أسئلة تحتاج إلى أجوبة
وجه الصديق الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح أسئلة عن العوامل التي قادت الزميل نبيل تومي إلى الاستقالة من العمل في تنسيقية التيار الديمقراطي في السويد ومن العمل السياسي. وفي هذه الحلقة أواصل الإجابة عن السؤالين الأخيرين لاستكمال رؤيتي الشخصية بشأن الموضوع: هل هو الشعور بالإحباط واشاعة ثقافة التيئيس من كتاب تقدميين ومن واقع حال العراق الان.. هو الذي اوصل الصديق نبيل لهذا القرار.. قد يكون العد التنازلي للقوى الماركسية والتقدمية والمدنية في العراق؟ هل هو ضعف.. تقصير.. فشل.. نواب هذه القوى في البرلمان؟
كان العراق ولا يزال وسيبقى يتأثر بالأحداث الجارية في العالم ومنطقة الشرق الأوسط، كما يؤثر، بسبب موقعه الاستراتيجي وما يملك من ثروة نفطية في الأحداث الجارية في منطقة الشرق الأوسط على نحو خاص. فلو تابعنا وقائع العقود الأربعة الأخيرة التي حصلت على الصعد الدولية والعربية والمحلية مثلاً لوجدنا مصداقية لهذه العلاقة الجدلية بين أحدث العالم والمنطقة والعراق. وبما أن السؤال يدور حول القوى الماركسية وعموم اليسار والقوى الديمقراطية سأحاول التركيز عليها. فخلال العقود الأربعة المنصرمة تعرضت القوى الديمقراطية، وفي مقدمتها قوى اليسار في العالم إلى هزات زلزالية عنيفة ، كما تلقت ضربات شديدة وأصيبت بخسائر كبيرة. وقوى اليسار العراقية هي الأخرى كان لها نصيب كبير جداً من كل ذلك، إذ إنها تعرضت لكل ذلك، إضافة إلى الأحداث المحلية والعربية والشرق أوسطية، والتي أوجزها مجتمعة بالنقاط التالية:
على الصعيد العالمي:
1) انهيار المنظومة الاشتراكية، التي كانت تعتبر بالنسبة لقوى اليسار قدوة في النضال من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسلام، فقد أصاب جميع هذه القوى خيبة أمل شديدة ما تزال بعض أثارها مستمرة حتى الآن. ولم يتبين لجماهير واسعة، لاسيما قوى اليسار، في جميع أنحاء العالم، وفي الدول النامية خاصة، بأن هذه النظم كانت في العقود الستالينية وما بعدها قد أساءت للماركسية كثيراً بروسنتها وتصديرها للعالم كرؤية ماركسية عالمية والتي أخذت بها غالبية الأحزاب الشيوعية والعمالية. ولهذا كانت هناك خيبة أمل بالماركسية وسميت بأزمة الماركسية، في حين لم تكن الأزمة مرتبطة بالمنهج او الفكر الماركسي او النظرية الماركسية، كما أرى، بل بالتطبيقات المخلة والخاطئة والبعيدة عن التحليل العلمي الماركسي والرؤية الواعية للأحداث في دول المنظومة الاشتراكية.
2) التحول الكبير في نهج وسياسات النظام الرأسمالي العالمي متمثلاً بدوله الرأسمالية المتقدمة، صوب اللبرالية الجديدة منذ ثمانينات القرن الماضي ولاسيما فترة ريغن-تاتشر، التي تميزت بممارسة سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية يمينية ويمينية متطرفة تجلت في سياسات المقاطعات الاقتصادية والحروب الاستباقية ودعم النظم الرجعية واليمينية في العالم. ومن يتابع مسيرة السياسة الدولية والإقليمية والكثير من سياسات الدول القومية (المحلية)، سيجد انتعاشاً ملموساً بل، وأحياناً كبيراً جداً، للسياسات اليمينية واليمينية المتطرفة، بما فيها الدينية والطائفية والشوفينية والعداء للأجانب بدعم مباشر من الدول الرأسمالية المتقدمة. وفيها تبرز الضغوط الشديدة والمتنوعة من أجهزة الدولة السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية ضد قوى اليسار عموماً والماركسية على نحو خاص على صعيد الكثير من الدول في العالم. وهي سياسة ما تزال مستمرة يؤكدها الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب
3) الدعم غير المحدود من جانب الدول الرأسمالية المتقدمة، لاسيما الولايات المتحدة، وبالتعاون مع المملكة السعودية ودول الخليج وباكستان، من خلال السياسات والأجهزة المخابراتية وأجهزة الدعاية وصرف الأموال وتوفير السلاح، لقوى الإسلام السياسي المتطرفة، لاسيما ذات الذهنية الوهابية المتطرفة والتكفيرية ابتداءً من الحرب في أفغانستان ضد الحكومة الأفغانية وضد الوجود السوفييتي العسكري في أفغانستان، والتي لا تزال مستمرة بصيغ وأدوات وأساليب متنوعة.
