يؤكد العديد من المؤرخين، والباحثين في الحضارة الساسانية، كـ Shaul Shaked، وأمين حسين، ونصير الكعبي، وغلام حسين صدقي، والباحث الروسي كنستاين أينا سترانستيف، وقديما أبو الريحان البيروني، وغيرهم، أن الخلفية الاجتماعية والثقافية-السياسية والدينية الحضارية، مكنت من الآداب الساسانية مواجهة الدمار القبلي العربي الإسلامي حتى عهد الخليفة العباسي المنصور، ورغم ما حل بها في عهد هارون الرشيد تحت حجة محاربة الزنادقة، تنامت بعضها المتبقي في عهد أبنه المأمون عن طرق ترجمتها إلى العربية، وهذه بحد ذاتها أصابها الإهمال والتلف، ولم يصلنا منها إلا النذر اليسير والذي لا يمكن أن يعوض عليه لإعادة صرح الأدب وفلسفة الحضارة الساسانية كالحضارات المعاصرة لها، اليونانية والرومانية والهندية والصينية.
وقد كانت الكارثة الأدبية هائلة لم تقل عن السياسية والإدارية، فعلى سبيل المثال وللقضاء على الآثار الثقافية والعمرانية الساسانية إلى جانب الأدبية والفلسفية- الدينية نقض الخليفة العباسي المنصور إيوان كسرى في دي سابور (المدائن) مستعملا مواده في بناء بغداد، وقد عارضه فيها خالد البرمكي، لكنه وبعد التريث قليلا نقض القصر الأبيض الملكي، ولكن ولضخامة البناء وتكاليف الهدم تراجع عن المشروع، ويقال إن قتل المنصور لأبي مسلم الخرساني كانت على خلفية القضاء على أحد حماة الموروث الساساني الثقافي والسياسي. وحركة (سنباد) كانت ثأرا لمقتل الخرساني، رافقتها الدعوة بالعودة إلى الديانة المزدكية، وإلى معالم الحضارة الساسانية.
ولتوضيح إشكالية تاريخية كارثية بالنسبة للكرد، والتي ظهرت منذ القرن الثالث الهجري، هي سيادة المملكة السامانية الفارسية، وإحلال الفارسية لغة وتاريخا على الإمبراطورية الساسانية والسابقات لها، والمتزايدة على مر التاريخ، والمؤدية إلى هيمنة كلمة الفرس على أداب وحضارة المنطقة، إلى أن أصبحت كأنها مسلمة لا نقاش عليها، ولتعرية التحريف والتشويه، لا بد من معرفة المراحل التي بدأت فيها إضفاء الصفة الفارسية على التاريخ الساساني، وما قبلها، وهذه الإشكالية جعلت من معظم المؤرخين المسلمين وغير المسلمين يرادفون الصفة الفارسية مع الساسانية في القرون الأولى من الخلافة العباسية، والتي لم تكن لها ذكر في الأموية، والمؤرخون الذين يكتبون عن المراحل الإسلامية الأولى ويطفون أسم الفارسية على الماضي الساساني، هم من الجيل المتأخر في العصر العباسي وما تلاه، بعدما أصبحت الصفة الفارسية جدلية غير قابلة للنقاش، وهي في الواقع غير موجودة في كتابات المؤرخين الإسلاميين أو المسيحيين الأوائل، المعاصرين للخلافة الراشدية أو الأموية أو ما قبلهما، ولا تعني هذا أنه لم يكن هنا تاريخ للفرس وباسمهم، ولكن لم يكن بالشمولية الدارجة بعدها والتي أدت إلى توصيف الساسانية تحت أسمهم.
وفي الواقع بين الفرس أو المملكة السامانية والساسانيين بعد لغوي وسياسي وإداري، وعلاقة الفرس بالحضارة الساسانية وإمبراطوريتها لم تكن أكثر من مقاطعة تابعة، بعدم انهدام الأخمينية، وهي ذاتها لم تكن فارسية كاملة ولم تكن تسمى بتلك الشمولية إلا في العصور اللاحقة بعد المملكة السامانية، فقد كانت تسمى الأخمينية، وهذا ما يظهر في جميع المخلفات الأركيولوجية وكتب المؤرخين المعتمدين على الأرشيف الأصلي لتلك الحضارات، بين المؤرخين من العصور الإسلامية الأولى، والمستشرقين، الروس أو الأوربيين، ومنهم ويل ديورانت الأمريكي، ومن يذكرهم كفرس يساير المفهوم الذي أصبح دارجا.
ولا تعني هذا أنه لم يكن للفرس مكانة قيمة ضمن الإمبراطوريتين، لكن تمثيلهم كان على سوية الشعوب العديدة التابعة، وملوك الإمبراطوريتين كانوا من الكرد والفرس، ولم يعد مخفيا أن مؤسس الساسانية كان كرديا وبرسالة من أخر ملوك الأخمينيين، ولغتهم كانت كما ذكرناها في الحلقات السابقة لم تكن فارسية ولا الفارسية القديمة، وقد بحث في هذه الإشكالية بالتفصيل العديد من المؤرخين، وكتبنا فيها ضمن الحلقات السابقة، فالبهلوية أو الفهلوية القديمة هي لغة منفصلة عن الفارسية، والأخيرة طورت وأصبحت لغة البلاط والإدارة في عصر السامانيين، وفي عهد المأمون ترجمت بعض الكتب من البهلوية الفهلوية الشمالية القديمة (لغة ملوك ساسان وإدارتهم ومراكزهم الثقافية المنتشرة في مدن كندي سابور وني سابور العاصمة، ونصيبين وأربيل، والرها، وغيرها) إلى الفارسية مثلما كانت تترجم إلى العربية. لا شك هذه الإشكالية تحتاج إلى دراسات واسعة لتوضيحها وتبيان الحقيقة.
