نقرأ بين الحين والآخر على مواقع التواصل الإجتماعي مقالات عن الديانة الايزيدية ذو مضامين عجيبة غريبة، فبدل أن يضيف الكاتب معلومات ومعارف جديدة للقارئات الكريمات والقراء الكرام، يشوش عليهم أفكارهم ويخلق لديهم وعياً يتصف بالمغالات والتطرف، ويهز من قناعاتهم أزاء الدين كله!!..ليس المهم في وقتنا الحالي أن يثبت كتّابنا عراقة الدين الايزيدي، بل الأهم هو كيف يتمكنوا من خلق وعي بالمحافظة على الانسان الذي هو ركيزة الدين والمجتمع، وكيف بامكانهم حماية ذلك الانسان من الأفكار التكفيرية والإبادة من الطرف المخالف؟!.
من بين إحدى المقالات التي طالعتنا في العشرين من شهر أيلول 2019 كانت عن قصة/اسطورة أطلق عليها كاتبها (ثورة) (مير مح –ماه- سلطان أو أمير الخلود)، وخلطها بـ (البايزوك) وربطها بالنظرية النسبية لألبرت آنشتاين فيما يخص الزمان (البعد الرابع)!!. إن ما ذهب اليه الأخ الكاتب في الربط بين النظرية النسبية وبين قصة/اسطورة (مير مح) بعيد بعد السماء عن الأرض!!…
من الطبيعي أن أقدم شكري للكاتب المحترم؛ أولاً على جرأته لكتابة هكذا موضوع، وثانياً على “استفزازه” لعقلي وتشجيعي على التوقف عند قصة (مير مح) لدى الايزيدية، وسرد (عقدة الموت والخلود) عند بعض الحضارات والأديان من الناحية التاريخية. وأبين من هو (مير مح) وكيف إحتض الأدب الديني الايزيدي الكثير من (أبياته/قصائده الشعرية) باللغة الكردية، وكذلك (بايزوك) التي هي الأخرى دخلية، باعتقادي، على الأدب الديني الايزيدي، سوف أتطرق لذلك في نهاية هذه الدراسة.
أن فكرة الخلود والموت والحياة الأخرى موجودة عند جميع، الشعوب والأديان منذ قديم الزمان وإلى وقتنا الحالي، وكل واحدة منها عبرت عن تلك الفكرة حسب ثقافتها وبيئتها، وأقدم الشواهد تتمثل في الزقورات في وادي الرافدين، والأهرامات في مصر، والمعابد الزرادشتية في بلاد إيران.
جدير بالذكر أنه في كتابي (به رن ز ئه ده بى دينى ئيزديان= صفحات من الأدب الديني الايزيدي، الصادر عن دار سبيريز/دهوك، بطبعتيه الأولى 2004، والثانية 2013) خصصت الفصل الرابع بالكامل إلى (فلسفة الموت والحياة عند الايزيدية/ملحمة و”به يتا” مير محى، الصفحات631-663)، إلاّ أنه في هذه الدراسة السريعة سوف لن أتطرق إلى ما جاء فيه، وإنما أتناول فلسفة/عقدة الموت والخلود عند حضارات وأديان الشرق القديمة تاريخياً وبشئ من التحليل القريب إلى المنطق. وأعتقد جازماً أن جذور عقيدة الخلود لدى جميع الأديان تعود إلى (ملحلمة كلكامش) ، وبها أبدأ جولتي.
