و يرى مراقبون بأن تلك العقود الصعبة من السنين التي مرّت، حصل في اواخرها اخطر او اكبر انعطاف واجه و يواجه البلاد، اثر سقوط الدكتاتور بغزو اميركي خارجي، حين تحوّلت البلاد الى صراعات عسكرية و ارهابية عنيفة، انساقت لها مكونات البلاد كردود افعال، او بدفع من ارادات خارجية متضاربة الأهداف، تتناحر على ارضه و داخل دولته . .
من تعبير قائد المنطقة الوسطى للجيوش الاميركية حين غزو البلاد الذي عبّر عن ( ان تأريخ العراق يبدأ الآن ) و كأنه يتحدث عن اكتشاف القارة الاميركية حين وطأت ارضها اقدام كولومبس للمرة الاولى، الى رايات دعت للعودة الى زمان الرسول العربي و اخرى الى زمان صفيّن و الامام الحسين، بعد تشويه تأريخهما، و نشاط الدعوة للوهابية و اخرى لولاية الفقيه . .
اضافة الى مجاميع فلول صدام الارهابية الداعية لعودة نظامه بإشاعة الخوف اكثر من السابق، و رغم ذلك الوضع القاسي الطاغي، برزت راية (سنّة و شيعة، هذا البلد مانبيعه)، كإحدى دلالات الروح الوطنية التي لم تتحطّم لمقاومة الإحتلال . .
صراعات سقط فيها الآلاف تلو الآلاف، و غالبية السياسيون مشغولون بصياغات وثائق و اعمال قيام الدولة الجديدة و مؤسساتها و هيئاتها، على (اساس) التوافق و بدستور جديد اقرّ بالتصويت عليه بمشاركة مئات الالاف، رغم العنف و الإرهاب و وسط الفوضى المندلعة و التحركات المريبة المنظّمة المتنوعة خلالها . . حتى صارت و بطرق متعرّجة، دولة على اساس المحاصصة التي اطّرت و ادارت تلك الصراعات بدلاً من ان تحلّها، و بقوة السلاح و بمجابهة الإرهاب بالإرهاب . .
من جانب آخر، بتحقق الفوضى (الخلاقة) سارعت دوائر اميركية غربيةـ اسرائيلية، ايرانية، سعودية ـ خليجية و دفعت مجاميع محلية . . لعقد صفقات سرية، و لتسجيل عقارات و املاك و اراضي اميرية (حكومية) لم يكشف عمّا تحويه، باسماء افراد ـ عوائل، ممن يثقون هم بهم، لإيجاد صيغ (قانونية) لتأمين مشاريعهم، بعيداً عن اعتبار الدولة هي الممثل الشرعي للبلاد، كما عبّر برلمانيون و وزراء و مسؤولون سابقون.
علما بان عدداً من الشركات الغربية المتعددة الجنسيات العملاقة لاتخضع لقوانين ايّ بلد و لا سيطرة حتى للدولة المسجلة فيها، عليها، كما اجاب الرئيس الاميركي السابق اوباما على الشكاوى التي رفعت لإدارته خلال دورته الرئاسية بحق بلاك ووتر، و عقود اكسون موبيل و شيفرون النفطية و غيرها، بكونها غير خاضعة للادارة الاميركية. و الشركات العاملة المقابلة الأخرى تعود الى جهات دينية مقدّسة يصعب المساس بها، كما في ايران و عدد من دول الخليج.
و يرى مراقبون متخصصون، بأن شراء مسؤولين او وجوه عشائرية لأراضي اميرية شاسعة تحوي مشاريع و معادن و عقارات لمعامل حكومية تُركت، لم يأتِ صدفة و انما هو تمهيد لعقد صفقات مع تلك الشركات المتنوعة المتصارعة التي تبحث عن مالك بالإسم (و ليس اسم حزب او هيئة او مؤسسة حكومية) كي تضمن الشركات حقوقها و تؤمن على استثماراتها، من النهب و لخوفها من ان تغيّر الوجوه او السياسات، يضيّع حقوقها و اموالها و ارباحها الفلكية المنتظرة . .
و يرى آخرون بأن انحصار المناصب الحساسة باشخاص محددين رغم صراعاتهم من جهة، و عدم الاعتماد على هيئات او مستشارين متخصصين من جهة اخرى، ماهما الاّ للحفاظ على تلك الاسرار و لكي يستمر البناء على اساسها، و يطلقون عليها بـ (الدولة العميقة) . . اضافة لإنكشاف ان آلاف المشاريعالاستثمارية كانت وهمية فضائية، ضاعت اموالها لفساد غالبية اولئك الاشخاص المحددين الذين لعبوا ادوار الوسطاء فيها مقابل عمولات كبيرة . .
في اسلوب اتّبعته و تتبعه كل القوى الكبرى المتصارعة و وكلائها الآن على البلاد، اسلوب يشابه بجوهر آلياته ما اتبعة الإستعمار البريطاني حين احتّل العراق في نهاية الحرب العالمية الاولى، حين سجّل موظفوها اراضي البلاد باسم رؤساء العشائر في سعيهم لتكوين طبقة و فئات الاقطاع، ليكونوا سنداً داخلياً لهم(رغم الصراع الجاري بينهم الآن) . . فيما شجّعوا (نهضة تعليمية و مهنية و ثقافية) محدودة انذاك، لسد حاجة شركاتهم لايدي عاملة فنية رخيصة، التي تطورت بعد عقود اثر الحرب العالمية الثانية و تحطّم قطعان النازية على يد الجيش الاحمر . .
و بدلاً من اصلاح الوضع الاقتصادي الذي تدهور جرّاء حروب و ظلم الدكتاتورية، و الاحتلال و الحروب الإرهابية و الطائفية الأهلية لاحقاً، تدهور قطاع الدولة و مؤسساته اكثر و جرى اهماله بدفع من تلك الشركات الكبرى، في سعيها الى انشاء قطاعاتها هي و في مقدمتها في قطاعات النفط و المعادن النادرة و الغاز ، موظفة حالة الإنفتاح اللامحدود و الفوضى.
و لترابط الحروب الداخلية و صراع القوى الكبرى الدولية و الإقليمية بينها، بالارهاب و الفساد . . فقدت الدولة استقلاليتها و تعددت ولاءات الجهات الأمنية فيها، و انتشر السلاح خارج مظلة الدولة سواء حملته جهات طائفية او عشائرية او غيرها .
الأمر الذي تسبب بالقفزة المالية الهائلة لحكّام و عوائل، و تسبب في تحطّم الفئات الوسطى، و انحدار الاوساط الشعبية الكادحة الى مستويات مخيفة من الفقر بسبب البطالة و الجوع و المرض و المخدرات، و تحولت الدولة اكثر فأكثر الى دولة ريعية بعد خراب الزراعة و الصناعة فيها و صارت تُحكم بإيرادات النفط و القروض المتفاقمة لتغطية العجز المتزايد في الميزانية الحكومية . .
(يتبع)
21 / 8 / 2019 ، مهند البراك