لم تستطع وثبة كانون المجيدة عام 1948 أن تحقيق كامل أهدافها، فرغم أنها استطاعت أن تسقط حكومة [صالح جبرـ نوري السعيد]، وتسقط معها [معاهدة بورتسموث]، ورغم أنها استطاعت أن تهز العرش الهاشمي وتهدد وجوده، واضطرته مرغماً، على إقالة الوزارة، وتعين [السيد محمد الصدر] رئيساً للوزراءـ الذي كان يصنف من المعتدلين حينذاك ـ والذي بادر فوراً بالإعلان عن إلغاء المعاهدة المذكورة وإطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين الذين شاركوا في الوثبة، وبذل الكثير من الجهود لتهدئة الأوضاع.
إلا أن الهدوء لم يستمر طويلاً بسبب تردي الأوضاع المعيشية للشعب من جهة، وعودة الوجوه[البورتسموثية] إلى واجهة السلطة من جهة أخرى، مما شكل تحدياً لمشاعر الشعب وإرادته، وزاد من توتر الوضع مبادرة هذه السلطة بإجراءاتها القمعية، وانتهاك الحريات العامة من جديد.
ففي عام 1949 أقدمت حكومة نوري السعيد على إعدام قادة الحزب الشيوعي، [يوسف سلمان ] و[ زكي بسيم ] و[ حسين محمد الشبيبي ] وشنت حملة شعواء على القوى والأحزاب الوطنية التي شاركت في وثبة كانون المجيدة، وخنقت الحريات العامة والصحافة الوطنية، وأكمّتْ صوت الشعب.
وجاء تخفيض الدينار العراقي المرتبط بالباون الإسترليني، تبعاً لانخفاض الأخير من 4 دولارات و3 سنتات للجنيه الواحد إلى دولارين وثمانين سنتاً، والذي سبب أزمة اقتصادية حادة ضاعفت من معاناة الكادحين من أبناء الشعب والطبقة المتوسطة، وأعقب ذلك المفاوضات التي أجراها نوري السعيد مع شركات النفط، والتي جاءت لمصلحة الشركات الاحتكارية الإمبريالية على حساب الشعب العراقي، مما أدى إلى موجه من الاحتجاجات على سياسة الحكومة وتفريطها بمصالح الشعب والوطن، ودفع نواب المعارضة في البرلمان، والبالغ عددهم 37 نائباً، إلى الاستقالة من عضوية المجلس احتجاجاً على سياسة الحكومة، مما صعد حدة التناقض بين الشعب والسلطة الحاكمة.
وجاء إضراب عمال الميناء في البصرة، المطالبين بحقوقهم، ولجوء الحكومة إلى القوة لكسر الإضراب، وسقوط العديد من القتلى والجرحى في صفوف المضربين وأبناء الشعب ليزيد من حراجة الموقف، ومن تراكم الغضب الشعبي، مما دفع الأحزاب الوطنية إلى تقديم المذكرات إلى الوصي على العرش عبد الإله، والتي تضمنت شرحا وافياً لمدى التدهور الحاصل في أوضاع البلاد، وانتشار الفساد وقمع الحريات العامة، وحرية الأحزاب والصحافة وكم أفواه الشعب.
لكن الوصي تجاهل تلك المذكرات والمطالب التي تضمنتها لمعالجة الأوضاع، ولجوئه إلى التطاول على السيد طه الهاشمي في مؤتمر البلاط، كل ذلك جعل الشعب العراقي وقواه السياسية الوطنية في حالة من اليأس من إصلاح أوضاع البلاد ورفع من حدة التناقض بين الشعب والزمرة الحاكمة إلى الدرجة الحرجة، والتي كانت تنذر بانفجار عنيف يتجاور انفجار كانون الثاني عام 1948.
كانت الجماهير الشعبية تعيش حالة من الغليان الشديد والغضب العارم من سلوك الحاكمين، وتجاهلهم لإرادة الشعب، وتنتظر الشرارة التي تفجر الانتفاضة. و جاء قرار عمادة كلية الصيدلة والكيمياء القاضي باعتبار الطالب المعيد لدرس ما، معيداً لكافة الدروس، مما أثار غضب الطلاب الذين سارعوا إلى إعلان الإضراب عن الدراسة في 16 تشرين الأول 1952. وأدركت الحكومة خطورة تطور الإضراب واندلاع المظاهرات وتوسعها فأسرعت إلى الإعلان أن القرار لا يشمل الصف المنتهي هذا العام.