على صعيد الشرق الأوسط:
أدت تلك العوامل الدولية إلى عواقب سلبية عديدة منها: تكريس الوجود الرجعي للنظم السياسية رغم انتفاضات بعض شعوب الدول العربية (الربيع العربي)، توجيه ضربات قاسية للقوى الديمقراطية واليسارية فيها، وقوع حروب طويلة ومريرة بالمنطقة، ابتداء من الحرب العراقية الإيرانية، وبعضها لا زال مستمراً، تصاعد المد الديني والطائفي الرجعي في دول عديدة تهدد بمخاطر حروب إقليمية مدمرة، تفاقم البؤس والفاقة والفساد في عموم دول المنطقة، وتفاقم السياسة اليمينة المتطرفة لحكومة نتنياهو في إسرائيل، سواء على الصعيد الداخلي أم إزاء سياسة احتلال الضفة الغربية وضد عموم الشعب الفلسطيني. كما يلاحظ حصول تدخلات فظة من جانب دول المنطقة بشؤون بعضها الآخر، كما في حالة إيران والسعودية وتركيا وبعض دول الخليج، والتي تجد التأييد والدعم المتنوع من الدول الكبرى. إن منطقة الشرق الأوسط مهددة اليوم بمخاطر حرب شاملة تكمن وراءها مصالح استعمارية أساساً ورغبات جامحة في الهيمنة الدينية والطائفية والروح الشوفينية، سواء أكان من إيران أم تركيا أم السعودية أم الولايات المتحدة أم إسرائيل التي نجد أصابعهم ممتدة في كل تلك الصراعات الدموية.
على صعيد العراق: يمكن تسجيل النقاط التالية:
1) تفاقم الاستبداد والقسوة في ظل حكم البعث بأساليبه الفاشية والدموية في التعامل مع القوى السياسية المعارضة وعموم المجتمع ونشوء دكتاتورية ذات نهج شمولي، شوفيني توسعي وعدواني صوب الداخل والخارج.
2) استخدام سياسات شوفينية وعنصرية مقيتة وحروب داخلية ضد الكرد والكرد الفيلية وعرب الجنوب (الشيعة)، وحروب خارجية عدوانية توسعية ابتداء من عام 1980 ضد إيران والكويت وحربين ضد العراق في العام 1991 و2003.
3) تعرض المجتمع بسبب سياسات النظام وإصراره على احتلال الكويت إلى فرض حصار اقتصادي دولي ظالم وتجويع لا مثيل له للشعب العراقي طوال 13 عاماً.
4) مارست الدكتاتورية البعثية المجرمة سياسات التصفية الفكرية والسياسية والجسدية ضد قوى المعارضة العراقية، وتلقى الحزب الشيوعي العراقي أبشع أنواع السياسات الهمجية من نظام البعث واختفى اسم الحزب في الثمانينيات من الحياة السياسية الداخلية في العراق تقريباً، ما عدا المناطق الجبلية والريف في إقليم كردستان العراق.
5) إسقاط الدكتاتورية عبر الحرب الخارجية وتسليم السلطة عن سابق تصميم وإصرار إلى القوى الشيعية الطائفية التي تبذل أقصى الجهود لفرض دولة دينية طائفية شيعية في البلاد خاضعة وتابعة لإيران عملياً و”متحالفة” مع الولايات المتحدة!
6) على امتداد تلك الفترة تراجع الوعي السياسي والاجتماعي لدي الغالبية العظمى من السكان ولعبت القوى والأحزاب والمرجعيات والمؤسسات الدينية الشيعية والسنية دورها في تعميق التخلف الفكري والغور في الغيبيات والخرافات والبدع التي حولت الكثير من البشر إلى ركام من رماد! وتزييف الوعي الفردي والجمعي، وتفاقم الأمية بين الناس والفقر والحرمان والبطالة.