البحث عن الخلود/في الملاحم والأساطير وعند الأديان:
أولاً/ ملحمة كلكامش:
حسب رواية المؤرخين تعتبر من أقدم قصة/اسطورة كتبها الانسان على وجه الأرض، وهي أهم وأكمل عمل إبداعي أسطوري شعري، كتبت منذ العهد السومري في المرحلة الواقعة بين (2750 و2350) قبل الميلاد عن الملك كلكامش الذي عاش في مدينة أوروك “الوركاء” في وادي الرافدين. وتسرد الأسطورة حول كلكامش مجموعة من الحكايات الأسطورية والبطولية وأعماله الخارقة وسعيه المستميت إلى معرفة سرّ الحياة الخالدة. كانت والدة كلكامش إلهاً خالداً ووالده بشراً فانياً ولهذا قيل بأن ثلثيه إله والثلث الباقي بشر، وبسبب الجزء الفاني منه يبدأ بإدراك حقيقة أنه لن يكون خالداً. كان كلكامش ملكاً ظالماً فإبتهل سكان أورك للآلهة بأن تجد لهم مخرجاً من ظلمه، فاستجابت الآلهة وقامت إحدى الإلهات واسمها (أرورو) بخلق رجل من الطين إسمه (أنكيدو) يعيش في البرية مع الحيوانات، شخصية نقيضة تماما من شخصية كلكامش. أنكيدو يقرر أن يصارع كلكامش. يتصارع الإثنان بشراسة فهما متقاربان في القوة، ولكن الغلبة في النهاية تكون لكلكامش، حيث يعترف أنكيدو بقوة كلكامش وبعد هذه الحادثة يصبح الإثنان صديقين حميمين. يبدأ كلكامش وأنكيدو رحلتهما نحو غابات أشجار الأرز بعد حصولهما على مباركة (شمش) إله الشمس وإله الحكمة عند البابليين والسومريين. يقوم الصديقان كلكامش وأنكيدو بقطع أشجار الأرز مما يثير غضب (خومبابا) حامي غابات الأرز. ويبدأ الصراع العنيف بين ثلاثتهم والذي ينتصر فيه الصديقان ويقومان بقتل (خومبابا) مما تثير حفيظة آلهة الماء أنليل والتي كانت تركت الغابة في مسؤولية خومبابا. بعد هذه الحادثة يصبح كلكامش مشهورًا مما يجعل الآلهة عشتار تقوم بطلب الزواج منه، لكنه يرفض مما يجعلها تثير سخطها عليه، وتطلب من والدها (آنو) إله السماء أن ينتقم لها، الذي يقوم بإرسال (ثور مقدس) لقتل كلكامش، إلا أن أنكيدو يستطيع الإمساك بقرني الثور ويقوم كلكامش بقتله، وتصبح هذه الحادثة هي حديث ومثار غضب الآلهة وذلك لقتل كلكامش لهذا الثور المقدس، ولكنهم لا يستطيعون قتله لان دماء الآلهة تسري في عروقه فيقررون معاقبة وقتل أنكيدو لأنه اشترك في هذه الفعلة، فيصبوه بمرض قاتل يموت على أثره أنكيدو.
يحزن كلكامش حزنًا عميقًا على وفاة صديقه أنكيدو، ويرفض دفنه إلاّ بعدما تبدأ جثته في التحلل فيقوم بدفنه، وينطلق شاردًا في البرية باحثًا عن الخلود بعد أن يدرك حقيقة الموت. يبدأ كلكامش بالبحث عن “أوتنابشتم” لأنه الوحيد الذي يملك هذا السرّ، وفي الطريق يقابل الآلهة (سيدروي) التي تحاول أن تثنيه عن رغبته وتقنعه بأن يعيش الحياة ويترك البحث عن الخلود، إلا أنه يرفض فترسله إلى الطواف “أورشني” والذي سوف يساعده في عبور (بحر الأموات) ليصل إلى الشخص المطلوب. حتى يجد كلكامش “أوتنابشتم” هو وزوجته فيخبرهم عما يبحث عنه، فيسرد “اوتنابشتم” قصة الطوفان العظيم الذي حدث بأمر الآلهة له، وكيف قضى الطوفان على جميع أهلهم ولم ينجى أحد منهم سوى هو وزوجته لذلك قرر الآلهة أن يمنحوهم الخلود. كل ذلك لم يقنع كلكامش ويبقي مصّراً في سعيه نحو الخلود، يخبره “أوتنابشتم” أن عليه أن يظل منتبهًا بدون نوم لمدة 6 أيام و7 ليالي بعدها سوف يصبح خالدًا، وهو ما يفشل كلكامش في القيام به. ويظل يلحّ على “اوتنابشتم” وزوجته في ايجاد طريقة أخرى له لكي يحصل على الخلود. تشعر زوجة أوتنابشتم بالشفقة عليه فتدله على (العشب السحري) الموجود في قاع البحر بامكانه إعادة الشباب اليه. يغوص كلكامش في أعماق البحر ويتمكن من اقتلاع العشب السحري.
بعد أن يحصل كلكامش على العشب السحري يقرر أن يأخذه إلى مدينة اوروك ليجربه هناك على رجل مسن قبل أن يقوم هو بتناوله، لكن في طريق العودة وعندما كان يغتسل في النهر، تأتي إحدى الأفاعي وتسرق العشب وتتناوله، وبهذا يعود كلكامش خالي اليدين ويشاهد السور العظيم الذي بناه هو حول مدينته أوروك، فيفكر أن عملاً ضخماً كهذا السور يعد أفضل طريقة لتخليد اسمه.