لكن الطلاب واصلوا إضرابهم مطالبين بإلغاء القرار، ونتيجة الاستمرار الإضراب اضطرت وزارة الصحة إلى إصدار قرار جديد يقضي بإلغاء قرار العمادة، لكن الطلاب فوجئوا في اليوم التالي بوقوع اعتداء من قبل مجهولين داخل الحرم الجامعي على الطلاب الذين كانوا من النشطين خلال الإضراب، مما أدى إلى قيام المظاهرات الطلابية، وإعلان كافة طلاب الكليات الإضراب عن الدراسة، ثم تبعهم طلاب المدارس الثانوية والمتوسطة وأعلنوا إضرابهم عن الدراسة في 22 تشرين الثاني، تضامناً مع طلاب كلية الصيدلة.
بدأت موجة المظاهرات تأخذ منحاً جديداً، بعد أن أخذت الجماهير الشعبية تنظم إلى الطلاب المتظاهرين، وتطورت إلى مظاهرات سياسية تطالب بتحقيق المطالب التي تضمنتها مذكرات الأحزاب الوطنية إلى الوصي، وإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبسرعة تحولت الاحتجاجات على الأوضاع إلى مظاهرات تهتف بسقوط عبد الإله والحكومة، وإخراج الإمبرياليين البريطانيين والأمريكيين من البلاد.
كان انطلاق المظاهرات الشعبية من [محلة الفضل]، حيث تصدت لها قوات الشرطة مستخدمة الأسلحة النارية ضد المتظاهرين الذين واجهوهم بالعصي والحجارة وبعض المسدسات، حيث وقعت معارك شرسة بين الطرفين، استبسل فيها أبناء الشعب مبدين بطولة خارقة. واستشهد نتيجة الصدام أحد المتظاهرين وجرح 14 آخرين، فيما أصيب 38 شرطيا بجراح. ونتيجة لتدهور الوضع سارع [ مصطفى العمري] إلى تقديم استقالة حكومته إلى الوصي عبد الإله.
وفي 23 تشرين الثاني اتسع نطاق المظاهرات والاحتجاجات، وجرى المزيد من الصِدام مع قوات الشرطة، حيث أصيب 25 متظاهراً بجراح كان أغلبهم من العمال والكادحين مما ألهب الموقف، واندفع المتظاهرون الشيوعيون، و الديمقراطيون، ورابطة الشباب القومي، بالاستيلاء على مركز شرطة [قنبر علي] و[ مركز شرطة باب الشيخ ]، وتم الاستيلاء على كميات كبيرة من الأسلحة العائدة للشرطة، كما جرى إحراق [مكتب الاستعلامات الأمريكي ] قرب سوق الصفافير، وقد وقع جراء الصِدام مع الشرطة 12 شهيداً من العمال والكادحين، وكان رد فعل الجماهير الغاضبة على استشهاد هذا العدد الكبير من المواطنين أن اقدموا على حرق أحد أفراد الشرطة. وفي المساء كانت السيطرة قد خرجت من أيدي الشرطة، وعمت المظاهرات كل مكان.
وهكذا أصبح الوضع خطيراً جداً في بغداد مساء يوم 23 تشرين الثاني، وحاولت الحكومة الاستعانة بقوات الشرطة السيارة المدربة خصيصاً لقمع المظاهرات، حيث نزلت إلى الشوارع واصطدمت بالمتظاهرين، ووقع المزيد من القتلى والجرحى حيث استشهد 23 مواطناً فيما قتل 4 من أفراد قوة الشرطة السيارة، وتم إحراق عدد من سيارات الشرطة، وانتهت المعركة ذلك اليوم بهزيمة قوات الشرطة السيارة، واصبح الوضع في بغداد خطيراً جداً، كما امتدت المظاهرات إلى سائر المدن العراقية الأخرى تضامناً مع جماهير بغداد، ولم يعد لقوات الحكومة القمعية أي سيطرة على الشارع العراقي، مما اضطر الوصي، وقد أصابه الرعب من خطورة الموقف، إلى قبول استقالة حكومة[ مصطفى العمري] واستدعاء رئيس أركان الجيش، الفريق [ نور الدين محمود ] لتأليف وزارة جديدة في ذلك اليوم 23 تشرين الثاني 1952، وتم إنزال الجيش إلى شوارع بغداد والمدن الأخرى وجرى تأليف الوزارة على عجل، وجاءت على الشكل التالي :
1 ـ نور الدين محمود رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع والداخلية.
