تمر الأيام والأسابيع والأشهر والسنين مسرعة والوعود الكاذبة والمخاتلة تتوالى لتنطلي على كثرة كاثرة من الناس الطيبين من بنات وأبناء الشعب العراقي المستباح بالطائفية والفساد السائدين والهيمنة الأجنبية. عاد العراق كما كان قبل 70 عاماً تسوده علاقات شبه إقطاعية – عشائرية وشبه استعمارية، عراق تابع لدولة جارة ترى فيه جزءاً حيوياً من الإمبراطورية الفارسية، وجزءاً أساسياً من مجال نفوذها الاقتصادي والسياسي ومصالحها الأخرى في الهيمنة على المنطقة بأسرها. قادة إيران يرون في طاق كسرى وبغداد عاصمة ثانية لهذه الإمبراطورية إلى جانب طهران العاصمة. لم تعد الحكومات العراقية المتعاقبة منذ العام 2005 حتى الآن سوى طائرات ورقية خيوطها بيد علي خامنئي المرشد الإيراني الأعلى لقوى الإسلام السياسي الشيعية الطائفية في إيران ولأغلب الميليشيات الشيعية المسلحة وأحزابها السياسية التي تدين بالولاء لإيران ولخامنئي. لم يعد هذا التشخيص مقتصراً على تقدير جمهرة من الديمقراطيين العلمانيين فحسب، بل اتسع ليشمل بعض قوى الإسلام السياسي التي ترى بأن القرار السياسي والعسكري والاقتصادي والابتعاد الجاد لم يعد بيد رئيس وزراء العراق، بما في ذلك قرار الابتعاد عن محاربة ومحاكمة رؤوس الفساد في البلاد، بل بيد ممثل خامنئي والحرس الثوري الإيراني العميد قاسم سليماني. إنه بمثابة “المستشار الذي شرب الطلا: فهل تنفع عربدة رئيس الوزراء والادعاء بقدرته على منع الطيران فوق سماء العراق إلَّا بموافقته وبقرار منه!
بالأمس رأينا مواطناً عراقياً طريح الأرض المتربة في وسط مدينة البصرة، في شارع عام، وجه له شخص بندقيته الرشاشة، ثم عشرات الأشخاص وجهوا نحوه بنادقهم الرشاشة وبشكل جماعي وأردوه قتيلاً، حولوا جسده إلى منخل (غربال) من كثافة الرمي الناري من فوهات بنادقهم الرشاشة التي وجهت لهذا المواطن الأعزل طريح الأرض. ثم ارتفعت فوهات ذات البنادق صوب السماء لتمطرها بألاف الإطلاقات إعلاناً عن انتصارهم وانتقامهم وقدرتهم على تحدي وتخطي هيبة القانون والقضاء والحكومة والدولة معاً، إذ لم يعد لكل هذه المسميات هيبة تذكر. لم يعد هؤلاء القتلة إلى العمل في جنح الظلام لاغتيال مواطن عراقي، فهم يتكئون على عشائرهم، وهي أقوى وأكثر هيبة من الدولة الطائفية الفاسدة والمشوهة والهامشية في دورها وفعلها. فهم أعلى من القانون والدستور المفرغين من محتواهما ومن القضاء الفاسد والمسيَّس والعاجز عن النهوض بما اقسموا عليه القضاة باحترام القانون والدستور ومهنتهم.
بالأمس قتل الكاتب والأديب والشخصية الاجتماعية الدكتور علاء المشذوب في مدينة كربلاء دون أن يجد رئيس الوزراء العراقي سبباً لاهتمامه بهذا الموضوع، فالقتلة هم من ضمن القوى التي رشحته لرئاسة الوزراء ومنحته ثقتها، فهل يمكن أن يخيب ظنها، لاسيما وأن المغدور تخطى المحظور من الأمور، تحدث عن الخامنئي بما لا يقبل به أوباش العراق من المليشيات الشيعية المسلحة والمتطرفة. فهل تحرك القضاء العراقي ورئيسه ليستفسر عن القتلة؟ وأين هو المدعي العام؟
وقبل ذاك اغتيل الكاتب والمسرحي هادي المهدي، ثم اغتيل الكاتب المبدع والشيوعي المتميز والمناضل من أجل دولة ديمقراطية علمانية ومجتمع مدني ديمقراطي كامل عبد الله شياع (في الذكرى الحادية عشرة لاستشهاده) على أيدي القتلة من أفراد المليشيات الطائفية التي عملت وتعمل ضمن بعض الأجهزة الأمنية الملتصقة بإيران وسياساتها ونهجها في التخلص من العناصر النشطة. وضاع دم هؤلاء لقلة المطالبين بدمه وخشية على العملية السياسية المشوهة الجارية!
بالأمس واليوم يستمر نهب أموال البلاد بشتى الأساليب والطرق. الحرامية كانوا ولا زالوا يملأوون وظائف الدولة الكبرى، إلا من تسنى له مغادرة العراق بما نهبه هو أو أبناءه وأقاربه في تصوره الخاطئ أنه سيحاسب! الأموال المنهوبة من خزينة الدولة أو عبر تهريب النفط الخام والعملة الصعبة (الدولار في مزاده العلني)، تقدر بعشرات المليارات، فهل حوسب أحد على ذلك؟
اشرت أكثر من مرة إلى أن العراق أصبح منذ سنوات وكأنه أرضاً إيرانية أو مدينة تابعة لإيران. ففي هذا العراق المستباح تمتلك إيران أكبر ترسانات للسلاح الإيراني الحديث الموزع في مناطق مختلفة من العراق، كما تحول إلى مقر أساسي للمخابرات الإيرانية والحرس الثوري والبسيج وغيرها من التنظيمات الإيرانية، ومنها فرق خاصة ومدرية للاغتيالات التي تتكون من مجموعات عراقية ذات انتماء ديني مذهبي سياسي إيراني وعناصر إيرانية مؤدلجة مذهبياً. وهي منتشرة في جميع أنحاء العراق، لاسيما في الوسط والجنوب وبغداد.