سردت اسطورة كلكامش الأولى المكتوبة في تاريخ البشرية بشئ من الإطالة كونها الأساس الفكري والعقائدي لجميع أديان الشرق القديمة في إيجاد (بديل رمزي للخلود) من خلال ربط خلود الروح بمفهوم وجود (الجنّة). البديل الرمزي الثاني لخلود الروح هو (تناسخ الأرواح). علماً أن الأديان طورت وأبدعت في إعمال الخيال وربطت (الجنّة) بالسماء و (الجحيم) بأعماق الأرض، وخلقوا قصص الإسراء والمعراج للأنبياء إلى السماء حيث عرش الخالق.
من الأهمية بمكان أن نشير إلى أن عناصر الخلود في القصص والأساطير المعروفة والمتداولة عند الأديان تختلف أسمائها من شعب إلى آخر، ومن ديانة إلى أخرى، ومن راوي إلى آخر، أبرزها الآتي: ( العشب السحري) كما في اسطورة كلكامش. (التفاح) كما في قصة (مير مح) عند الايزيدية. (القمح أو الحنطة) كما في قصة آدم وحواء في الجنّة. (الماء- ئافا هيوانى) كما في قصة النبي خدر والياس مع اسكندر المقدوني. النقطة الأخرى الجديرة بالملاحظة هي أن البحث عن الخلود في اسطورة (كلكامش) و (مير مح) و (خدر الياس والاسكندر) تجري أحداثها على الأرض، أما عند بعض الأديان مثل الزرادشتية والمسيحية والاسلامية وفي (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري وملحمة (الكوميديا الالهية) للشاعر الايطالي دانتي، تدور أحداث البحث عن الخلود في السماء.
ثانياً/الخلود عند الديانات الفرعونية:
التأكيد على وجود الحياة الأخرى هي من معالم الحضارة المصرية القديمة حيث تتم محاكمة الانسان في العالم الآخر. بطله هو الإله اوزيريس، إله الخصب وفي نفس الوقت هو إله مملكة الممات أعيد للحياة بواسطة زوجته ايزيس.
ثالثاً/ الخلود في الديانة الهندوسية:
تتضمنها كتابهم المقدس (الفيدا) وأهم النصوص فيه هي الاوبانيشاد (800-500 ق.م) التي تشرح عقيدة (الكارما) و (التناسخ)، والوحدة والمساواة بين (اتمان) الذات الفردية (النفس)، وبين (براهما) ماهية العالم وأصل كل الموجودات. وأن الذات (اتمان) يجب أن تمر في (طريق الكارما) التي هي سلسلة من عمليات التناسخ كي ترتقي إلى مرحلة الوعي الكلي للبراهما الذي هو الغاية الأخيرة لكل انسان عن طريق الزهد وزيادة المعرفة (السيطرة على الذات والتركيز) لحين وصولها الى المعرفة الكاملة/الخلود. (يوحنا بيداويد، الخلود في الديانات القديمة والفكر الأغريقي، الحوار المتمدن، العدد 2645 في 13/5/2009).
رابعاً/ الخلود في الديانة البوذية:
المعروفة باسم مؤسسها الفيلسوف غوتاما بوذا (563-480 ق.م)، فرغم عدم وجود مفهوم الحياة الأخرى، وعدم وجود مفهوم الإله العادل الذي يدين الإنسان لاعماله في الآخرة، لكن يوجد مبدأ (النرفانا) الذي هو نهاية مطاف لسلسلة طويلة من عمليات الموت والولادة للإنسان لحين وصوله إلى درجة الكمال وفيها يعي الانسان ذاته لصعوده سلم الرقي عن طريق ممارسة الزهد والتنسك.
خامساً/ الخلود في فكر الإغريق:
وتبدأ بشكل واضح وجلي عند الفيلسوف أفلاطون 428-348 ق.م) في نظريته الشهيرة (المُثل) حول فكرة وجود النفس (الروح) التي هي أبدية والجسد الذي هو زائل. بمعنى هنالك عالمان، عالم المُثل الذي لا يتغير ومستقر أبدي، وعالم الواقع الزائف المتعرض للتغير والزوال. أن الجسد هو من عالم الواقع فهو زائل، وأن الروح هي من عالم المُثل فهي أبدية. لذلك تتصارع الروح في هذا العالم مع الجسد (القبر) كي تتحرر منه وتعود إلى أبديتها. (يوحنا بيداويد، الخلود في الديانات القديمة والفكر الأغريقي، مصدر سابق).