2 ـ علي محمود الشيخ علي ـ وزيراً للمالية.
3 ـ ماجد مصطفى ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية، ووزيراً للاقتصاد وكالة.
4 ـ فاضل الجمالي ـ وزيراً للخارجية.
5 ـ عبد الرسول الخالصي ـ وزيراً للعدلية، ووزيراً للمواصلات والأشغال وكالة.
6 ـ قاسم خليل ـ وزيراً للمعارف.
7 ـ رابح العطية ـ وزيراً للزراعة.
8 ـ عبد المجيد القصاب ـ وزيراً للصحة.
سارعت الحكومة الجديدة إلى إعلان الأحكام العرفية في نفس اليوم، وجرى تأليف المحاكم العرفية العسكرية، وأصدرت أمراً بمنع المظاهرات والتجمعات وحمل الأسلحة، منذرة المخالفين بإنزال أشد العقوبات بحقهم.
كما أعلنت الحكومة عن حل الأحزاب السياسية كافة وتعطيل معظم الصحف، حيث شمل التعطيل صحف الأهالي و لواء الاستقلال والجبهة الشعبية، لسان حال الأحزاب السياسية المعارضة، وكذلك صحف القبس، و النبأ، واليقظة، وصوت الشعب، والسجل، والحصون والأفكار، والوادي، والآراء، والعالم العربي، وعراق اليوم، والجهاد.
لكن المظاهرات استمرت بعنفوانها متحدية الحكم العسكري الجديد، وكان المتظاهرون يهتفون بسقوط الحكم العسكري، ويطالبون بتشكيل حكومة مدنية برئاسة السيد كامل الجادرجي.
وقام الجيش بالتصدي للمتظاهرين، وجرى إطلاق النار عليهم، حيث استشهد 8 مواطنين، وجرح 84 آخرين، أصدرت الحكومة قرارا بمنع التجول من الساعة السادسة مساءاً وحتى الساعة السادسة صباحاً، وقامت خلال الليل بحملة إعتقالات واسعة في صفوف أبناء الشعب، شملت ما يزيد على 3000 مواطنا، بينهم 220 شخصاً من الوزراء السابقين، والنواب، والصحفيون ورؤساء الأحزاب وشخصيات سياسية معروفة، وجرى تقديمهم جميعاً إلى المحاكم العرفية العسكرية، حيث حكم على أثنين منهم بالإعدام، وعلى 958 منهم بالسجن لمدد مختلفة، وعلى 582 آخرين بالغرامة، وعلى 294 بالكفالة، وتم الإفراج عن 1161 فرداً .
وبعد أن تم للحكومة إخماد الوثبة المجيدة بالحديد والنار، ومصادرة الحريات العامة وإغلاق الأحزاب والصحف، والزج بمئات الوطنيين في السجون، لجأت إلى بعض الإجراءات لتخفيف الغضب الشعبي العارم، وامتصاصه، فأصدرت عدة مراسيم تتعلق بخفض الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة والمصدرة [المرسوم رقم 1] وإلغاء رسم الاستهلاك وضريبة الأرض عن المخضرات والأثمار الطرية [المرسوم رقم 2 ] ومرسوم تخفيض ضريبة الأملاك [المرسوم رقم 5 ] وغيرها من المراسيم الأخرى، لكن المرسوم الأهم كان [مرسوم رقم 6] الخاص بتعديل قانون الانتخاب وجعله على مرحلة واحدة، أي مباشراً بعد ان كان على مرحلتين.
لكن تلك المراسيم، باستثناء المرسوم رقم 6، لم تكن إلا إجراءات تخديرية لم تستطع حل المشاكل المعيشية التي يعاني منها الشعب، وحتى مرسوم تعديل قانون الانتخاب فلم يكن سوى حبراً على ورق، ذلك أن التدخلات التي جرت أثناء الانتخابات التي جرت في 17 كانون الثاني 1953 كانت أكثر من مثيلاتها السابقة، حيث فاز فيها بالتزكية 76 نائباً من مجموع 135 نائباً، وقد وصل الأمر بجميل المدفعي، الذي تولى رئاسة الوزارة فيما بعد، أن صرح في 17 شباط وهو في قمة السلطة قائلاً:
{أنا اعتقد أن بعض الانتخابات غير المباشرة كانت قد جرت احسن من الانتخابات المباشرة الحالية}.
