اندلعت انتفاضة ” الصدور العارية ” بعد مرور ستة عشر عاماً من الانفلات الأمني و من التراجع المريع في : الخدمات، الصحة و التعليم و فرص العمل . . في ظل حكم تفاقم النهب و الفساد وسوء الادارة فيه على اساس المحاصصة الطائفية، حتى هُدرت مئات مليارات الدولارات من واردات العراق، دون دلائل تُذكر لرعاية اجيال البلاد و تأهيلهم و تشغيلهم بدلاً من تشغيل الاجانب، او دلائل لحفاظ على معالم دولة عصرية كان عليها العراق، حتى صارت الملايين من اوسع الاوساط و خاصة الكادحة و الفقيرة تئنّ من التردي و بؤس المعيشة و الجوع والتخلف، اضافة الى العيش في مخيمات النزوح التي تنقطع عنها المعونات لسرقة مسؤولين للاعانات الدولية المكرّسة لعودتهم الى حياتهم الطبيعية، وفق وكالات انباء دولية و غير منحازة . .
في وقت تشاد فيه اكبر و اجمل الفيلاّت و العمارات و المصالح، لمتنفذين في الحكم كانوا قبله من المتسكعين و الحفاة عقولاً و اقداماً وفق مئات آلاف البيانات الوثائقية العالمية و الإقليمية . . الأمر الذي جعل الحياة بائسة بلا أمل و خاصة لأجيال الشباب الذين درسوا و اجتهدوا و تخرّجوا بعرق الجبين، ليُرموا الى الشوارع و لتتلقّفهم انواع الآفات، من المخدرات (الوافدة اساساً من ايران على ايدي متنفذين)، الى السرقات و الى الميليشيات و السلاح و الثارات و غيرها . .
و يسألون من هم هؤلاء ؟؟ . . . هم الأجيال التي سحقتها الحروب و الاحتلال العسكري و الامني الاجنبي و القاعدة و جيش النقشبندية و داعش الارهابية الاجرامية، و سحقتهم (ديمقراطية الطوائف التحاصصية)، هم الذين بدونهم لم تتحطم دولة داعش و سُجّل النصر للدولة العميقة (اللادولة)، التي بدأت بمعاقبة ابطال ذلك النصر، فيما لم يُحاكم الى الآن من تسبب بسقوط الموصل، رغم ادلّة و بيانات و قرارات برلمان . .
انهم ليسوا عملاء ياسادة، و لم يُحرّكوا من الخارج كما اتُّهم محتجو البصرة في انتفاضتهم الجريئة التي ووجهت بالرصاص و بالحديد و النار قبل عام و فشل اتهامهم، بل هم شباب عراقنا اليوم الذين راكموا من الخِبَرْ كثيراً و صاروا يحذرون ممن يحاول ركوب موجتهم او يجيّر خططه الطائفية و الميليشياتية برؤوسهم، الشباب الذين سئموا من الوعود و من محاولات شراء الضمائر و لم تفلّ منهم السجون و التهديدات بالإغتيال و لابسقوط الشهداء و انواع الضحايا، بعد ان رفضوا حياة الذل . .
انهم ورثة انفجارات غضب شباب البلاد نساء و رجالاً و من كلّ مكونات الطيف العراقي، منذ عام 2011 ، و لم تخلُ مدينة او شهر دون احتجاجات متنوعة الطابع متحدية استخدام العصي و الرصاص الحي و الغازات المسيلة للدموع و رشاشات الماء الحار و الملوث و سقوط اعداد الشهداء و الجرحى و مطاردة الناشطين فيها و ضياع اخبار اعداد كبيرة منهم . . بسبب انواع الاوامر الحكومية الصادرة بشتى الذرائع ـ كعدم التزام الهدوء، عدم ضبط المواعيد، و الى ضرورة الهدوء في مواجهة الرصاص الحي و الغازات السامة ؟!! ـ للتضييق عليها او لخنقها، حتى وصل الامر عام 2015 الى انتفاض عامة الشعب في مدن البلاد من اقصاها الى اقصاها و الى اقتحام مراكز الأحزاب الحاكمة و المقار الحكومية و حتى البرلمان، التي لم تعد تعني بعيون جماهير الشباب الاّ قلاع للاضطهاد . . بشعار ” باسم الدين باكونا الحرامية ! “.