سادساً/ الاسكندر المقدوني (ت 323ق.م) والنبيين خدر والياس:
مضمون الاسطورة هي بالشكل التالي: حينما يصل الشاب اسكندر المقدوني إلى أوج مجده ويصبح امبراطوراً للعالم القديم بعد أن يهزّم الملك الفارسي الأخميني (داريوش) سنة 333 ق.م.، ويدخل مصر من دون قتال سنة 332 ق.م.، وتفتح بابل، التي كانت تحت سيطرة الامبراطروية الأخمينية لمدة قرنين من الزمان، أبوابها لجيش الاسكندر من دون قتال. يبحث عن الخلود فيرسل شخصين (خدر وألياس) حسب القصة المتداولة بين الايزيدية، فيذهب الإثنان آخر نقطة على الأرض الوقت فيه ظلام دائم، أحد الكهنة يدلهما على نبع ماء يسمى (ئافا هيوانى=ماء الهيوان) الذي يشربه يبقى خالداً. يشرب كل من (خدر والياس/ايليا) من ذلك الماء فيصبحان خالدان حسب ميثولوجيا الكثير من شعوب الشرق مثل: الايزيدية، المسيحيين، الشبك، الكاكائية وحتى الاسلام. يجلبان معهما قُرباً من الماء إلى الاسكندر المقدوني الجالس على عرش بابل آنذاك. في طريق عودتهما يصيب الاثنان بالتعب والهلاك، فيجلسان تحت ظل شجرة ليأخذا قسطاً من الراحة، ويعلقان القُربة على غصن الشجرة، فيأتي طير لينقر القُربة ويسكب مائها على جذع الشجرة لتروي منه وتبقى هي الأخرى خالدة ودائمة الاخضرار في جميع فصول السنة، هذه هي شجرة الزيتون حسب الميثولوجيا الايزيدية ، وهي شبه مقدسة وتستخدم زيتها لإشعال قناديل المعابد والمزارات الايزيدية. أما (خدر وألياس) يعودان خال اليدين ويموت الأسكندر المقدوني سنة 323 قبل الميلاد، وترسل جثته، حسب القصة الايزيدية، إلى أمه في مقدونا الأغريقية/يونان الحالية. أما بعض المصادر التاريخية تقوم بأن جثمانه دفن في مصر.
سابعاً / معراج النبي زرادشت (آردا فيراز ناماك):
جاء ذكر قصة معراج النبي زرادشت في كتاب للديانة الزرادشتية بإسم (آردا فيراف) أو (آردا فيراز) معناها رحلة إلى الجنّة والنار Visit to Heaven &Hell)، وهو واحد من بين عشرات الكتب للديانة الزرادشتية إضافة إلى آفيستا المقدس. تقول القصة أن زرادشت صعد إلى السماء وإلتقى بآهورامزدا (الله الديانات الابراهيمية) وشاهد الجنّة والنار(الحجيم) والصراط وغيرها من التفاصيل. بإجراء مقارنة بسيطة بين معراج النبي زرادشت حوالي 700 سنة قبل الميلاد، وإسراء النبي محمد (نهاية القرن السادس الميلادي) نلاحظ التشابه، بل التطابق في الكثير من التفاصيل. حيث يتحدث نص في الجزء السادس من الكتاب عن (مكان يقع بين الجنّة والنار) يكون فيه الانسان الذي تتساوى حسناته مع سيئاته، وهو ما يسمى في الاسلام (الأعراف). يقول زرادشت جئت إلى مام وجدت فيه أرواح العديد من الناس وكلهم على نفس الهيئة، فسألت (سروش) و (آدار) (سروش و آدار ملائكة وكائنات نورانية في الديانة الزرادشتية): من هؤلاء؟ ولماذا هم هنا؟ فقالا لي: هذا المكان يسمى (هامستاجان/أو المكان الوسيط)، وفيه تبقى أرواح الأشخاص الذين تساوت حسناتهم مع سيئاتهم. أما الجزء السابع من الكتاب يتحدث عن (الصراط) وهو الجسر الذي تعبره أرواح جميع الناس بعد الموت. وهنا يتشابه مع فكرة (الصراط المستقيم في الاسلام). وفي الجزء الرابع والعشرين يرى النبي زرادشت إمرأة معلقة في أثدائها وتتعذب في النار!. فسأل الملائكة: من هذه المرأة ، وماذا فعلت لتعذب بهذه الطريقة؟! فأجابت الملائكة: هذه روح المرأة الخاطئة التي تركت زوجها وذهبت إلى رجل آخر ومارست معه الزنا!..إلى غير ذلك من التفاصيل التي تطول ذكرها. إن دل هذا على شئ فإنما تدل أن الأديان تأخذ عقائدها وأفكارها مما سبقتها مع إضافة أفكار وعقائد جديدة من الثقافة والبيئة التي نشأ فيه الدين الجديد. (عن كتاب “فيراز الصالح” يمكن مراجعة الترجمة العربية للدكتور خليل عبدالرحمن.)
