بعد مرور سنة عليها، لم تنجح حكومة عادل عبد المهدي في العراق في مهمتها، ولا البرلمان نجح في ولادة معارضة سياسية حقيقية، ولا النظام السياسي برمته نجح في معالجة نفسه وإصلاح ما يعتوره من الخلل، ولا الشعب العراقي نجح في فرض إرادته في التغيير. وها قد مضت سنة أخرى من عمر النظام الحاكم، والعراق يتأخر أكثر فأكثر، إذ كان مؤملا أن يطبّق عبد المهدي برنامجه الذي وعد الناس به، ولكنه فشل في أداء مهمّته، إما لتقصير منه، إذ لم يقو على تحمّل المسؤولية أسوةً بمن سبقه، أو أنه ضعيف الإرادة والموقف إزاء حيتان وتماسيح لم يستطع ولن يستطيع السيطرة عليهم، أو أنه ضالع في مخطّط إقليمي لا فرار منه لتأدية واجبه على أحسن ما يكون، بعيداً عن مصالح العراق الوطنية.
العقم : الاسس الخاطئة لولادة معارضة حقيقية
مرت 17 سنة على سقوط النظام السابق. ومع مرور التجارب الصعبة في ظل الاحتلال، وانطلاق دستور كسيح دائم للبلاد، ومن ثم تشكيل حكوماتٍ عراقيةٍ هزيلة، ولكن لم تنبثق حتى اليوم أيّة معارضة سياسية حقيقية في داخل النظام الحاكم، علماً أنه يتشدّق دوماً بالديمقراطية والبرلمانية والشفافية. وباستثناء المعارضة الحقيقية للنظام السياسي برمته من خارجه، فإن المعارضة الحقيقية غائبة تماماً عن الميدان، والنظام لا يتقبّل أي معارضة، لا سرّية ولا علنية، لا بتظاهرات، ولا بصحف معارضة، ولا برأي عام مخالف، فثمّة مقدّسات وخطوط حمراء لا يمكن الاقتراب منها، وهي حارقة ومدّمرة في حالة تخطيها أو تجاوزها.
ناسٌ كثيرون لا يدركون معنى المعارضة. إنها ببساطة شيء يتعارض مع شيء، أو شخص يختلف مع شخص آخر، أو حزب مع آخر، كما وردَ في القاموس السياسي. وقد اختزلت عند بعضهم باختلاف رأي عن أي رأي سياسي سائد، أو متغير. وفي هذا التوصيف سذاجة، ولكن ربما تغيرت مفاهيم “المعارضة” اليوم في كلّ الأنظمة السياسية، وهناك تجارب لا تحصى، يتصف بعضها بسمات وركائز محددة، منها ما يختص كلّ بلد بأساليب المعارضة فيه، ففي البلدان الديمقراطية المستقرّة، والعريقة بتجاربها البرلمانية، يمكن التحقق من المعارضات الحقيقية فيها. وفي بلدان تتحكّم فيها عقائد وأيديولوجيات متنافرة، من الصعب وجود معارضة سلميّة فيها، إذ تجنح إلى معارضة الأنظمة برمتها. وقد تقود إلى حمل السلاح وسلاسل من التمرّدات! وعليه، فالمعارضة البرلمانية هي من أشكال المعارضة السياسية لحكومة أو إدارة معينة، بدلا من الدولة، سيما في النظام البرلماني القائم لدى أمم متعدّدة. وعادة ما ينتقل لقب “المعارضة الرسمية” إلى أكبر الأحزاب التي تجلس في المعارضة، مع إعطاء زعيمها لقب “زعيم المعارضة”. بمعنى أنه المنافس الأول ومن معه لمن بيده مقاليد الأمور.
خواء الاحزاب السياسية
لا وجود لهذا النوع من المعارضة في تجربة العراق الحالية، إذ كان من الصواب أن يترّسخ العمل السياسي من خلال الانجذاب إلى حزبين رئيسيين، مع تجمّعات حزبية أخرى، تشبع طموحات الناس، كما لم تذهب أدوار الحكومة والمعارضة إلى مجموعتين رئيسيتين بشكل تسلسلي بالتناوب، كون التجربة العراقية لقيطة، ولدت على أيدي المحتل. ولا شرعية لها، فهي بلا معارضة برلمانية فيها. وكان متوقّعاً أن يكون نظام التمثيل في العراق أكثر تناسبيًا، ما سيزيد من احتمال ظهور أحزاب سياسيّة متعدّدة ومدنية وجديدة، بدل الأحزاب الطائفية التي سيطرت على الحكم بمشيئة أميركية وإيرانية، ومنعت من ولادة وتبلور مناخ سياسي وديمقراطي حقيقي، لا يمتّ بصلة إلى أحزاب دينية وطائفية، كي تتعزّز فرص تشكيل معارضة متعدّدة في البرلمان. وهذا لم يحصل إطلاقا على مدى 15 سنة من الحكم المحاصصاتي، وإذا برز اليوم من يقول إنه في طريقهِ إلى تشكيل كتلة موّحدة تعارض حكومة اليوم، فهذا هراء، لأنّ المعارضة الحقيقية لها برامجها وأساليبها المخالفة مع احترامها قواعد اللعب، وهذا ما لم يتوفّر حتى اليوم لدى أيّ فصيل أو كتلة أو حزب.