ويظن البعض من الباحثين في العمق اللاهوتي أن مفهوم المهدي المنتظر المنتشر بين الشيعة الأن، ظهر في البداية بين جماعة سنباد، لتأثرهم بمقتل أبو مسلم الخرساني على يد المنصور، واعتقادهم بعودته بعد انهيار حكم العرب، وهذه دلالة على استمرارية مقاومة الخلفية الحضارية الساسانية للاجتياح العربي الإسلامي لقرون عديدة بعد سقوط الإمبراطورية. وقد ظهرت حركات مقاومة أخرى، سياسية وثقافية-دينية، وكانت غايات معظمها إحياء التراث الفكر الديني الساساني، نذكر من بينهم (به آفريد) و(بابك الخرمي) و(استاد سيسل).
وبناءً على ما تم عرضه في الحلقات السابقة، حيث ضخامة الخسارة الحضارية، لا بد من مواجهة تراكم التشوهات على تاريخ المنطقة، والتي أدت إلى انتشار ثقافة متخلفة وعنصرية، المغيبة لعناصر الحضارة عن المنطقة منذ أربعة عشر قرنا من الزمن، والمنتجة للسلطات الفاسدة بدون توقف، وكذلك إعادة تصحيح ما يمكن تصحيحه من هذا الكم الهائل من التاريخ المحرف والمفبرك والمشوه، والمغيبة حتى للفتات المذكورة في كتابات الأولين، قبل ظهور الأنترنيت، والتي بعضها ظهرت في كتب:
(ابن النديم توفي عام 345هـ) وبشكل خاص في كتابه (فهرست) والتي تضم قائمة بـ 44 كتابا من مصنفات كتب الأدباء الساسانيين بينهم ملوك ساسان، وأظهر من بينهم عناوين 14 كتابا كانت قد ترجمت إلى العربية معظمها في عهد الخليفة المأمون ويقال إن بعضها تمت في عهد الأمويين، لكن أبن النديم لا يذكرها، وهي مستبعده، فلمن تكن هناك حركة للترجمة في العصر الأموي وحتى بداية العباسي، ومن الكتب المذكورة كتاب (عهد أردشير بابكان الكردي إلى أبنه سابور).
و(الجاحظ 159-255هـ) في كتابه (التاج في أخلاق الملوك)، ومن بين الكتب المذكورة عنده، وعند أبن النديم، مجاميع كتب (تاج نامه) و(آيين نامه) ومنها في الآداب الساسانية ككتاب (اندرز نامه) رسائل النصائح، وكتاب (دين كرد البهلوي) وهي مجاميع للنصائح والمواعظ الأخلاقية العلمية، وقيل إنها قطعة كبيرة تتجاوز مئة صفحة مطبوعة، منسوبة إلى بزر كمهر والملك كسرى أنو شيروان، وكتاب (بند نامه) وهي رسائل المواعظ. ولمعرفة كلمة (بند) في البهلوية، لغة الساسانيين، ( ملاحظة: يقول جاحظ البهلوية ولا يذكر الفارسية، التي حلت محل الساسانية كما نوهنا في بداية هذه الحلقة، وانتشرت في عصر ملوك السامانيين 819م-999م وهم سلالة فارسية حكموا بلاد ما وراء النهرين وأجزاء من فارس وأفغانستان، عصمتهم كانت بخارى) لفظة مشهورة متداولة وتعطي معنى (راه) أي الطريق، ويقول أنها تحمل المعنى ذاته في الأدبيات المانوية والفرثية “… وهي كلمة فهلوية ترادف لفظ (أدب) العربية والأدب كلمة مشتقة من الكلمة اليونانية (أديبوس) تعني الكلمة الطيبة…” ويذكر السيد محمد مندلاوي أن كلمة (أدب) مشتقة من الكلمة الكردية (دب) الخشب، لأن الكتابة كانت تعلم التلاميذ على الألواح الخشبية. فحتى اللحظة كلمة (دبستان) المدرسة، مركبة من كلمتين الـ (دب) الخشب و (ستان) وتعني المكان. ولمكانة الأدب الساساني يمتدح جاحظ كتابه المذكور ويقول عنه ” ولأن قائلا يقول إذا رآنا: قد نقلنا في كتابنا هذا بعضاً من أخلاق الملوك الماضين من أل ساسان..”.
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
9/12/2016م
لا يا أخي أنت لم تتكلّم عن الكارثة الإنسانية إطلاقاً ولا يظن أحدٌ أن مثلها قد حدث في تاريخ البشر ، بالعهدة العمرية,عمر بن خطاب وضع المسيحيين جانباً ليتمكن من القضاء على الساسانيين ولما أتم ذلك، تحول الجميع 100% إلى العرب مسلم موالي لقبيلة عربية غازية بالدين والنسب واللغة حتى أسماء البالغين بُدّلت فوراً، لا يوجد عجمي على قيد الحياة تعريب فوري مع الشهادة الإسلامية أو ذبح إلاّ من كان نائياً الشيعة كلهم من أولئك المستعربين وكذلك معظم سنة سوريا والعراق خاصة سكان الموصل وحلب وغيرهما , بسقوط الأمويين تنفس العجم الصعداء ( الكورد والفرس ) ممن لم يكونو قد إستعربوا 100% , فظهرت هويتهم القومية وميولهم الدينية السابقة فتبنى هارون الرشيد حملة تعريب شاملة كما بدأها عمر بن خطاب ومعاوية, لكنه قُتل فيها فتححروا جميعاً على يد المأمون ذي الميول الفارسية اللاإسلامية ونجت الشعوب من التعريب الماحق