“73 درجة مئوية” فيلمٌ أخير له، يمزج بين الوثائقي والمتخيّل، من دون أنْ تطفو صورة المتخيّل وعوالمه على العمل، فتجعله مغمورًا بالتخييل، وبعيدًا عن الواقع. فشمعون حريصٌ على توثيق الواقع العراقي عامة، والايزيدي خاصة، بآلامه وجروحه ونتوءاته، عبر قصص واقعية لـ3 مراهقين، هم آسيا وريّان وعلي، تعرّضوا للعنف والإرهاب. تعرّف المخرج عليهم، للمرّة الأولى، في مستشفى ألمانيّ، كانوا يُعالجون فيه.
أعمال باز شمعون سينما حقيقية، من دون مساحيق تقوم باستقراء الواقع العراقي والبحث عن حقيقته المفقودة. كما تجعله مثقفًا غرامشيًا، همّه الأساس أن يفتح لتجربته آفاقًا جديدة، وهذا أمر عاينه بعمق منذ “أين العراق، أين العراق” (2005).
“العربي الجديد” التقت باز شمعون، وكان هذا الحوار.
(*) في براغ، أقمتَ ودرستَ وعشتَ حياتك. ماذا تبقى فيك من العراق، الذي تحنّ إليه اليوم، وتفكّر به، وتتناول قضاياه وإشكالاته؟
– الجذور العميقة والأصيلة تبقى حيّة، حتى لو تعرّضت لاقتلاع أو بتر مُتعمَّدَين، فهي تنبت في أيّ مكان، حتى إذا كانت على الهامش. هذا إصرارٌ غريزيّ لتثبيت الهوية، التي تُنتزع قسرًا بسبب اختلاف سياسي أو فكري أو وجودي. العراق وطني. رغم التجربة القاسية، التي أخذت 14 عامًا من حياتي، لوحقت خلالها لخلافٍ سياسي ووطني وعرقي. كلّما يتقدّم العمر في المنفى، ينزف جسدي أكثر بسبب طول الفراق والانقطاع الكامل عن الأرض والأشياء. الوطن يأخذ حيّزًا كبيرًا في إنجازاتي وأعمالي وتفكيري وروحي المعلّقة في الـ”بَيْن بَيْن”، لأن مرارة مآسيه وعمقه التاريخي يصعب تجاوزهما.
ما شدّني للعودة إلى العراق، وإنتاج فيلم عن الأيزيديين، كامنٌ في حدثٍ جرت فصوله في أغسطس/ آب 2007، تمثّل بدخول 4 صهاريج كبيرة من 4 اتجاهات مختلفة، كلّ واحد منها محمّل بالمتفجّرات التي دمّر انفجارها عددًا من قرى سنجار، وقتل أكثر من 800 مواطن أيزيدي. الشيء الآخر والأهمّ هو سماعي صوت امرأة أيزيدية، شاركت في تظاهرة احتجاج على قتل إخوانها في سنجار، وهي تصرخ صراخًا عزائيًا في شوارع هانوفر في ألمانيا.
