روايات السجون , أو روايات أدب السجون . هي في مفهومها ومضمونها العريض , هي تتلخص في دائرة الصراع والعلاقة غير المتكافئة , بين الجلاد والضحية . في كسر وتحطيم ارادة الضحية , في انهزامه الروحي . بكل الوسائل المتاحة في قبضة الجلاد , في استخدام اساليب التعذيب الوحشي البشع . في هدم وانهزام معنويات الضحية , بالانتهاكات الصارخة واللانسانية , بهدف تحطيم كرامته وقيمته الانسانية . لكي يتحول الى جيفة تنهشها الذباب والحشرات والبعوض . بأختصار شديد , أن زنزانة السجن تحت قبضة النظام الشمولي الطاغي في الارهاب الوحشي والدموي . هو موت بطيء للسجين أوالضحية , واذا يخرج سالماً من زنزانات الموت , فأنه يخرج بجراحات عميقة لا تشفى . هذه منصات المتن الروائي في رواية ( أنا الذي رأى ) . لكنها في احداثها في المتن السردي , تختلف عن روايات أدب السجون , التي تهتم في مسألة السجين السياسي المعارض والحزبي ضد الحزب السلطة الحاكم . او معرضاً سياسياً لسلطة الحكم في البلاد , لذلك يتعرض السجين السياسي الى الاسقاط والبراءة , والاعتراف على خلية حزبه ورفاقه الاخرين . فهذه الرواية تختلف فهي لاتتحدث عن السجين السياسي المعارض والحزبي . وانما تتعرض وتتناول فئات واسعة من شرائح المجتمع العراق أبان الحكم البعثي , في قبضته الحديدية الباطشة , حتى على فئات هم بعيدين جداً عن الشؤون السياسة والحزبية , وليس لهم خلاف مع حزب البعث الحاكم , وليس لهم شأن بالسياسة والحزبية , وانما هم ضحايا غدر من الدسائس والمكائد والتجسس . او نتيجة هفوة كلام عابر . او هم نتيجة ضحايا ورهائن من اخوانهم واهالهم واقربائهم , اذا كان فيهم معارضاً للنظام الحاكم , او شيوعياً , ويتحملون معاناة تبعيتهم في السجن اهلهم واقاربهم , مثل اهل الطلبة واقرابائهم , الذين يدرسون في الدول الاشتراكية سابقاً , ويحملون راية المعارضة ضد الحزب البعث الحاكم , فيأخذ اهاليهم رهائن للسجن والاعتقال , , او ربما احد الاخوان والاقرباء , يحمل السلاح في حركة الانصار المسلحة . او ربما سقطت لوحة رقم السيارة في الطريق سهواً , فتعتبر جريمة وتهمة , او ربما رفض اطلاق النار على الضحايا الابرياء والاسرى , فيطلقون النار عليه , وربما من كثرة التعذيب الوحشي والبشع , يصاب الجلاد بهستريا الصياح والتهجم على جهازه الامني والسلطة , واسكاته بالموت . أو ربما صدفة مشؤومة تقوده الى موت , دون ارادته . وكثير من الحكايات بما انزل الله من غرائب وعجائب لا يهضمها العقل . لذلك يعني هذا بأن كل شرائح المجتمع الحزبية وغير الحزبية وحتى من الحزب الحاكم , وحتى من صلب الحزب والسلطة , هم يتعرضون للسجن والاعتقال والموت , حتى بدون تهمة توجه اليهم . ولكنها تشير الى نهج واسلوب السلطة الشمولية بالارهاب العنيف والدموي . وهذه الرواية اعتبرت افضل رواية لروايات السجون في عهد النظام البعثي . واعتبرت من افضل سبعين رواية عالمية في ادب السجون . حسب الموقع الادبي الامريكي في نيويورك . موقع شؤون المكتبة . Librarything.com . وترجمت الى اللغة الانكليزية بعنوان / Saddam city . وكتبت عنها الصحافة الادبية , الانكليزية والامريكية أكثر من اربعين مقالة . وكما وترجمت الى لغات عالمية آخرى . وجمعت في لغة السرد الشفاف والمتدفق بحرارة الاحداث برهافة ساخنة , جمعت اللغة الفصحى واللهجة العراقية . ويمكن اعتبار هذه الرواية من سرد الاحداث المتلاحقة في النص الروائي , بأن الصدفة او الصدف تلعب دوراً بارزاً ومهماً في حياة الضحية , دون ارادته . فهي رواية الصدفة او الصدف المشؤومة . التي قادت الضحية , او بطل الرواية . السارد بضمير المتكلم ( مصطفى علي نعمان ) بأنه ضحية صدف متوالية تنهال عليه , تدفعه الى التهلكة وعلى شفى الموت والاعدام , ولكنها في نفس الوقت , تنقذه صدفة واحدة من شبح الموت والاعدام الذي يلوح في الافق , فبدلاً من الموت والاعدام , يتنسم عبير الامل بالحرية . كأنه كان في كابوس مرعب ووحشي . لذلك لابد من استعراض احداث المتن الرواية , والتعريج على الصدف المشؤومة التي قادته بين الموت والحياة :