وأكد أحد وزراء نوري السعيد المزمنين السيد [عبد المهدي] أن الانتخابات لم تجرِ على الطريقة الصالحة، فقد جرى تهديد المرشحين غير المرغوب بهم بوجوب الانسحاب من الترشيح، وإلا ستجبرهم عصابات السلطة إذا ما أصروا على خوض الانتخابات، وقد جرى استدعاء متصرفي الألوية [المحافظين] وتم إبلاغهم بقوائم مرشحي البلاط وأمروا بالعمل على إنجاحها.
كما أكد صالح جبر ومحمد مهدي كبه وقوع التدخلات الحكومية في الانتخابات، وأعلن حزب الاستقلال اللحاق بالحزب الوطني الديمقراطي، والانسحاب من الانتخابات.
لم تثنِ إجراءات حكومة نور الدين محمود أبناء الشعب عن سعيهم للخلاص من الزمرة الحاكمة، وإنقاذ البلاد من الهيمنة الإمبريالية، وبدأت بذور الثورة تنمو في أحشاء المجتمع العراقي من جديد، لإسقاط ذلك النظام الذي كان هو والشعب على طرفي نقيض، مما جعل أي أمل في إصلاح الأوضاع السياسية في البلاد أمرٌ مستحيل، وأيقن الشعب وقواه الوطنية، والضباط الوطنيون في الجيش أن الطريق لإصلاح الأوضاع لا يمكن إلا بقلب النظام القائم، وإنهاء سلطة تلك الزمرة التي باعت نفسها ووطنها للإمبرياليين.
أما حكومة نور الدين محمود فقد أنجزت المهمة التي كلفها بها الوصي عبد الإله في قمع الوثبة الشعبية العارمة، ولم يبقَ أي مبرر لاستمرارها، وعليه تقدم نور الدين محمود باستقالة حكومته إلى الوصي في 23 كانون الثاني 1953، وتم الإعلان عن قبول الاستقالة في 29 منه، وكلف الوصي السيد جميل المدفعي بتأليف الوزارة الجديدة للمرة السادسة في 29 كانون الثاني 1953، وجاءت الوزارة على الشكل التالي :
1 ـ جميل المدفعي ـ رئيساً للوزراء.
2 ـ علي جودت الايوبي ـ نائباً للرئيس.
3 ـ نوري السعيد ـ وزيراً للدفاع.
4 ـ توفيق السويدي ـ وزيراً للخارجية.
5 ـ أحمد مختار بابان ـ وزيراً للعدلية.
6ـ علي ممتاز الدفتري ـ وزيراً للمالية.
7 ـ ماجد مصطفى ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
8 ـ ضياء جعفر ـ وزيراً للاقتصاد.
9 ـ حسام الدين جمعة ـ وزيراً للداخلية.
10 ـ عبد الرحمن جودة ـ وزيراً للزراعة.
11 ـ خليل كنه ـ وزيراً للمعارف.
12 ـ محمد حسن سلمان ـ وزيراً للصحة.
13ـ عبد الوهاب مرجان ـ وزيراً للأشغال والمواصلات.
ومن الملاحظ في التشكيلة الوزارية هذه أنها جاءت تضم أكبر تجمع لأقطاب السلطة الحاكمة منذ تأسيس الدولة العراقية، وجاءت معبئة كل قواها لإعادة البلاد إلى مرحلة ما قبل وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948، وكان لهؤلاء الساسة المخضرمين دور غير مشرف في تاريخ العراق السياسي، وكانوا منفذين لسياسة المحتلين البريطانيين، وعاملين بأمرهم.
لقد وقف عدد من النواب الوطنيين في البرلمان يهاجمون الحكومة الجديدة، ويفضحون رجالها، فقد قال نائب البصرة [عبد الرزاق الحمود] مخاطبا المجلس والحكومة قائلاً:
{ يتبادر لذهن قارئ يتلو قائمة هذه الوزارة أن العناصر المحافظة قد حشدت قواها، ونظمت صفوفها لتدعيم مركزها، والرجوع إلى عهد ما قبل الوثبة الوطنية عام 1948، وإذا استعرض أي عراقي هذه الأسماء يجد بعض هؤلاء هم الذين كتبوا بيمينهم تاريخ العراق السياسي الحديث أو معظمه على أقل تقدير، وهذا التاريخ فيه صفحات غير مشرفة، بل صفحات قاتمة فيها أمور تثير الأسى، وتحز في النفوس ….إن على الحكومة أن لا تفكر هذه الأيام في إرضاء المجلس، وهي مستطيعة حتماً، ولكني أتساءل إن كان بإمكانها إرضاء رجل الشارع ؟ لأنه إذا انفجر الشارع مرة أخرى فإنه سيكون كالبركان، يعصف بالجميع}.