7) عمل النظام الدكتاتوري البعثي على تغييب كامل لاسم الحزب الشيوعي من الساحة السياسية الداخلية، بعد اعتقال عشرات الآلاف من الشيوعيين والديمقراطيين وأصدقاء الحزب بين 1977/1978-1980/1981 وسجن الكثيرين منهم سنوات طويلة أو تغييب مناضلين شجعان تماماً، كما في حالات د. صفاء الحافظ ود. صباح الدرة وعائدة ياسين، وقتل جمهرة من خيرة الشيوعيين والديمقراطيين ومؤيدي الحزب، مع وجود فعلي للحزب في جبال وريف كردستان، وشيوعيين متفرقين في مختلف المدن العراقية بصلات خيطية.
8) ويمارس الحكم الطائفي الفاسد وغالبية الأحزاب الإسلامية السياسية سياسات مناهضة للشيوعية والقوى الديمقراطية، كما تبث إشاعات ودعايات مناهضة للقوى الديمقراطية، لاسيما اليسارية منها. ويتعرض الكثير من الشيوعيين والديمقراطيين إلى عنت الأجهزة الأمنية والمليشيات الطائفية وقتل العديد من خيرة المناضلين الشجعان.
9) تستخدم القوى والأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة سلطات الدولة الثلاث لصالح تكريس وجودها أولاً، ومواصلة نهبها لثروات البلاد ثانياً، واستمرار تزييف الوعي الفردي والجمعي، لاسيما الشيعي، بالخرافات والبدع والبكاء والعويل واللطم على شهداء الطف، واعتبار معركة أتباع الحسين ضد أتباع يزيد، أي شيعة العراق ضد سنة العراق، ما تزال مستمرة (اقرأ الطائفي بامتياز رئيس وزراء العراق الأسبق) ثالثاً، والسقوط المستمر في أحضان إيران رابعاً. ولهذه الحالة عواقب سيئة على الشعب والقوى الديمقراطية.
إن هذه الأجواء كلها تسهم في إضعاف القدرة في الوصول إلى الجماهير الكادحة التي هيمن الدين والنهج الطائفي المقيت على أذهان الغالبية العظمى (سنة وشيعة)، مما خلق مصاعب جمة لممارسة عملية التنوير الضرورية في الأوساط الشعبية. ولا شك في أن نوعية الخطاب السياسي وضعف التعاون والتضامن والوحدة الضرورية بين قوى اليسار وعموم القوى الديمقراطية تجعل من غير السهل إقناع المجتمع بقدرات هذه القوى على تقديم العون الضروري للمجتمع والمشاركة الفاعلة والمؤثرة في تغيير النظام السياسي القائم.
” من أجل تجاوز عثرتكَ، عليك أولاً أنْ تعترف بأنك سقطتَ، كي تنهض وتواصل المسير!” كما يقال.
نعم، يمكن تلمُّس مظاهر من الإحباط لدى أوساطٍ وفئات مختلفة من المجتمع، مما يستلزم مصارحة الناس والكف عن
إشاعة الأوهام بإمكانية الإصلاح والتغيير ضمن الظروف والتوازنات المحلية والإقليمية. وأن عملية الإصلاح والتغيير تستلزم تعبئة كل القوى الخيرة في المجتمع، منظمات وأحزاب وأفراد ومنظمات مجتمع مدني، حول برنامج واضح، و”فك الارتباط” مع أطراف الفساد ومن لا مرجعية وطنية لديه، بل مرتبط بمرجعيات خارجية … كي لا نتحول إلى “شهود زور”!!
إن وجود رفيقين شيوعيين وبعض المدنيين الديمقراطيين في مجلس النواب العراقي الطائفي والفاسد في أغلبيته ومن قمة رأسه إلى أخمص قدميه لا يستطيعون تغيير واقع الحال، ولكنهم يبذلون جهوداً خيرة على هذا السبيل. إلا إن المشكلة لا تكمن في ضعف قوانا الديمقراطية كل على انفراد فحسب، بل بالأساس في فرقتنا وعجزنا عن إيجاد إطار مناسب لعملنا المشترك. وحين امتلكنا بعد عملية عسيرة مثل هذا الإطار اطحنا به بين ليلة وضحاها! نحن، أقصد القوى الديمقراطية العراقية، في محنة من أمرنا، فبعضنا يعتبر هذا النظام نظامه (اقرأ مقال لأحد قادة الحزب الشيوعي العراقي) في حين أنه نظام سياسي طائفي فاسد ورجعي وتابع، في حين تشن جماهير ديمقراطية واسعة النضال لتغيير هذا النظام سلمياً وديمقراطياً وتسعى لتغيير موازين القوى.