× يبدأ الحدث الروائي بالحدس الطفولي البريء , في صباح يوم الاثنين , أو الاثنين المشؤومة , بسؤال طرحته طفلته ( عبير ) على ابيها بقولها ( – بمثل هذا اليوم ولد النبي . أصحيح ( بابا ) في يوم مولد النبي لا يحدث مكروه للاطفال ) ص1 . أجابها في ابتسامة مطمئنة . واستعد للذهاب الى مقاول البناء , وهناك وجده في مكتبه وسلمه مبلغ ( الفي دينار) سلمها دون ان يأخذ وصل التسليم الموقع بتوقيع مقاول البناء , تذكر غلطته الفادحة في الغباء , بأنه لم يستلم وصل تسليم المبلغ ( الفي دينار ) واذا انكر المقاول المبلغ , فماهو الدليل والاثبات بأنه سلم هذا المال , ولكن في الطريق تعرضت سيارته الى العطل , نتيجة الطين في الشارع . ترك سيارته المعطلة وذهب الى مدرسته , لانه مدرس في مدرسة ثانوية . ووجد المفاجأة في انتظاره . رجال من الامن والمخابرات , يطلبان استجوابه , بأستجواب بسيط خمس دقائق ويرجع الى مدرسته . وذهب معهم . ولكن اول خطوة يدخل فيها باب بناية الامن والمخابرات , تتلقفه الضربات العنيفة والمبرحة , واصبح مصيدة لضربات والاهانات بالعنف السادي , ووضعوا العصابة على عينيه , وقيدوا يديه الى الخلف ودفعوه الى زنزانة السجن , فحين انتبه الى نفسه , وجد نفسه في غرفة صغيرة مليئة بالموقوفين , فلم يستطع ان يجد مكاناً يجلس فيه , فظل واقفاً ينتظر الاستجواب البسيط . وبعد ساعات طويلة من الهواجس القلقة , التي بدأت تنهشه . بعائلته واطفاله , ومقاول البناء فقد نسي ان يأخذ منه وصل تسليم المبلغ , وفي غرفة الاستجواب , قالوا له بأن أسمه ( مصطفى علي عثمان ) حاول ان يقنعهم بالوثائق الرسمية , بأن هناك خطأ بالاسم وان اسمه الحقيقي كما هو مثبت ( مصطفى علي نعمان ) فأستخفوا به بالاهانات والضربات المبرحة , بأنه يضحك عليهم ويكذبهم . حتى سحلوه الى غرفة السجن يداوي جراحه المؤلمة . وظل واقفاً يئن من جراحه وقلقه شديد على عائلته , ولكن يواسي نفسه , بأنه ليس سياسياً وليس معارضاً . وليس له علاقة في الاوضاع ومجرياتها . لانه يتذكر الحكايات المروعة , في اختفى واعدام اشخاص ابرياء ليس لهم علاقة بالسياسة وحزب البعث الحاكم . مثل جاره البريء الذي خطف من الشارع . وبدأت عائلته تبحث عنه في مراكز الشرطة والمستشفيات , وبعد خمس وعشرين يوماً جاءهم تبليغ بالذهاب الى الطب العدلي , وتفتيش ثلاجة المستشفى . وشاهدت زوجته ان الثلاجة مليئة بالجثث المشوهة والمقطعة الاوصال , ولا يمكن معرفة ملامحها . لكنها اهتدت الى جثة زوجها من ملابسه الداخلية , ولم تسلم الجثة إلا بعد أخذ تعهد صارماً , لا فاتحة . لا تشييع . لا صراخ . لا سواد . واستعرض بذاكرته الكثير من الحكايات المروعة , في الاختفاء والموت والاعدام , حتى هدم البيوت على ساكنيها في وحشية لا يصدقها العقل , واحد نزلاء غرفة السجن معه , قال له . بأنه مارسوا معه التعذيب الوحشي والسادي حتى خفقات الموت , واخيراً طلبوا منه , ان يذكر اسماً اي اسم يخطر في باله لا على التعيين , وإلا استمروا معه حتى تخرج روحه للموت , فذكر اسم ابيه , ضحكوا عليه وقالوا هذا