انها وريثة مواجهات الشعب مع الحكومات التحاصصية، التي اوصلت الحياة الى مراحل لا تطاق بانقطاع الماء الصالح للاستهلاك البشري و انقطاع الكهرباء و الانترنت، بل و انقطاع الانهار التأريخية للبلاد، بفعل المصالح الضيّقة للجارات تركيا و ايران دون رادع او جهد او قدرة حكومية للوقوف بوجهها . . و بفعل المواجهات مع مسؤولين لايصدقون مايجري او يسخرون منه !!
تنفجر الإحتجاجات اليوم بتحدي اكبر بعد ان انسدت بوجوههم كل الابواب . . و لن يؤدي فتح النيران الحكومية عليهم و سقوط قتلى و جرحى منهم بلا اسباب (موجبة) مؤسفة، الاّ بهيجان اعلى و بانفجارات اقوى لتتوسع التظاهرات و تتصاعد . . و اذا اتُّهمت احتجاجات سابقة بالطائفية فانها تشمل الان العاصمة و محافظات الجنوب بغالبيته الشيعية الذي تعتبره الاوساط الحاكمة قلعتها الثابتة . .
انطلق الغضب الهائل بعد تفاقم اليأس من العملية السياسية التي انحرفت، و من كتلها و احزابها التي لم تستطع ان تقدّم اي حلّ للحياة المرّة التي يعيشها ابناء البلاد برجالهم و نسائهم و عوائلهم، انه بداية لخروج طوفان من الغضب و الحقد على مايجري، الذي تعيشه البلاد برمتّها و يئنّ منه ابنائها . . طوفان يهدد بشمول لهيبه البلاد باجمعها . طوفان الغضب و اليأس من حلول الدولة المخادعة و مؤسساتها التي لم يتسبب بها الاّ حكم المحاصصة الطائفية و فساده و انانية حكّامه . .الذين اضاعوا حتى استقلال البلاد التي صارت تُحكم من اعلى مستوياتها، من حكام ايران و اميركا و تركيا و حلفائهم و صراعاتهم، الأمر الذي صار يتسبب برعب اكبر لأوساط واسعة من انجرار البلاد الى حرب ايرانية ـ اميركية تكون بلادنا مسرحاً لها و ابنائها وقودا لها، رعب يصعّد من نقمتها على حكّامها.
و ترى اوسع الاوساط الشعبية ان ردّ المتظاهرين على عنف الاجهزة الامنية و رصاصها و غازاتها و استهتارها و سخريتها من الجماهير المحتجة، بالعنف دفاعا عن النفس و الحق بالحياة . . لهو امر متوقع مع الاسف بضوء مايجري، رغم تداخل كل الصراعات و الميليشيات و مشاريع التقسيم و محاولات الاندساس عليه، و الجهات الحاكمة مشغولة بالاغراءات و التهديدات و بانقلاب نواب على قوائمهم ليس بوجهة تدمير اسس المحاصصة و انما ركضاً وراء مصالحهم الضيّقة و كراسيهم المهترئة . .
و بعيداً في ابراج الحكم العالية القصية عن حال الشعب . . لايبالون بان هناك كارثة وطنية قد تجتاح البلاد باسرها ان لم يسارع الجميع لإنقاذ الاوضاع بكل السبل الواقعية و العملية، من استقالة الحكومة القائمة و تشكيل مجلس انقاذ عراقي بصلاحيات كاملة يضم ممثلين عن الاحتجاجات، يعمل على ايجاد حلول عاجلة بانهاء المحاصصة و الاعتماد على الكفاءة و النزاهة على اساس المواطنة . .
لقد تحرر الشباب من خوف آبائهم و هم مستعدون للمواجهة التي فرضتها السلطات الحاكمة بظلمها و باهمالها لحياة شباب البلاد و اكتفت بمواجهتهم بالرصاص و بالغازات السامة و بالاختطافات . . و يتساءل كثيرون عن اي التزام بالهدوء يتحدثون ؟؟ الم يكونوا يوماً في النضال ضد الدكتاتورية و ضد حكومات القمع كما يدّعون ؟؟؟
2 / 10 / 2019 ، مهند البراك