وتذكر مصادر أخرى، عندما سيطر اسكندر المقدوني إيران سنة 333 ق.م.، تمر الديانة الزرادشتية بوضع صعب، فيجتمع حينها أعضاء المجمع الكهنوتي الزرادشتي الأعلى لكي يجددوا إيمانهم بديانة الأجداد ويعيدوا بناء وحدة البلد الروحية. يقررون في ذلك الإجتماع إنتخاب كاهناً واحداً من بينهم بحيث يكون الأكثر صدقاً وصلاحاً وأمانةً، ليرسلوه إلى العالم الروحي الأخروي، إلى الآلهة السماوية لأجل التفسيرات الحقيقة لنهج دينهم. يقع الاختيار على كاهن إسمه (فيراز Viraz) الذي يتعرض لاختبار الصدق قبل رحلته الى العالم الآخر، حيث يغرزون الرمح في جسده ثلاث مرات دون أن يصيب بأية أذى، ومن ثم يقوم فيراز بطقوس الطهارة والصلوات المفروضة ويشرب الهاوما، وبعدها يغط في نوم عميق. أثناء النوم تفارق روح فيراز جسده حيث تقوم برحلة في العالم الآخر، فتزور الجنة والجهنم بمرافقة سرواش (ملاك الطاعة) و آدور (إله النار)، وأثناء جولة روح فيراز تقوم اخواته وزوجته وباقي الكهنة بحراسة جسده بالصلوات والرقى المقدسة لطرد الأرواح الشريرة عنه. تعود روحه في اليوم السابع من رحلتها على الأرض، ومن ثم تدخل الجسد، فيستيقظ فيراز من نومه ويحكى في بين الجنة والجحيم. اجتماع جديد للكهنة عمّا رآه في رحلته تلك. وفي القرن التاسع- العاشر الميلادي ألف كتاب عن (فيراز الصالح)، ترجم من البهلوية إلى الروسية آرثور أمبار تسوميان وينقله من الروسية إلى العربية الدكتور خليل عبدالرحمن. يتضمن الكتاب تفاصيل رحلة (آردا فيراز ناماك) إلى السماء وأنتقاله (راجع: آفيستا/الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية، إعداد د. خليل عبدالرحمن، مطبعة دار الحياة-دمشق، الطبعة الأولى 2007، ص948).
ثامناً/ الإسراء والمعراج عند الاسلام:
قصة الإسراء والمعراج عند الاسلام معروفة ، حول كيفية أسراء ومعراج نبي الاسلام إلى السماء وعودته إلى الأرض على حيوان باسم البراق. وهي قصة متداولة أعتقد لا حاجة لنا بها إلى ذكر تفاصيلها. كما أن مفهوم (الجنّة والجحيم) يأخذان حيزاً كبيراً من الفكر والعقيدة الإسلامية، والنقطة الأكثر إثارة هو أن الشخص الذي يدخل الجنّة تنتظره عشرات الحوريات والغلمان وأنهاراً من اللبن والعسل، وما طاب من المؤكولات!!.
تاسعاً/ رسالة الغفران للشاعر والفيلسوف أبو علاء المعري (973-1057م):
عمل أدبي خالد وتعد من أعظم كتب التراث العربي النقدي للشاعر والفيلسوف أبي علاء المعري، وتعتبر أجمل ما كتبه الشاعر وهي عجائبي عبر تسلسل الأحداث التي يراها الشاعر هناك. وهذه الرسالة قسمان، الأول: رسالة الغفران، والثاني: الرد على ابن القارح. وقد قسمت رواية الغفران على ستة فصول: الفصل الأول/في الجنة، الفصل الثاني/موقف الحشر، الفصل الثالث/عودة الى ذكر الجنة، الفصل الرابع/جنّة العفاريت، الفصل الخامس/الجحيم، الفصل السادس/العودة الى الجنة. رسالة الغفران ذات طابع روائي وقد كتبها في الأصل رداً على رسالة ابن القارح وجعل المعري من ابن القارح بطلاً لرحلة خيالية أدبية عجيبة يحاور فيها الأدباء والشعراء واللغويين في العالم الآخر. الغرض الأساسي من رسالة الغفران كما يفهم منه هو: التعبير عن نظرة للدين والأدب والحياة باسلوب أدبي مع التركيز على الجانب العقائدي من خلال ربط الرسالة بالعقيدة التي يؤمن بها أبو العلاء نفسه.