اسم أبيه , ان يختار اسماً آخراً , فأختار أسم ( خاله ) فجيء بخاله ومارس معه شتى انواع التعذيب السادي ولم ينطقوا بالتهمة الموجهة اليه , وها هو معه يئن من الاوجاع في جميع انحاء جسمه , وهو لا يعرف التهمة . وتوالت التحقيقات في الاصرار على ان أسمه ( مصطفى علي عثمان ) وهو يتوسل ان يقتنعوا بأسمه الحقيقي , رغم الدلائل الدامغة التي تثبت حقيقة اسمه . وظل على هذه الحال أربع وثلاثين ساعة . وهو يشعر بأن كل خلية في جسمه تتخلى عنه , فلم يصبر على حالته المزرية وتوسل بحارس السجن بعد ما انهكه التعب والارهاق , ومن البرد الذي يلسع جسمه , لانه كان مرتدياً ملابس خفيفة ( – أرجوك أسمح لي أن اذهب الى المرافق فقط . لقد قضيت اربعاً وثلاثين ساعة , بدون طعام او ماء او مرافق ) ص30 . ظلت هواجس تنهشه في رعبها , بماذا ستقول عنه عائلته , طفليه وزوجته عن غيابه . ماذا عن مصير زوجته وهي من التبعية , ويخاف على مصيرها , وفي حملة تبعيث المجتمع . سجل بحزب البعث كمؤيد , واخذ منه تعهد بالاعدام , اذا أنتسب , أو أيد اي فئة اوحزب , أو اخفى معلومات . حتى يتوقى العواقب الوخيمة من قبضة الارهاب والانتهاكات الصارخة , سواء كانت بسبب او بدون سبب , حسب مزاجية أمين الامن والمخابرات , ان يعبث في حياة الناس , ويوزع الحياة والموت بين الناس . لذلك قال لهم في الاستجواب بأنه رجل عادي جداً جداً مهتم بعائلته فقط . ضحكوا عليه بصلافة والاستهزاء , وضحكوا على عبارته بأنه أنسان عادي جداً جداً , وقال له المحقق ( – لا تتعجب . سنرى . واكمل أخر : كل الناس خطرون , الانسان الوحيد لا خطر منه , هو الميت والمسجون .
– انك تخفي عنا الحقائق ) ص38 . وسأل عن انتمائه الحزبي , فأجاب بأنه بعثي بدرجة مؤيد . فصرخ به مسؤول التحقيق :
– مؤيد خراء . أبحثوا عن اخوانه . اقربائه . أولاد عمه . اذا طلع احدهم شيوعياً أذن ) ص49 .
واخذوا ينقلونه من سجن الى آخر , في استمر اساليب التعذيب الجسدية والنفسية . حتى كانوا ينقلونه من محافظة الى آخرى , حتى المحافظات الشمالية ( اربيل . سليمانية . دهوك ) وفي كل سجن يواجه هوان العذاب والانتهاك والمعاناة والظروف القاسية . ويسمع حكايات مرعبة من السجناء الضحايا , او حكايات عن المعدومين , حكايات الموت المريرة , وكان يسمع من القرويين الاكراد في محافظات كردستان العراق , حكايات الموت لا يصدقها العقل , مثلاً اعدام لكل من يأوي رجال الانصار , او يقدم مساعدة او يتعامل معهم في بيع البضائع . او لم يخبر عن تواجدهم ومرورهم في القرى . يعني اصبحت الحياة رخيصة وتافهة ومضحكة في الموت المجاني , وهم ابرياء ليس لهم علاقة في الصراع السياسي . وكذلك عن اساليب جهنمية , مثل زرق الابر ليصاب الضحية بالجنون . او يسحل الضحية حتى تزهق روحه . او حرق اعضاء جهاز التناسلي الحساسة , او ممارسة اللواط . او حالات التجسس على الاباء من خلال اطفالهم , مثلاً سألوا احد الاطفال هل يحب السيد الرئيس , فأجاب بلا , لان أباه كلما يظهر الرئيس في الشاشة يبصق عليه , واعدم أباه مع عائلته وهدم بيتهم عليهم , او احد التجار الكبار , تواطؤوا مع خادمته في استدراجه الى حديث سياسي على فراش المضاجعة . ومعها كاسيت التسجيل , واراد ان يسكتها بالكلام عن السياسة فقال لها ( شعرة من عانتكِ خير من الف عفلق ) وعرضوا الكاسيت على زوجته وهي لم تصدق , وكان اعدامه بعدما أسمعوه كلامه . وحكايات آخرى يقف لها شعر الرأس لهولها وغرابتها . نظام مبني على القبضة الحديدية الباطشة في التنكيل لكل فئات الشعب , لا يخلط بين الناس , كلهم بنظره مجرمون .