رغم قناعتي بوجود صراعات بين قوى الإسلام السياسي تدور حول المواقع الأول في السلطة، وحول المال والنفود الاجتماعي، إلَّا إنها تتوحد حين تواجه خصومها، لاسيما القوى الماركسية واليسارية عموماً. من هنا لا يمكن بأي حال نفي وجود توزيع أدوار وأعمال فيما بين قوى الإسلام السياسي أولاً، ومع المرجعيات والمؤسسات الدينية والشيعية والسنية ثانياً وفيما بين المرجعيات والمؤسسات الدينية ثالثاً، بما في ذلك مهمة اضعاف القوى الديمقراطية العراقية وتفتيتها ونسف أي تعاون وتنسيق ووحدة عمل فيما بينها، وبضمنها قوى اليسار، ومنها الحزب الشيوعي طبعاً.
ولا بد لي من الإشارة أيضاً إلى أن ظاهرة ضعف القوى اليسارية هي الآن عالمية، كما هو حال ظاهرة صعود القوى اليمينية عالمياً. ولكن هذه الحالة غير ثابتة ومتحركة، ويمكن القول بأن هناك مؤشرات جدية تشير إلى احتمال حصول تغير فعلي في الوجهة العامة، بما في ذلك الأزمة التي ستواجه الاقتصادات الأوروبية والولايات المتحدة في الفترة القادمة، رغم شعور ترامب بحصوله على مكاسب في التشغيل، إلا إنها مؤقتة وعوامل الأزمة فاعلة في العمق وسرعان ما تصل إلى سطح الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وسوف لن يكون العراق بمعزل عن كل ذلك، لاسيما تفاقم الأوضاع الراهنة في الشرق الأوسط ذات السخونة الشديدة، وكأن المنطقة تجلس على مرجل شغَّال.
إن عودة الحزب الشيوعي إلى حاضنته الأساسية، القوى الديمقراطية والتقدمية، والتحرك الكثيف والدؤوب بين أوساط الشعب الكادح من عمال وفلاحين وكسبة وحرفيين وطلبة ومثقفين ونساء، إضافة إلى تنشيط البرجوازية المتوسطة، ستلعب دوراً مهماً في إيجاد الأجواء الأكثر ملائمة لتوفير مستلزمات تغيير موازنين القوى على المدى المتوسط والطويل.
ويمكن تلخيص الإجابة عن أسئلة الزميل الدكتور قاسم بما يلي:
- يعاني الكثير من المناضلين الديمقراطيين والمستقلين من تعب السياسة وعدم الرغبة في حضور الندوات والاجتماعات، بسبب بعض الخيبات القاسية التي مرّوا به أو تعرضوا لها. ويجري التعبير عنها بصيغ شتى.
- والخيبة الأكبر فيما حصل بعد إسقاط الدكتاتورية بقيام نظام سياسي طائفي فاسد حتى النخاع سُلطَ على الشعب من قبل قوى الاحتلال الأمريكي بمساومة قذرة مع المستعمر الإيراني الجديد.
- خيبة أمل لما حصل في الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية والوضع العام على الصعيد العالمي، والادعاء بأن سبب الانهيار هو المؤامرة الخارجية وليس الخراب الداخلي.
- خيبة جمهرة واسعة من المستقلين الديمقراطيين من فشل القوى الديمقراطية، بما فيها القوى والأحزاب اليسارية، في تشكيل تحالف وطني ديمقراطي واسع وقادر على المشاركة الفعلية والتأثير النسبي في أحداث العراق.
ولكن هناك ما يزال أمل في تغيير العمل والمزاج السياسي فيما يلاحظ من حراك نقابي وشعبي متطور في بغداد والمحافظات يطالب بأهداف مهنية مقرونة بأهداف وطنية وديمقراطية عامة، منها مثلاً: ربط البطالة وغياب التنمية بالفساد السائد والحكام الفاسدين، والفقر بنهب خيرات البلاد من قبل الحكام أعضاء قيادات الأحزاب الإسلامية الحاكمة، والجهل وتزييف الإرادة والوعي بدور الأحزاب الإسلامية السياسية والمرجعيات الدينية الشيعية والمؤسسات الدينية السنية.. إلخ.