نحن لا نتحدث فقط عن الخدع التي مررتها الأنظمة العربية الإسلامية والعروبية المتتالية بجعل الغزوات فتوحات، والاحتلال منة وطنية، والتي يغطي عليها بعض الكتاب من الأخوة العرب المنوهين إليهم والمعنيين بالأمر، بل عن محاولات تعتيمهم على جرائم سلطاتهم بعباءة القوانين والدستور، والاستيطان العربي بالبعد الوطني، وبالمقابل إظهار مطالب الكرد لحقوقهم القومية نزعة عنصرية وخروج عن القانون، ومحاولات تصعيدها إلى خانة الإرهاب وخيانة الوطن. أي أننا نطالبهم بقليل من المصداقية، والمساهمة على تعرية الكارثة الثقافية الفكرية الممنهجة السائدة في أوطاننا، ومحاولة وضع حد لها، وإنقاذ ذاتهم قبل الشريحة المغرورة بها من العتمة الثقافية التي رسختها فيهم الأنظمة الشمولية، والاستيقاظ على الحقائق.
فعليهم أن يدركوا أنهم على المنهجية التي يتناولون فيها القضية الكردية، يخلقون عداوة بين الشعبين الكردي والعربي، وأن تبريراتهم لتمدد المكون العربي نحو المناطق الكردية على مدى القرون وتغطيتهم لبرامج التعريب والاستيطان منذ بداية القرن الماضي وحتى اليوم يشهون ثقافة الأمة الإسلامية والعلاقات الإنسانية بين الشعوب، ويبتذلون الوطنية. فالغاية من بناء مستوطنات الغمريين لا يمكن التغطية عليها بالأساليب التي يتبعونها، فكم سيكون منطقيا لو ذكروا على أن السلطات البعثية والأسدية يطبقون التكتيك الذي وضعه محمد طلب هلال ضابط الأمن، المنوه إليه سابقا، المتصاعد إلى مستوى وزير الداخلية والمشهور لديهم كبعثي قيادي، بكراسه الغني عن التعريف وبنودها العنصرية الأكثر من واضحة تجاه الشعب الكردي، المكتوب بتاريخ 12/11/1963م، والذي تم مناقشته في المؤتمر القطري الثالث لحزب البعث عام 1966 م، ولم يوضع كبند مصادق عليه ضمن المؤتمر، وقالوا أن تطبيقه بكل حذافيره، بشكل سري وعلى مدى عقود بعد المؤتمر تحمل أبعاد عنصرية تدمر العلاقات الوطنية بين الشعبين الكوردي والعربي.
ولربما كانوا سيحصلون على تقدير من المجتمع الكوردستاني عامة لو تجرأوا وقالوا إنها كانت دراسة ذات أبعاد عنصرية عروبية، وهم يدركون أن محورها: اعتبار الكورد في المحافظة مهاجرين من تركيا ولا يحملون الروح الوطنية وولائهم لكوردستان، ولذلك يجب القضاء عليهم ديمغرافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وقدم هلال لكل مقترح من هذه المقترحات بنود خاصة بها، ولكن ومن المؤسف وبعكس المطلوب ليس فقط يتعامون عنها الأخوة الكتاب المعنيين، حملة راية الوطنية السورية العربية، بل يبررونها بمفاهيم أكثر من ساذجة.
وعلى خلفية سياسة البعث، ومفاهيم ثلة من المعارضة الفاشلة، تظهر جل كتابات وفيديوهات هؤلاء للتغطية على ما جلبته روادهم من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية من المفاهيم العنصرية إلى المنطقة تحت الشعارات القومية، وطبقوها على الكرد بأساليب تتلاءم والعصر، ولا تتعارض والقوانين الدولية، مثل جريمة المرسوم الجمهوري رقم (49) المذكور سابقاً الصادر على أنه حماية للحدود، حيث كتب فيه العديد من الباحثين الكرد والعرب الوطنيين وبمصداقية، وتحت الحجة المذكورة تم تدمير البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمنطقة بشكل كارثي، وخلق شرخا رهيبا بين المجتمعين الكردي والعربي في المنطقة، ونتج عنه هجرة واسعة للكرد من مناطقهم نحو المدن السورية الكبرى، وعلى أثره تشكلت منهم مخيمات منبوذة من السلطات سادها العوز والفقر، زالت على خلفية الحرب الدائرة في سوريا.
