذا المشهد بأن الخوف يتلاشى عندما نقوم بالفعل الصواب ونقف بوجه الظلم والطغيان.
كان الفيلم يتحرك بايقاع هادئ لكنه يحبس الانفاس، إذ تضافر أداء برندان غليسون وإيما تومسون بابتعادهما عن صنع فيلم ميلودرامي يستدر العواطف، الى صنع فيلم يقدم صورة للغضب البارد كدافع لتنفيذ اعمال مقاومة وانتقام من سلطة غاشمة. وكانت كاميرا السينمائي والممثل البلجيكي كريستوف بياوكارن (1965) الحائز والمرشح كمصور لعدة جوائز، تنتقل بحساسية وبراعة في شوارع مدينة برلين، في أيام الحرب محيطة بكل التفاصيل التي يبدوا واضحا ان الفيلم كان حريصا على ابرازها، حيث نشاهد شارع كامل تدور به السيارات من فترة الاربعينات بكل تفاصيل الحياة التي كرسها النظام الفاشي، والكاميرا تتحرك بدون صخب مع موسيقى عميقة، بضربات خفيفة من البيانو، التي تعكس توتر داخلي في احداث الفيلم وروح المتفرج، والموسيقى من تأليف الفرنسي ألكسندر ديسبلا (1961) الذي سبق وتم ترشيحه لثلاث جوائز أوسكار، وفاز بجائزة غولدن غلوب ، ورُشح لعدة جوائز أخرى. ان مصيبة أتو كوانجيل وزوجته بفقدان ابنهما، وانشغالهما بأخفاء نشاطهما التحريضي السري، لم يمنعهما من ابداء التعاطف مع جارتهم العجوز اليهودية روزنتال (أدت دورها الممثلة الفرنسية مونيك شوميت مواليد 1927)، التي تعرضت شقتها للنهب والاعتداء من جيرانها أعضاء الحزب النازي من كتاب التقارير والوشاة! (هل يّذكر هذا العراقيين بشيء؟)، والتي يتعاطف معها أوتو كوانجيل وزوجته آنا، لكن محاولة اعتقال العجوز رزونتال من قبل قوات الغستابو بمشاركة ابن جارتها الذي رعته حين كان طفلا، وشب ليصير فتى في الشبيبة النازية، يدفعها للانتحار برمي نفسها من اعلى العمارة السكنية.
شخصية محقق الشرطة، الذي يتابع قضية توزيع البطاقات البريدية ، ادى دوره بتمكن الممثل الألماني ـ الاسباني دانيال برول ( 1978) ، الذي عرف في أفلام عديدة منها “وداعا لينين” 2003، و” المستعمرة كولونيا” 2015 ، وافلام عديدة أخرى نال عنها العديد من الجوائز، في هذا الفيلم نجح في تقمص دور محقق الشرطة الذي يؤدي دوره في البدء بحماس أيديولوجي وحرفية مهنية في البحث عن كاتب وموزع البطاقات البريدية، ونجح في تحديد طبيعة شخصيته من خلال دراسة نصوص البطاقات، فتوصل الى كونه شخص مفجوع بفقدان ابنه الوحيد في الحرب في فرنسا، له علاقة بالمكائن لأنه يكرر عبارات ” ماكينة الحرب” و ” ماكينة النظام“، وشخّص ان هناك تطورا في أسلوبه التحريضي، إذ بدأ من عبارات ” هتلر كاذب” و“هتلر قاتل” وانتقل الى طرح جمل طويلة تطالب بالبحث عن الحقيقة وإيقاف الحرب والنضال ضد النازية :”كل فكرة ضد الاشتراكيين القوميين مثل حبات الرمال في الة حرب النظام المجرم “. خلال التحقيق أطلق المحقق سراح مواطن مشتبه به كونه كاتب البطاقات لعدم تطابق المعلومات فالرجل المتهم لديه ولدين في جبهات الحرب، فأثار غضب ضابط الغستابو المستثار (لعب دوره الممثل السويدي ميكايل بيرسبرانت 1963) فأهان المحقق واعتدى عليه بوحشية، وطالبه بإعادة اعتقال المشتبه به، مما عصّف بشخصية المحقق واثار تعاطفه مع المشتبه به، إذ وجد نفسه تحول الى خائف ومهانا من ماكينة النظام مثل الذين يطاردهم، فيخبر المشتبه به بانه يدرك كونه بريء وانه ليس كاتب وموزع البطاقات، وبالاتفاق معه يقوم بتصفيته في غابة، لتجنبيه عذاب التحقيق وطرق التعذيب الوحشية لأنه في كل الأحوال ميت، ويدعي امام رجال الغستابو انتحاره. كان الممثل دانيال برول بارعا في عكس التحول في شخصية المحقق، وتصاعد روح القلق، وحيرته في المضي قدما في تنفيذ واجبه، فحين يتم القبض على أوتو كوانجيل، بعد ارتكابه خطأ بإسقاطه بطاقات بريدية تحريضية في محل عمله بسبب اهتراء جيب معطفه، يشعر المحقق بالغضب لكونه قام بفعل قاده الى الموت. وحين يرفع ضابط الغستابو نخب النجاح في القاء القبض على كاتب البطاقات ويحطمون كؤوسهم على رأس كوانجيل يتردد المحقق ويتأخر في فعل ذلك علامة على التصدع الداخلي الذي أصابه. وإذ كان أوتو كوانجيل كتب ووزع 285 بطاقة، فيخبره المحقق غاضبا بأنهم استلموا 267 من البطاقات وجلبها الناس لهم طواعية، وهناك فقط 18 بطاقة لم تسلم لهم ويصرخ به: “لم يمكنهم الانتظار حتى يسلموها لنا . كيف يمكنك حقا ان تصدق أنك ستغير أي شيء؟“، لكن كوانجيل لا يأبه بهذا، ففي حديث سابق مع زوجته عن مصير البطاقات البريدية، وتساؤله هل سيقرأها الناس؟ هل سيمررونها للأخرين؟ أخبرها “ان القليل من الرمل لن يوقف الماكينة لكن المزيد سيعطلها“. في مشهد اخير في الفيلم، بعد اعدام كوانجيل وزوجته يمسك المحقق بالبطاقات البريدية ويصرخ بانه الوحيد الذي قراها جميعها، وينثرها عبر الشباك من اعلى العمارة الى الشارع، ويخرج مسدسه من درج مكتبه، وإذ تنثر الريح البطاقات على ارض الشارع ويلتقطها الناس نسمع صوت اطلاقة، فنعرف بأن حبيبات الرمل قامت بدورها!
* المدى البغدادية. العدد (4492) الأربعاء (22) آب 2019