كلمة المقايضة تنتشر اليوم وبشكل واسع في الصحافة الأمريكية والعالمية، ولكنها ليست على ما تم في شمال سوريا، وحول شرق الفرات، ولا على خلفية تخلي إدارة ترمب عن الكرد، بل عن طلبه من رئيس أوكرانيا (فلاديمير زيلينسكي) من خلال مكالمة هاتفية جرت بينهما في 25 يوليو/ تموز الماضي، معلومات عن صفقات تجارية مشبوهة لأبن نائب رئيس أوباما (جو بايدن من مواليد 1942م) مرشح الرئاسة لعام 2020 والذي لربما سيكون منافسه الأشد، ليستخدمها ضمن حملته الانتخابية، ويلطخ بها سمعته. مثلما فعلها في الانتخابات السابقة مع هيلاري كلينتون ورسائلها الإلكترونية التي بشكل ما تمكنت روسيا من اختراق حسابها وسرقت الرسائل، وبها تم مساعدة ترمب في حملته الانتخابية، القضية التي لا تزال التحقيقات جارية حولها.
كان هذا الطلب (مقايضة من النوع الثقيل) مقابل إعادة النظر في قضية المساعدات العسكرية التي تقدر قيمتها بمبلغ 250 مليون دولار، وكان الكونغرس قد وافق على تقديمها لأوكرانيا، وأخرتها إدارة ترامب حتى منتصف سبتمبر/أيلول الحالي، وكانت ضمنها أسلحة ومساعدات لوجستية لربما كانت ستستخدمها في صراعها مع روسيا. شخصيات عدة متورطون في القضية بينهم عمدة نيويورك السابق ومحامي ترمب الحالي (رودي جولياني) وذلك من خلال الاتفاق بين الطرفين على أن يتصل الأخير بالرئيس والنائب العام الأوكراني ويشارك في الوقوف على “حقائق” التحقيقات بشأن عقود جو بايدن وابنه التجارية مع أوكرانيا. نشر البيت الأبيض تفريغا نصيا للمكالمة الهاتفية، تلقفها الإعلام وخاصة سي ن ن، وبدء التحقيق ضمن مجلس النواب.
أنفجر الحدث في الوسط الأمريكي العام والسياسي، إلى درجة طلبت فيها رئيسة الكونغرس (نانسي بيلوسي) من الحزب الديمقراطي، وبتأييد من بعض أقطاب الجمهوريين، محاكمة الرئيس تحت بند عزله في حال ثبتت عليه التهمة. وفي الوقت الذي لم يعد يجدي نفعا الرد المضاد، من قبل ترامب وأنصاره على أن نائب الرئيس السابق، جو بايدن، استغل سلطته للضغط على أوكرانيا لوقف تحقيق جنائي قد يورط ابنه هانتر بايدن، بدأت إدارته البحث عن سبل لإنقاذه، من الوسط الإعلامي والسياسي، علماً أن شعبيته لا تزال واسعة بين منتخبيه.
إلى هنا نرى القضية من ضمن مجريات الخلافات السياسية بين الجمهوريين والديمقراطيين، لكن عندما بدأ بعض أقطاب الجمهوريين في مجلس الشيوخ يبدون حيرة حول الفضيحة، وتحويل القضية إلى المحكمة العليا، أنتاب ترمب وإدارته رهبة، وبحثوا عن معوقات، للتعتيم، أو إيقاف التصعيد، فتوجهوا في البداية إلى إلهاء الإعلام بقضايا أكثر سخونة، داخليا وخارجيا، لتكف عن تغطية الحدث. وبالتالي حاولوا تحريف انتباه الشعب الأمريكي، وتحريك مشاعره، وخاصة العامة منهم والتي تنقصها المعرفة في السياسة الخارجية، إلا ما يبث لها الإعلام الداخلي، وما أقله.
استغلت الإدارة هذه الإشكالية وتحركت في الجانب العاطفي، (هنا لن نأتي على ما تم في الداخل الأمريكي بشكل مفصل، كقضية عقد اجتماع قمة الدول السبع في منتجعه بفلوريدا- دورال، مدعيا أنها ستكون بدون مقابل والتي أثارت ضجة سياسية وإعلامية كبيرة لا تزال مثارة) فأحيا ترمب مسألة إعادة أبنائهم وأزواجهم، أي الجنود الأمريكيين إلى تراب الوطن، وإخراجهم من المناطق الساخنة، ووقع الاختيار على شرق الفرات والقضية الكردية، ومقايضتها مع تركيا وروسيا، لعدة اعتبارات، رغم التأكيدات المتكررة من قبل كبار المسؤولين في وزارتي الخارجية والدفاع، على أن أمريكا لن تتخلى عن الكرد، لكن المعادلة انقلبت وحولوا الكرد من الحليف إلى الضحية:
1- لصغر حجم القضية مقارنة بما تحوم حولها من الصراعات.