فما يجري وعلى مدى قرن كامل، وأصبحت واضحة لمعظم الباحثين في تاريخ المنطقة، أن السلطات العربية تعيد تجارب بعضها، فخلال المسيرة الزمنية الفارقة بين التمدد أو الاحتلال العربي الأول منذ العصر الأموي، الذي تم فيها تغيير السلطة الإسلامية العربية إلى سلطة عربية بامتياز، مع بدايات تعريب الدواوين والعملة، برأي من الحجاج بن يوسف الثقفي، وفيما بعد فرض اللغة العربية على المجالس والإدارات، على أنها لغة الدين والجنة، اكتملت مسيرة التعريب مع نهاية العصر الأموي، وبدأت مرحلة الاستعراب بين شعوب المنطقة في العصر العباسي الأول.
والجاري في المنطقة الكردية، منذ بداية الثلاثينات وحتى توطين الغمريين في المناطق الكردية، امتداد لمنهج أسلافهم ذاته، حتى ولو اختلفت العصور والطرق. فخلال مسيرة الاستعراب الطويلة، تشربت شريحة واسعة من أبناء سوريا الأصليين؛ أو في المناطق الأخرى التي تم احتلالها من قبل العنصر العربي وبعمق الثقافة العربية الإسلامية المفروضة عليهم، بعدما حصرت مراكز العبادة والتعليم للشعوب المحتلة، فيقول البلاذري، عن معاملة قائد حملة احتلال الجزيرة وشمال كردستان، عياض بن غنم، لمراكز عبادة أهل الرقة والمدن الكردية الأخرى كالرها ونصيبين ورأس العين وغيرها، في كتابه فتوح البلدان الصفحة 147 ” أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم لا تخرب ولا تسكن إذا أعطوا الجزية التي عليهم ولم يحدثوا مغيلة وعلى ألا يحدثوا كنيسة ولا بيعة ولا يظهروا ناقوساً ولا باعوثاً ولا صليباً” وبعد مرور 14 قرنا ونيف ظهر مثيله، فكان المرسوم الجمهوري رقم 49 عام 2008م فسادت المناطق الكردية الخراب والدمار بمثل ما تم حينها.
وبعد القرون العديدة من الاستعراب والتعريب وتخاذل الكنسية في هذا المجال، استغلت الأنظمة العروبية في العقود الماضية بخباثة شرائح واسعة من السريان والأراميين ونسبة غير قليلة من الكرد، ونسبة هائلة من الأمازيغ والقبط وغيرهم من المستعربين المحتلين عربيا إسلاميا، لتغيير وجوه الأوطان، وانتماءاتهم لماهية شعوبهم، وطعنت في الانتماءات القومية، كانت قبلها قد أذابت لغاتهم تحت رحمة لغة القرآن، لغة السلطات الإسلامية العربية، وللأسف ساهمت الكنسية في مصر وبلاد الشام في هذه الجريمة القومية-التاريخية، بتخاذلهما الحفاظ على لغاتهم وخصوصيات قومياتهم، علما أنه تم مثل هذا التعامل مع الفرس والكرد والأفغان وغيرهم ولكنهم لم يخسروا هوياتهم ولا لغاتهم. وغطت الأنظمة العربية تحت هذا التغيير مراحل عديدة من التمدد الديمغرافي العربي نحو جغرافيات الشعوب المذابة أو المستضعفة، ومن ضمنهم جغرافية كردستان وتمازغا، وفرضت عليهم الثقافة العربية أو العربية الإسلامية …
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
15/9/2019م