ذكّرني هذا بطفولتي، عندما كانت الأصوات تقترب من مسامعنا، ونحن أطفال نلعب في شوارع القرية (شيخان)، نعلم يقينًا بأنّ هناك تراجيديا حدثت أو ستحدث، والآن هو دور النساء في إطلاق الغنائيات العزائية، بينما الرجال يلتقون للاتفاق على كيفية أخذ الثأر من العدو. نحن الأطفال كنّا نبحث عن أمّهاتنا أو جدّاتنا للاختفاء تحت أثوابهنّ، لأنّ الأصوات مُقلقة ومخيفة بالنسبة إلينا حينها. الأصوات العزائية عادت بي إلى وطني الخرب. سجّلت بواقعية حالات صادفتها في سفري بين مناطق الأيزيديين، وصوّرت هذه العزائيات، ومنها أسّست بعض ما في الفيلم
(*) ما الدلالات السياسية والفنية لعنوان الفيلم، “73 درجة مئوية”؟
– إنّه رقم محيّر ومخيف، ويدفع التاريخ إلى إعادة نفسه بأشكالٍ مختلفة، خصوصًا عند المكوّن الأيزيدي. الحيف والقهر ضد المكوّن لم يكونا صدفة اليوم، بل هما تاريخ مركّب من الألم والخوف والقهر والنكران والغدر والتسلّط المُتعمَّد ضد التكوين الضعيف، بحجة المعتقد أو الإيمان أو الدين أو التقاليد. أنا متأكّد من أنّك قرأت بيان الفيلم، الذي يوضح تمامًا ماهية العنوان، وكيف ولماذا اختير، وكيف تمّ التوصّل إليه فلسفيًا. الخوارزمي والصدفة والمنطق والحالة، وتجربة هذا المكوّن الأصيل والقديم، حاضرة كلّها. الرقم دليل واضح على الفرمانات (السبي) التي عاشها المكوّن الأيزيدي. إنّه يمثّل الرقم الأكثر دراماتيكية للأيزيدي العراقي أو الكردي، بشقّيهما.
(*) ما الأسباب، الشخصية والفنية، التي جعلت مخرجًا مثلك، درس السينما في براغ، أن يضع فكرة عمله “73 درجة مئوية” في قالب وثائقي لا روائي؟
– درستُ في براغ وأنا في سنّ صغيرة، لاضطراري لترك العراق بسبب الانتماء السياسي لوالدي. في تشيكوسلوفاكيا السابقة، أكملتُ دراسة الماجستير في الفيلم والتلفزيون الإعلامي، بعد أن تركتُ دراسة الهندسة الصناعية، ثم هاجرتُ إلى كندا، وبدأتُ أعمل منتجًا ومخرجًا مستقلاً مع القنوات التلفزيونية. بعد ذلك، وكمنتج ومخرج مستقلّ، بدأتُ أبحثُ عن سينما تُشبع طموحي ورغباتي الإنتاجية والإخراجية، ووجودي بشكل خاص كمنفيّ. قادني حبّي للفنّ السابع إلى اختيار سينما المؤلّف، سينما البديل، سينما الحقيقة الخالصة من دون أي رتوش، سينما تُلبّي طموحي، وترسم رؤيتي بحرية وإخلاص وموضوعية.
حين عدتُ إلى بلدي، بعد غياب 27 عامًا، كانت في جعبتي 3 مشاريع في طور التكوين والتنمية. المشروع الأول بعنوان “من الممكن أن نعثر عليهم في نكرة السلمان”، يبحث في نهاية حياة أكثر من 200 شخص اختفوا في أقلّ من 3 أيام، بينهم أفراد من عائلتي، تمّ بالضبط إلغاؤهم وجوديًا مع الإعلان عن توقّف الحرب العراقية ـ الإيرانية في 8 أغسطس/ آب 1988. سُمّيت هذه العملية بـ”الأنفال”، وعنوان الحملة مأخوذٌ من آية قرآنية.
مشروعي الآخر روائي قصير، بعنوان “قلب فأر الجبل”، عن سيرة العمّ الكبير لوالدي الذي أطعم ولده الأخير قلب فأر الجبل، بسبب اعتقاده بأنّ أكل قلب الفأر وهو حيّ يعطيه الحكمة والشجاعة والخلود. اعتقاد أسطوري، تؤمن به عائلتي المتحدّرة من أصول آشورية. أما المشروع الأخير، فروائي طويل عن محاكمة صدّام حسين.
لكن، بعد وصولي إلى الوطن ـ الذي هو في مخيّلتي وحالتي وطن الطفولة والبراءة، وكان حينها وطنا من دون حروب عالمية مدمِّرة ـ كانت هناك معارضة داخلية مسلّحة بقيادة “الحركة الوطنية الكردية”، ومعها اليسار العراقي، المسلّح بشكل بسيط جدًا. كانت الأحزاب تعمل في سرّية كبيرة في منتصف خمسينيات القرن الـ20. عام 2007، كان العراق يدور في فلك الحرب مع العالم برمّته، بعد حربه مع إيران، وحرب الحصار المؤلمة والطويلة والكاذبة، إذْ اعتُبرت بأنّها حرب تكسير رأس النظام. كان مرعبًا ابتزاز الشعب العراقي وثروته وإرثه وثقافته.