وكان ( مصطف علي نعمان ) مصاب بالدازنتري الحاد , فحين تهب عليه اوجاعه الحادة , والتي لا يتحملها , يتغوط في اكياس النايلون الازبال بالاسهال الفظيع , وامام السجناء , وهو يذوب بالخجل والمهانة . وخلال التحقيقات يحاول ان يثبت برائته لكن دون جدوى . وفي احدى التحقيقات , اخرجوا له صورة كان في صالة الفندق وورائه شخص مجهول لا يعرفه . فسألوه عن علاقته بالبيش مركة والشخص الواقف خلفه بالصورة , فأجاب ليس له علاقة ( ليس لي علاقة , هات شخصاً يشهد علي , اي شخص , اعدموني ) ص98 . وقال لهم بأنه خلال زيارته السريعة الى ( السليمانية ) اراد ان يأخذ صورة تذكارية . فقالوا له ان هذا الشاب خطير مطلوب رأسه لانه من الانصار , من خمس سنوات يطاردونه دون جدوى , وقالوا له . لماذا اخذ اجازة شهر واحد , في نفس اليوم الذي سرقت سفينة راسية في شط العرب , كانت محملة بالاسلحة والمتفجرات . فقال لهم اخذ اجازة شهر واحد لبناء بيته , فلم يسعفهم في الاقناع , بل شددوا عليه اكثر بالتعذيب والضرب والاهانات , حتى جعله يجزع من حياته ويتمنى الموت . لكنه ينهشه ويعذبه مصير أطفاله , مصير زوجته وهي من التبعية . ولكن من احد الصدف النادرة , في التحقيق الاخير , وقع مع محقق , يحب البصرة واهل البصرة . فقال له المحقق ( – لقد كان حظك كبيراً , أنني احب اهل البصرة ومن يسكنها , سهمت عيناه من جديد في ذكريات مخملية , مثيرة تفيض من ملامحه كلها ) ص105 . وساعده في اطلاق سراحه , وهو غير مصدق , الامل الذي انعشه واعاده الى الحياة , بعد قاب قوسين من الموت , واطلق سراحه بعد سنة وثلاثة اشهر عجاف في مراراتها القاسية , التي لعبت به الصدف الكثيرة بين الموت والحياة .
× اهم الصدف التي تجرعها بكؤوس من الحنظل :
1 – صدفة اعتقاله في مولود النبي
2 – الصدفة المتسرعة في تسليم مقاول البناء , الفي دينار ونسى ان يطالبه بوصل استلام المبلغ .
3 – صدفة عطل سيارته في الشارع
4 – صدفة اعتقاله نتيجة تشابه الاسماء , من اسمه الحقيقي ( مصطفى علي نعمان ) الى الاسم ( مصطفى علي عثمان ) .
5 – صدفة اخذ اجازة شهر لبناء بيته , في نفس اليوم الذي , سرقت فيه سفينة محملة بالاسلحة والمتفجرات راسية في ميناء شط العرب
6 – صدفة خذ صورة تذكارية في رحلة سياحية الى ( السليمانية ) واخذ صورة في صالة الفندق , وصدفة وجود شخص خلفه خطير مطلوب رأسه بالموت .
7 – الصدفة الوحيدة التي انقذته , هي وقوعه مع محقق يحب البصرة واهل البصرة , وساعده في اطلاق سراحه .
هذه الصدف المشؤومة التي تحيي وتميت الانسان دون علمه وارادته , لكنها تشير الى الحياة الشاقة , تحت قبضة السلطة الشمولية , في ارهابها وزهق الارواح البشر .