عاشراً/ دانتي اليغيري (1265- 1321م) في ملحمته الشعرية (الكوميديا الإلهية):
ملحمة شعرية للشاعر الإيطالي الكبير دانتي أليغيري (1265-1321م)، وتعتبر ملحمة (الكوميديا الإلهية) التي تتألف من (14233) بيتاً شعرياً، من أبرز الأعمال العظيمة على الإطلاق، ومن الأعمال الأدبية الخالدة تحتوي على نظرة خيالية حول الآخرة بحسب فكرة الديانة المسيحية، وهي إنعكاس لفلسفة القرون الوسطى التي سادت على الكنيسة آنذاك.
تنقسم الكوميديا الإلهية إلى ثلاثة أقسام (الجحيم والمطهر والجنّة)، والأقسام الثلاثة للقصيدة مقسمة إلى أجزاء داخلية. يضم كل من قسمي المطهر والجنّة 33 جزءً، أما قسم الحجيم لوحده 34 جزءً. ويعد قسم الجحيم الأشهر، وهي رحلة خيالية يقوم بها دانتي في الممالك التي يسميها (الجحيم)، والمطهر والجنّة في الآخرة، وتستغرق رحلته إسبوع فقط؛ يومان في الجحيم، وأربعة في المطهر، ويوم في الجنّة. (الكوميديا الإلهية، دانتي أليغيري، ترجمة حسن عثمان، دار المعارف، الطبعة الرابعة لسنة 1955)
حادي عشر/ ملحمة مير مح (1563-1641م):
هل هناك فعلاً شخص بإسم (مير مح- مير محى) بحيث نسب اليه هذه الملحمة؟، أو أن (مير مح) هو إختصار لإسم الشاعر (فقى طيران/ فه قى ته يران) الذي كان إسمه الحقيقي (محمد) والذي غدا اللقب الشعري له. إذا كان هذا هو الرأي الصحيح، حينها نواجه السؤال التالي: كيف وجدت هذه الملحمة وهذه القصة (الاسطورة) مكانتها البارزة بين النصوص الدينية الايزيدية؟!
إذا راجعنا كتب الأدب الكردي وكذلك ديوان (فه قى ته يران) نجد (به يتا دنى) من إحدى قصائدة الشعرية ومنشورة ضمن ديوانه، يقول في البيت (63) الأخير مخاطباً نفسه:
مير محو هه ره فه له ك جو / يا مير مح فات الفلك ومضى
بحيجه تا ده وران كه له ك جو / وهكذا مضت دهوراً عديدة
سال هه زار و جل و يه ك جو /ومضى سنة ألف وأربعمائة وواحد
وه ره زور هاته دياره /ولد في ورزور
بحيجه تا بلبل و زاره. /على أنغام البلابل.
(راجع ديوان فقى طيران، الجزء الأول، سعيد ديره شى و بيزانى آليخان، مطبعة الحوادث، بغداد 1989، ص 207 و 107-135. وكذلك يراجع كتابي: صفحات في الأدب الديني الايزيدي، الطبعة الثانية، دار سبيريز/دهو 2013، ص 782).
مما لا شك فيه أن (مير مح) هو نفسه (مير محمد المكسي الهكاري) الملقب بـ (فقيه طيران) واحداً من كبار الشعراء والكتاب الكلاسكيين الكرد القدامي. وقد إختلف الكتاب في سنة ولادته، فمن قال في سنة 1590م وآخرون قالوا سنة 1563، أما وفاته ، فمن قال سنة 1660 وآخرون قالوا 1663. أما عن ألقابه الشعرية، فسمي بـ (مكسي) نسبة إلى مكان ولادته (مكس) بمنطقة هكاري. وسمي بـ (م.ح) أي مختصر (محمد). وقيل عنه أنه كان يفهم لغة الطيور، يستمع إلى محاوراتها وزقزقتها فينقل ذلك إلى أصحابه، وقد نسجت حوله أساطير حول ذلك ودونت في الكتب. (رشيد فندي، من ينابيع الشعر الكلاسيكي الكوردي-الجزء الأول لسنة 2004.)