بعد تلمّسي حالة الوعي، ووضع عائلتي، وأين وصلت أجيال البلد، قرّرت التوقّف عن العمل بأيّ مشروع سينمائي روائي. هكذا بدأتُ البحث عن أفكارٍ تعكس الحالة الحقيقية لبلدي، فحالة العراق أكثر فتكًا وتأثيرًا وعمقًا، ومن دون رتوش أو نصوص مفبركة أو منقولة عبر وجه ممثل محترف. بدأتُ البحث عن أضعف حلقة أو عنصر في المجتمع العراقي. هكذا وجدت أنّ حالة الـ73 درجة الأنسب في سرد حكاية العراق التراجيدي.
(*) ما الصعوبات التي واجهتك أثناء الكتابة، علمًا أنّك اشتغلْتَ على الفيلم مدّة طويلة نسبيًا، مقارنة مع أفلام وثائقية أنجزتها مؤخّرًا، في العراق وخارجه؟
– لم تواجهني صعوبة في كتابة نص وثائقي. لكن الذي أوقفني كثيرًا كان تحديد أسلوب وصوغ أيّ نوعٍ من الوثائقي عليّ أن أختار كي أروي حكاية عمر وبلد وإرث وشعب مهمّش ومغدور وممزّق، يعيش حالة تشظٍ عميق. اخترت نصّ المؤلّف، أي سينما المؤلّف، لنسج الحكاية، وصوغ ثيمة الفيلم.
(*) كيف تلقّى الوسطين الفني والشعبي “73 درجة مئوية”، خصوصًا أنّه يتناول موضوعًا حسّاسًا كقضية الأيزيديين، التي تناولها مخرجون عديدون داخل العراق، روائيًا ووثائقيًا؟
– كنتُ من المنتجيين الأوائل في التحرّك لصوغ نصّ سينمائي عن الأيزيديين، وفي إيجاد صوغ موضوعي غير تجاري في قضية وجود الأيزيديين ومصيرهم في العراق، لأنّي بدأتُ تصوير أول مقطع عن المكوّن العراقي الأصيل في 4 ديسمبر/ كانون الأول 2007، واستمرّ العمل حتى عام 2014. لم يكن هناك مخرج يتحرّك في هذا المناخ الإنتاجيّ في المنطقة، بل قنوات تلفزيونية تغطّي حالاتٍ وأحداثًا بشكل سريع، وبسطحيّة مؤلمة.
ما حدث معي كان بسبب علاقتي المباشرة مع الروحانيين، ومع العائلة (بابا شيخ)، بسبب سكن عائلتي بالقرب منها على مدى 5 أجيال، فتشاركوا معًا العيش كجيران في منطقة شيخان، التي تقع في سهل نينوى، وهي من المناطق المتنازع عليها حاليًا.
(*) يتناول “73 درجة مئوية” مسارات حكائية تنحو صوب قضايا مختلفة، كالأيزيديين والشيعة والسنّة، وضحايا الإرهاب. لماذا هذه المواضيع بالذات، التي تبدو لي اليوم أشبه بـ”موضة” عراقية، علمًا أنّ طرائق الاشتغال والتناول تختلف من فيلمٍ إلى آخر؟
– اختياري شخصيات الفيلم وليد الصدفة، أثناء بحثي المركّز في الموضوع. الشخصيات هذه التي التقيتُها للمرّة الأولى كانت تعيش تحت سقف واحد، وكانت حينها تتعالج من إصابات مروّعة وفتّاكة في ألمانيا، ومن كان يهتمّ بضحايا الحرب ويُشرف على علاجهم ويتحمّل المسؤولية يُدعى هادي بابا شيخ، وهو من أصل أيزيدي. إنّه الأخ الأصغر للروحاني بابا شيخ، الذي كان حينها يعيش في مدينة هانوفر في ألمانيا.