كان وزير الدعاية الألماني بأول جوزيف غوبلز (1897-1945) يؤكد لأعضاء حزبه والغستابو والأس أس دون كلل أو ملل القاعدة التالية: ” اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب، حتى يصدقك الناس“، كما اعتمد على قاعدة أخرى أكثر تدميراً لوعي الإنسان والمجتمع حين أكد “أعطني إعلامًا بلا ضمير أُعطك شعبًا بلا وعي“. وكان النظام النازي الهتلري يعيش وينمو ويتوسع على هاتين القاعدتين في صفوف الشعب الألماني طيلة عقد ونصف من السنين المريرة والعجفاء من الدكتاتورية والعنصرية والفاشية والإرهاب والحروب الدموية والموت لملايين البشر. وكان الغالبية العظمى من الشعب الألماني تصدق بالكثير من تلك الأكاذيب المفبركة، لأن إعلامها كان بلا ضمير وأصبح شعبها بلا وعي سليم. هاتين القاعدتين الفاشيتين التزم بهما الكثير من حكام العالم المستبدين الجائرين على شعوبهم، ومنهم الكثير من حكام دول الشرق الأوسط وفي بقية اسيا وأفريقيا/، وفي أمريكا اللاتينية، وغير قليل من دول العالم الأخرى. وكان النموذج الصارخ للكذب في العراق هو النظام البعثي الفاشي الدكتاتوري الدموي، الذي مرّغ جبين الشعب العراقي بالتراب، قد أدخل الشعب بأكاذيبه بالكثير من الحروب والحصار والموت.
كان الكثير من بنات وأبناء الشعب في العراق قد اعتقد بأن الولايات المتحدة، التي وعدت بالخلاص من دكتاتورية صدام حسين وأكاذيبه وقهره من خلال حربها غير الشرعية في عام 2003، أنها ستبني دولة الحرية والديمقراطية والرفاهية في العراق، ولكنه بعد مرور فترة قصيرة من وجود الاحتلال الأمريكي قد أدرك بأن الولايات المتحدة لم تكن كاذبة بامتياز فحسب، بل إنها اقامت حكماً طائفياً فاسداً وكاذباً بامتياز أيضاً وعمدت بإصرار وعن عمد على تجزئة الشعب عبر النهج والسياسة الطائفية. فالنظام السياسي الطائفي الفاسد الحالي في البلاد قام على كذبة كبرى، وجُل حكامه مفترون بأعلى معايير الكذب والافتراء على الناس. ويخدمهم في ذلك الإعلام الحكومي، الذي تحدث عنه غوبلز “إعلام بلا ضمير” ونزع مسؤولوه عنهم ضميرهم ووضعوا مكانه مصالحهم الذاتية الأنانية المناهضة لقضايا ومصالح شعبهم.
لقد استطاع الحكام الجدد، الذين زرعتهم الولايات المتحدة وإيران في البلاد، ان يمرروا أكاذيبهم لسنوات كثيرة على الشعب العراقي بمساعدة مباشرة وغير مباشرة، وبوعي كامل ودعم مستمر، من المرجعيات والمؤسسات الدينية الشيعية والسنية أخيراً، ومن رجال دين دجالين في العراق وإيران، واستطاعوا ان يجنوا أصوات الكثير من الناخبين عبر هذا الدعم الديني والأكاذيب والإفساد المالي والتزوير وقوانين مشوهة. إلا إن الانتفاضة الشبابية المقدامة الأخيرة قد قدمت دليلاً جديداً بعد أحداث 2011 و2014 و2015 ومن ثم أحداث البصرة في 2018، بأنها تدرك كذب وزيف وعدوانية هذه القوى وفسادها وطائفيتها الوقحة التي جزأت الشعب العراقي، والتي حكمته بالوعود الكاذبة وبنهب خيراته ولقمة عيشه.