إشتهرت أشعار فقي طيران بالدفاع عن الفقراء والمظلومين، ولم يكتب في مدح الملوك والأمراء، وأبى كرامته أن يدخل قصورهم ويحضر مجالسهم. وامتازت لغة أشعاره بالبساطة وسهولة الحفظ لذلك كان يفهمها الجميع وإنتشرت بين عامة طبقات المجتمع. وفي قصائده كان منفتحاً على الشعوب، وكان ينادي بالمساواة والأخوة بين الشعوب، هذا إضافة إلى أن شعر (فقي طيران) ينتمي بمجمله إلى شعر التصوف والحب الإلهي، ولهذا السبب وجدت العديد من أشعاره (أبيات وقصائد) طريقها بين النصوص الدينية الايزيدية، نذكر منهم:
– به يتا دنى/ “بيتا” الدنيا
– به يتا دلو رابه/ “بيتا” انهض أيها القلب!
– حقاً تو به دشايى/ حقاً أنت الإله!
– به يتا نه سيحه تا/ “بيتا” النصائح والارشادات
– جيروك و به يتا شيخ سه نعان/ قصة و “بيتا” الشيخ صنعان
– جيروكا زه مبيل فروش/ قصة بائع السلال.
– ملحمة دمدم/ داستانا كه لا دمدمى
– اعتقد أن قصة النبي سليمان وبلقيز ومحاورة الطيور، هي من تأليف فقي طيران.
القليل من الدلائل التي أشرنا إليها حول الشاعر الكبير مير محمد المكسي الهكاري (فقي طيران) سواء من ناحية غزارة علمه وإطلاعه وانفتاحه على عالم ذلك الوقت، وتناوله من كأس التصوف والعرفان، تقودنا إلى الإعتقاد الذي يصل حد الجزم تقريباً، أن قصة قصة الخلود (مير مح- مير محى) المتداولة ايزيدياً، هي من روائع الشاعر (فقي طيران)، الذي تأثر حتماً بما سبقوه كأن تكون برسالة الغفران للشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري، أو (الكوميديا الالهية) للشاعر والفيلسوف الايطالي المتداولة في أوساط الكنائس المسيحية. أو لا يستبعد إطلاعه على الأدب والثقافة الفارسية وكذلك على فلسفة الديانة الزرادشتية…مما دفع عقله المتقد وخياله الواسع إلى ان ينسج هو الآخر كأقرانه من الشعراء والفلاسفة الكبار قصة الخلود والممات والحياة الأخرى وخلدت باسمه (داستانا مير مح)!!.
أما عن الـ “بايزوك payizok” باختصار، هي الأخرى دخلية على الأدب الديني الايزيدي. الـ “بايزوك” ضرب من ضروب الأدب الغنائي الكردي الرفيع تتميز بها منطقة بهدينان على وجه الخصوص، ومن شعراء بهدينان البارزين لنظم وغناء هذا النوع كان الشاعر الغنائي (حه مه كور) أو (حمكى توفيا Hamke Toviya.)
(ينظر:أنور مائي، الأكراد في بهدينان، طبعة دهوك لسنة 1999، ص25. وينظر كتابنا: صفحات من الأدب الايزيدي، مصدر سابق، الطبعة الثانية 2013، ص 1096)
ملاحظات سريعة:
* فكرة الخلود والموت ووجود الحياة الأخرى، قضية جوهرية تقلق الإنسان منذ أقدم العصور وإلى الوقت الحاضر. فما الزقورات في وادي الرافدين والأهرامات في مصر والمعابد في الهند وبلدان جنوب شرقي آسيا، إلا شواهد حيّة لما كان يفكر فيه الإنسان. علماً أن فكرة الخلود والموت والحياة الأخرى تختلف بين الشعوب حسب دياناتهم وثقافاتهم وبيئتهم.
* تعد ملحمة كلكامش الأساس الفكري والعقائدي لجميع أديان الشرق القديمة، خاصة الإبراهيمية، في إيجاد (بديل رمزي للخلود) من خلال ربط خلود الروح بمفهوم وجود (الجنّة)، أو بـ (تناسخ الأرواح).