2- أدركوا أن العملية ستخلق الضجة الكافية لجذب الإعلام الداخلي والخارجي على الأقل لفترة توقعوا أن تُهدأ قليلا قضية العزل في المحكمة الفيدرالية، وهنا تلاعبوا بعامل الزمن. وفعلا عاد ترمب وإدارته بعد أسبوعين من بيع شرق الفرات، والتخلي عن الكرد، بقوة إلى الساحتين السياسية والإعلامية، وأصبح وإدارته يواجهون الديمقراطيين بخطاب متمكن، على الأغلب ستساعده في حملته الانتخابية القادمة.
3- صغر حجم المصالح الأمريكية الاقتصادية والتي حتى ولو تضررت فلن تكون بقدر ما ستكون عليه فيما لو تم القيام بمثلها في منطقة من مناطق الخليج على سبيل المثال، وتبين لهم أن الخسارة ستكون أعلى من تقديراتهم، وهو ما حث ترمب على العدول عن إخلاء جميع الجنود إلى الاحتفاظ ب 300 جندي في منطقة رميلان النفطية، وتمت هذه بعد الاجتماع الأخير مع مجموعة من الجمهوريين بينهم السناتور ليندسي غراهام، الذي تخاذل عن مواقف السابق كمعارض للخروج من سوريا وضد عملية اجتياح تركيا للمنطقة الكردية.
4- قلة عدد الجنود الأمريكيين المرابطين هناك، مقارنة بتواجدهم في مناطق العالم الأخرى الساخنة، حيث سهولة وسرعة إجلاءهم عن شرق الفرات دون أضرار.
5- سهولة الرد على حجج الطرف الكردي، والذي لم يكن قد تم التحالف معهم على ركيزة سياسية، مثلما هي مع تركيا حليفهم في الناتو، بينهم منطق الكل للواحد والواحد للكل، وهنا تكمن عدم التكافؤ بين الحليفين، في الاعتبارات السياسية والعسكرية والاقتصادية.
6- وهنا لا يمكن نسيان مصالحه الاقتصادية الشخصية، ففي عدة مدن تركية تنتشر عقاراته التجارية، المدارة من قبل أولاده، اللذين هما على تواصل دائم مع إدارة أردوغان، يستقبلونهم على المستويات الدبلوماسية من الدرجة الأولى، كما وكانت لترمب سابقاً علاقات شخصية مع قادتها حتى قبل أن يدخل البيت الأبيض.
وقد قدم العديد من المحللين السياسيين أراء حول ما تم بين الأطراف الثلاثة المعنية بقضية المنطقة الكردية، روسيا وأمريكا وتركيا، ويذكر أن:
1- أردوغان قدم خدمة لترمب بتصعيد عملية غزو جنوب غربي كردستان، وإثارة قضية اللاجئين وإعادتهم، وقضية حماية حدودها من القوات الكردية، المتهمة بالإرهاب، لإعطاء حجة لترمب أمام الأمريكيين المعارضين، عن سبب غضه الطرف عن الحملة، وهذا ما تم وبسهولة، بعدما كانت تواجه أردوغان صعوبة حتى في تسيير دوريات مشتركة على أطراف مدينة منبج، وكثيرا ما تم إبلاغ الجانب التركي على أن شرق الفرات خط أحمر.
2- أصبح الوقت مناسبا لترمب ليتخلى عن شرق الفرات لبوتين، بشكل غير مباشر عن طريق أردوغان، كرد جميل لخدماته في حملته الانتخابية، علما أنه قدمها لروسيا قبل سنتين يوم أراد سحب قواته من سوريا، وتوقف بعدما واجه معارضة حادة من وزارتيه الخارجية والدفاع، وهنا حصلت روسيا على ما كانت تريد، وحصل ترمب على الضجة الإعلامية الضرورية التي رافقتها، وتبينت على أن أمريكا خسرت أمام روسيا في سوريا.
وهكذا كانت كل أطراف المقايضة متكاملة، وتكاد أن تنتهي بنجاح، على حساب الدم الكردي، والقضية الكردية…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
21/10/2019م