وللعلم، تقلل بعض الديمقراطيات جيّدة التنظيم، والتي يسيطر عليها فصيل واحد على المدى الطويل، منجزاتها من معارضتها البرلمانية الرموز، وخصوصاً إن كانت المنجزات أكبر من حجم التصدّي. وتمثل سنغافورة حالة معارضة ضعيفة عدديًا لقوة ما ينجز على الأرض؛ كما حافظت جنوب أفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري على اختلال طويل الأمد في البرلمان. وفي بعض الحالات، تنشئ المجموعات الحاكمة أحزابا “معارضة” من أجل إحداث انطباع بالحوار الديمقراطي بين الفرقاء. أمّا في العراق، فالحال ينتقل من سيئ إلى أسوأ في بقاء طبقة حاكمة مسيطرة، ولا معارضة حقيقية لها في الداخل، لا برلمانيا ولا في الشارع ولا إعلاميا. ويعدّ هذا أحد أهم عيوب العملية السياسية في العراق، بعدم وجود معارضة حقيقية. بسبب ما يجري من تزوير ومن شراء ذمم وشراء مناصب وعقد صفقات وفقدان إرادة وطنية وفساد مسؤولين كبار وصغار ومهزلة قضاء وتدخل إقليمي سافر وفراغ أمني.
لا معارضة عراقية تعبر عن سخط الجماهير
لا يهم كثيرا أن يصعّد أحدهم انتقاداته للحكومات العراقية بطريقة مباشرة، متناولاً أكثر مجموعة واسعة من القضايا. ولكن يدري الجميع أن ذلك يأتي تعبيراً عن سخط شخصي أو تصادم مصالح، أو ابتلاع حصص، أو عدم إشباع ما يتطلب من محاصصة في المناصب أو مقاسمة في المنافع. وعلى الرغم من مناداة عقلاء عديدين خيّرين بتأسيس معارضة لأنواع السياسات الحكومية، ونقد وفضح مهازل ما يجري، ولكن العرف الذي أباحوه للجميع أن لا يتمّ الالتفات إلى أيّ صوت معارض، وإن من يعارض يتّهم بشتى الاتهامات. وغاية من يعارض تتمثل بـ “إضعاف الحكومة”، ومن يعارض نظام “المحاصصة” مثلاً يوصف بأنه خارق للدستور، من دون أن يدري الجميع أن المحاصصة أصلاً قد وجدت لإرضاء أطياف معيّنة. والحقيقة أن الحكم بأيدي طبقة متحالفة طائفياً، وهذا سرّ فضيحتها.
لا أحد يخشى معارضة ما يخصّ الميزانية الفيدرالية التي وصفت النسخة الأولية منها بأنها “كارثية”، ولا أحد يعارض أداء البرلمان العراقي. وعلى الرغم من أنّ عمله يستند إلى اللجان البرلمانية الهزيلة، وما جرى ويجري حول المبيعات المفتوحة للمناصب الحكومية. وإذا كان تيار الحكمة الذي يقوده عمار الحكيم قد سمّى نفسه (معارضة)، فذلك لا ينفي وجود عناصر من التيار نفسه في الحكومة والبرلمان، فالمعارضة الحقيقية لا تتمّ من خلال تحالف ضدّ تحالف، ولا بانتقادات توّجه شخصياً إلى هذا المسؤول أو ذاك القرار. تتم المعارضة الحقيقية داخل البرلمان من خلال نوّاب أقوياء ومحترمين في نقد السياسات والقرارات والتشريعات لكلّ من الحكومة والبرلمان نفسه، وحتى لرئاسة الجمهورية إذا تعدّت حدودها المرسومة في الدستور… المعارضة الحقيقية لها حقّ المساءلة القانونية عن الخزينة والموارد والإنفاق الحكومي وعن الفساد المستشري في كلّ مؤسسات العراق. للمعارضة الحقيقية، برلمانية أم سياسيّة، الحق ليس فقط في مساءلة وزراء وسفراء ورئيس حكومة، بل من حقّها الاعتراض على سياسات وخطط واستراتيجيات وعقود وصفقات وتدّخلات خارجية، ومن حقها نقد أيّة قوىً تتحكّم في القرار وتشكل دولة عميقة في داخل البلاد.
الحل في انطلاق معارضة ثورية
وعليه، لا يمكن إبقاء الوضع على ما هو عليه، لأنّ ذلك سيحول دون تطوّر ديمقراطية سليمة في العراق. ولا يمكن أن تكون موافقاً ومعارضاً في آن، كأن تُبقى إحدى قدميك في الحكومة والأخرى في المعارضة. وهذا ما استخدمته الكتل السياسّية لتحقيق مآرب أو مكاسب على حساب العملية السياسية الهزيلة، ولا يمكن إبقاء الفوضى في التصريحات، وليس باستطاعتك معرفة ما يجري، ولا يمكن، في ظل وضع مهترئ مثل هذا، أن تمنع وجود معارضة برلمانية. ولا يمكن أن تمنع قيام معارضة سياسية ضدّ النظام القائم، إذ تصبح المعارضة السياسية ضد النظام برمته حقاَ مشروعاً في ظلّ أوضاع داخلية مهترئة. فهل سنشهد انفراجاً اصلاحياً سياسياً ، وهذا صعب جداً في ظل استلاب طبقة فاسدة لنظام الحكم .. اذن ، لم يبق أمام سخط العراقيين الا المعارضة الجماهيرية سواء باسلوب الثورة ام باسلوب القطيعة ..