* الأفكار الدينية أولا وأخيراً ترتبط بالماورائيات والغيبيات وتلعب الأسطورة دورها البارز، لذا تكون الأحكام نسبية، ونسبية إلى حد كبير!. وأنها تدور في باب الاجتهادات والتخمينات. ومن الخطأ الكبير إعطاء الأحكام القاطعة بشأنها.
* يمكن تفسير فكرة الخلود من خلال العرض المقدم بمفاهيم مختلفة بين الشعوب والأديان منها، أولاً: أن الخلود هو من نصيب الله والملائكة والكائنات النورانية، والموت للبشر. ثانياً: أما الديانات التي تؤمن بوحدة الوجود وتناسخ الأرواح (كالهندوسية والبوذية والايزيدية الى حد ما) فإن كل إنسان يتمكن من نيل الخلود ويتحد مع المطلق عن طريق الزهد والتنسك وترك ملذات الدنيا. ثالثاً: عدم استسلام الانسان للموت كونها العدم والفناء، وإعتبار الخلود (الجنّة) محطة يلتقي فيه مع أحبائه الذين فقدهم في هذه الدنيا!
مانيلا في 1/تشرين الأول/2019
شكرا شيخنا لدي وجهة نظرتقول سبب النشر االعجيب الغريب هو غياب المؤسسة الدينية الايزيديةحصرا من كتاب ( شيخ وبير) مما حدى بمن هب ودب بالنشردون دراية ولااقصد مقالك في الرد ولاعلى مقال احد الاخوان . الخلود نعمة لاتدرك ولكن التصوف الشرقي والمؤمن بوحدة الوجود والتقمص والتناسخ ربما ظفر بالخلود كون الانسان جزء من القوانين التي هي جزء من الخالق المصدر ( مقال سامح عسكر حوار المتمدن عن الهندوسية )و(لان حالات وعي قادت الصوفية لافكار مشابهة جدا لافكار التي تشمل عليها النظرية النسبية) والروح خالدة تبعا لكونها طاقة خالدة تتشكل من صورة لاخرى وهذه الرؤيا كانت اعجازا علميا للتناسخ بعد اثبات اينشتاين قانون حفظ الطاقة في النسبية . والتناسخ هو (كحفظ قصيدة تلقى على شخص او نور من شمعة الى اخرى ومحصورة للبشرفقط )اما الخلود في الاديان التبشيرية فقد خلقوا لانفسهم الجنة بالانتقال اليها بالخلود علما اكثرهم يقول الجنة على الارض وفيما يخص اشعار فقي طيران فاعتقد اصلها ايزيدية كون لن يوجد لنا كتاب او تدوين فقط علم الصدر الشفاهي وايضا فيها اقوال و امور عالية من الادب الرفيع المستقبلي للرؤيا الباطنية مع عذري للاطاله .
((تقول القصة أن زرادشت صعد إلى السماء وإلتقى بآهورامزدا (الله الديانات الابراهيمية) وشاهد الجنّة والنار(الحجيم) والصراط وغيرها من….))
لكن زرادشت نفسه وجميع ألزرادشتيين بمن فيهم الئيزديين لا يُؤمنون بالجنةوالنار والبعث كما كانوا بل بالتناسخ والحلول وهو نقيض الجمة والنار , إنما أُدخلت على الئيزديين وغيرهم من الطوائف المتشظية من الزرادشتية بقبضة السيف وليس الغ]مان وترسخ بمرور الاجيال كما هو معروف اليوم …… بل أن زرادشت لم يذهب في إسراء ولا معراج , إنما أحد الكهنة وبعد موته بمئات السنين .
ولا يُمكن ان تكون أسطورة كلكامش ولا الطوفان من نسيج 3000 سنة قبل الميلا , هي وغيرها من حكم البشر وقصصه في الخليقة والحياة والموت قد نُسجت قبل آلاف السنين من ذلك في زمن الأدب البشري الشفاهي ومن قبل حكماء وفلاسفة الازمنة الغابرة جداً وقد تناقلتها
الأمم شفاهاً حتى ظهر التدوين وبمجرد التدوين ثُبّتت تواريخها في نفس العصر ونُسبت إلى مجرمي ذلك العصر وكذابيهم المؤلهين بالسيف وليس بالحكمة .
أما عن عراقة الدين فهي للطبيعة , الطبيعة هي العريقة ويكفي لدين الشمس الزرادشتي الئيزدي أن تكون الشمس محوره ونبيه ووسيطه إلى الله حتى يكون أعرق دين دخل فكر البشر , أضاف إلأيه المجتهدون على مر العصور إضافات بحسب الظروف وشكراً