تشير المعلومات غير الرسميةـ التي يرصدها الشارع العراقي إلى ان عدد ضحايا الأحداث الجارية لم تكن 120 شهيدا بل إن الرقم الحقيقي هو أضعاف هذا العدد من الشهداء الأبرياء، إضافة الى آلاف الجرحى والمعوقين وآلاف مؤلفة من المعتقلين والمخطوفين والمغيبين يقبعون في معتقلات تحت الأرض أو نقلوا إلى إيران ويديرها ويشرف عليها “الحرس الثوري” وشريكه في الإثم الجرمي “الحشد الشعبي” حيث يُمارس التعذيب والقتل والدفن في آن واحد. وقد أمكن نشر الكثير من الفيديوهات عن أساليب التعذيب الوحشية بحق المتظاهرين المعتقلين، كما نشرت بعض المعلومات عن مواقع بعض هذه المعتقلات. فقد جاء في مذكرة لرئيس جمعية المواطنة لحقوق الإنسان، المحامي السيد محمد السلامي، موجهة إلى المفوضية العليا لحقوق الإنسان والرئاسات الثلاث ووزير الداخلية…، ما يلي:
“الاعتقالات
وصلتنا معلومات من أحد المعتقلين الذين تم إطلاق حريتهم وسراحهم من الذين تم القاء القبض عليهم في التظاهرات الاسبوع الماضي بعد 1-10-2019، بوجود نحو 150 شاباً من المتظاهرين في محافظة ذي قار محتجزون حاليا في قاعدة الامام علي (10 كم عن مركز المحافظة) وقد تم اطلاق حرية وسراح 52 منهم بكفالات ثقيلة جدا تبلغ قيم مبالغها 15 مليون دينار. كما انهم يجبرون بالتوقيع على تعهد بعدم التظاهر، في نفس الوقت ما زال هناك الآن عدد 98 معتقل يصعب الوصول لهم او معرفة مصيرهم. علما ان من قام باعتقالهم ((لواء الاسد في جهاز مكافحة الارهاب)) خلال التظاهرات الاخيرة.
الافادات
وهناك امر في غاية الخطورة الا وهو تحريف وتغيير سبب الاعتقال فتفرض توقيع افادات على المعتقلين باعتبارها ((تهم جنائية مثل تخريب المؤسسات والحرق والتكسير)) وهي امور غير صحيحة لان الاعتقال جرى خلال التظاهرات السلمية؛ لكن بعض المحققين يجبرون المعتقل الشاب على ارتكابه لهذه التهم خلال كتابة افادته.
التعذيب خلال التحقيق او الاعتقال
كما افاد أحد المعتقلين المطلق سراحه بأنه ومن معه قد تعرضوا للتعذيب بأساليب مختلفة حيث جرى التعذيب باستخدام العصي الكهربائية مع المعتقلين؛ واصبح البعض غير قادر على السير على قدميه بعد اطلاق حريته وسراحه.” (من نص بيان رئيس جمعية المواطنة لحقوق الانسان محمد حسن السلامي، صادر بتاريخ 09/10/2019).
منذ ان وصل الدكتاتور الجديد المدعو عادل عبد المهدي المنتفگي إلى رئاسة الحكومة، توقعت الشر وحذرت منه لطبيعة هذه الشخصية القلقة، المهزوزة، والهزيلة، وتقلباته الفكرية المستمرة، وخنوعه الكامل لرؤسائه وجشعه المالي، إضافة إلى انتمائه للشريحة العليا من فئة الإقطاعيين الظالمة والمستغلة في التعامل مع الفلاحين منذ العهد الملكي، ولم أتوقع منه الخير أبداً. وقد كتبت عن شخصية عادل عبد المهدي عدة مقالات حاولت فيه الإشارة إلى العواقب المتوقعة من اختياره، الذي يمكن ان يتنمر حين تكون السلطة بيديه وحين يكون سيده شخصية آمرة ومتحكمة دينياً مثل علي خامنئي، مرشد إيران والعراق والمستبد بأمره والذي يشارك في إشاعة الفوضى في منطقة الشرق الأوسط وفي الدول ذات الأكثرية المسلمة.
ان نضال الشبيبة المنتفضة لن توقفه الوعود الكاذبة التي أغدقها المستبدون، إذ كثيرا ما يلجأ إليها المستبدون والمشعوذون الدجالون لتجاوز مرحلة الخطر المحدقة بهم، وهم سرعان ما ينسون ما وعدوا به ” فكلام الليل يمحوه النهار!”.
كم أتمنى أن يرتفع صوت القوى الديمقراطية واليسارية أكثر فأكثر في العراق لا لفضح الزمر الحاكمة وأحزابها الإسلامية السياسية فحسب، بل والعمل مع الشبيبة والشعب لمواصلة النضال من أجل التغيير الفعلي وتحقيق المنشود الذي يطمح له شباب العراق من النساء والرجال. لقد بدأ الصوت الديمقراطي واليساريين يرتفع تدريجياً بعد خفوت مؤلم، فمتى سيمكننا سماعه بالعلو الذي تتحرك فيه انتفاضة الشعب التي لم تهدأ ولن تهدأ حتى لو قدر لها أن تقمع، ففي طريق الشعب نحو الحرية والديمقراطية والحياة الآمنة والكريمة صخر وشوك كثير وكثير جداً، لكنه سيسير ويسير ويطيح بكل الحكام الجائرين الذين تنكروا للشعب وإرادته ومصالحه وحقوقه طموحاته العادلة والمشروعة.