أما الشيخ [محمد رضا الشبيبي] الذي شارك في العديد من الوزارات السابقة فقد قال:
{ إن البلاد مغلوب على أمرها، وإن الأجنبي الغاشم يتدخل في شؤونها، وإنه يلتزم فريقاً معيناً من الناس ويفرضهم فرضاً على البلاد، ويناهض كل فئة واعية لها آراؤها المحترمة، وتفكيرها السياسي الناضج منذ زمان طويل الى هذا اليوم. لقد انشطرت البلاد مع بالغ الأسف بسبب هذه السياسة، تجاهلنا جيل واعٍ حديث، تفكيره وآراؤه ومناهجه تختلف كل الاختلاف عن تفكيرنا نحن أبناء الجيل القديم الذين اشغلنا المناصب مراراً كثيرة، والذين أبينا أن نفسح المجال في أغلب الأحيان لغيرنا، أو أن نعد أناساً لإشغال هذه المناصب فيما إذا أنتهي أمرنا}.
لقد بقيت البلاد تحكم حكماً عرفياً، وبقت الصحف والأحزاب السياسية ملغاة، والبؤس والفقر يفتك بملايين المواطنين، وكان كل ما تفكر به الوزارة هو تثبيت ذلك لنظام الذي أسسه الإمبرياليون البريطانيون، وتنفيذ كل ما يؤمرون به من قبل السفارة البريطانية في بغداد، والتي كانت تتدخل بكل صغيرة وكبيرة. فلا يمكن أن تُشكل وزارة دون إرادتها ومباركتها.
لقد استمرت الأحكام العرفية طوال عهد هذه الوزارة والوزارة التي أعقبتها، وكانت برئاسة المدفعي نفسه، واستمر تعطيل الصحف، ولم يُسمح للأحزاب بممارسة نشاطها، رغم المذكرات التي رفعها كل من السادة[كامل الجادرجي] رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، و[محمد مهدي كبه] رئيس حزب الاستقلال إلى رئيس الوزراء، وطالباه فيها إنهاء الأوضاع الشاذة في البلاد، وإلغاء الأحكام العرفية، وعودة الصحافة الوطنية للصدور، واستعادة الأحزاب الوطنية لنشاطها السياسي.
فقد بعث السيد محمد مهدي كبه بمذكرته الأولى في 31 كانون الثاني 1953، وبعث السيد كامل الجادرجي بمذكرته الأولى في 1 شباط 1953، ولما كان رد رئيس الوزراء غير مقنع، وكان مقتضباً، وحاول التهرب من الإجابة الصريحة، رافضاً إعطاء موعد محدد لإلغاء الأحكام العرفية، وعودة النشاط السياسي للأحزاب، وعودة الصحف الملغاة، فقد رد الزعيمان كبه، والجادرجي على رئيس الوزراء بمذكرتين جديدتين في 14 شباط 1953، اتهماه بالمراوغة وتجاهل المطالب التي قدماها له، والمعبرة عن تطلعات الشعب. لكن الحكومة كانت في وادٍ والشعب وقواه السياسية الوطنية في وادٍ آخر، مما دفع بالصراع بين الطرفين إلى التصاعد من جديد.
لقد تجلى ذلك الصراع في الإضراب الذي حدث في دار المعلمين الابتدائية، على أثر فصل أحد طلابها في آذار 1953، واعتصام الطلاب في بناية الدار، ومسارعة طلاب كليتي الطب والصيدلة إلى إعلان الإضراب عن الدراسة دعماً لموقف طلاب دار المعلمين الابتدائية، كما تقدموا بمطالب سياسية تدعو إلى إلغاء الأحكام العرفية، وإشاعة الديمقراطية في البلاد.
وهكذا بدأت نذر الانفجار تتولد من جديد بسبب إصرار النظام القائم على السير في نفس الطريق الذي اختاره لهم أسيادهم الإمبرياليون، غير مبالين بمصالح الشعب وحقوقه المسلوبة، ودون الاتعاظ بالأحداث الماضية.