وبالأمس أيضاً توجهت طائرات “مجهولة الهوية!” قصفت ترسانات الأسلحة، التي يقال إنها تابعة للحشد الشعبي، في أكثر من موقع في العراق، إنها وضعت في معسكرات تضم مخازن للصواريخ، وربما، نصبت فيها منصات صاروخية إيرانية، من بينها معسكر صقر ومعسكر الشهداء، وهي كلها أسمياً تابعة للحشد الشعبي!! ولكن أليس هو الحرس الثوري أو شقيقه؟
لقد هددت إسرائيل كل الدول التي توافق على جعل أراضيها مخازن سلاح لإيران، ستتعرض لقصف جوي وتدمير مباشر. وفي العراق، كما يبدو، هناك مخازن للسلاح الإيراني وأخرى لحزب الله اللبناني الإيراني، وثالثة للمليشيات الشيعية المسلحة ذات الهوية الإيرانية والمسجلة رسمياً باسم الحشد الشعبي. لم تتأخر إسرائيل في ضرب مخازن أسلحة في سوريا تابعة لإيران ولحزب الله، والآن جاء دور العراق. لا يمكن إخفاء السلاح الإيراني في الأراضي العراقية عن المخابرات الأمريكية أو عن التصوير الجوي لطائرات الاستكشاف الأمريكية والإسرائيلية. كما لا يمكن لقرار عادل عبد المهدي بمنع الطيران في سماء العراق دون موافقته أن يمنع قصف مخازن السلاح في البلاد، وما قراره إلا محاولة بائسة لاستغفال المجتمع العراقي، إذ أن الطيران الإسرائيلي لا يطلب الأذن من عبد المهدي حين يتطير في أجواء العراق دون أن تلتقطه الرادارات العراقية. فما دامت السيادة العراقية مخترقة بشكل تام وليس من جانب إيران فقط، بل وقبل ذاك وحالياً من الولايات المتحدة أيضاً، ومن إسرائيل تأكيداً وبصيغ مختلفة، سيبقى العراق هدفاً سهلاً وستنشط مجدداً وأكثر من السابق قوى الإرهاب الدولي داعش وبناتها، والمليشيات الشيعية المسلحة وبصيغ جديدة معرضة حياة المزيد من الناس إلى مخاطر الموت والإصابة والمزيد من الخسائر المادية والحضارية.
أتمنى على القوى الديمقراطية الواعية والمدركة لما يجري في العراق وما يمكن أن يحل به، أن تكون بعيدةً عن القناعة بأن الوضع الراهن مناسب لها ولعمل القوى السياسية العراقية، وأنه يتطور نحو الأفضل، في حين أن المياه العكرة تسير من تحت أقدامها دون أن يحسوا بها، فتغرق المجتمع قبل أن يصبح الديمقراطيون واليساريون جزءاً من ضحايا هذه السياسة أيضا. إن الوعي بواقع الحال يفرض على الجميع المشاركة في التنبيه إلى المخاطر المتفاقمة والمتشابكة المحيطة بالعراق، وإن الحديث عن عملية سياسية في ظل نظام طائفي سياسي، وليس محاصصي فقط، إذ أصبح التعبير، كما يبدو، سائداً الآن على بعض الألسن على وفق ما سمعته من محاضرات في الآونة الأخيرة، إذ يجرى التخلي تدريجياً عن الإشارة الواضحة والدقيقة إلى طابع المحاصصة الطائفي والأثني الفعلي الجاري في العراق، وليس المحاصصة العامة فقط. فالأحزاب التي تقود الحكم هي أحزاب إسلامية سياسية طائفية تعتمد المحاصصة الطائفية ولن تتخلى عنها، ما لم يحصل تغيير في ميزان القوى السياسية في الداخل، وما لم نعتمد على تعبئة القوى الديمقراطية، رغم ضعفها الراهن وتفككها الإضافي الذي أصيبت به خلال السنتين المنصرمتين، رغم الجهود الكبيرة والدؤوبة التي بذلت لتشكيل “تقدم“. القوى الديمقراطية بحاجة إلى سياسة عقلانية واعية تقنع الناس وتطمئنها بأنها قد تعلمت جدياً من تجاربها الفائتة، وإلا فسوف لن تأخذ دور وسياسة القوى الديمقراطية بالجدية المطلوبة والقناعة الفاعلة.
حين التقينا بسكرتير عام الحزب الشيوعي الشيلي في عام 1971 في سنتياغو دي شيلي العاصمة ثناء انعقاد مهرجان اتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي، تحدث لنا عن الوهم الذي صاحبهم مراراً في اعتمادهم على قوى معينة كانت من حيث المبدأ معادية لنا، وكان هنا يقصد القوات المسلحة، وقد تعاملنا معهم كالتائه في البيداء وهو عطشان فيرى في الأفق البعيد ماءً بسبب اشتداد تعبه وعطشه، فيتقدم إلى أمام قاصداً الماء السراب إلى أن ينهك، في حين أنه كان لا يرى سوى سراب، سوى الوهم، فهل تجري الاستفادة من خبرة القائد الشيوعي السابق لويس كورفالان، في التحالفات والتعامل الجاري، لا أرى ذلك رغم تمنياتي!