تدمير القوى الكردية للدولة الإسلامية المزعومة هدمت الكثير من مصالح مؤسسي داعش. وتصفية قياداتها منذ هجومها على مدينة كوباني الأسطورة، وعلى مشارفها، وفي الرقة وعلى أطراف أخر معاقلها باغوز، أو في مناطق شمال العراق، طعنت في القوى المستفيدة منها والتي تعادي الكرد، وخاصة المحتلة لكردستان. فلا غرابة أن نكون نحن الكرد في الواجهة وعلى مر التاريخ وأكثر الشعوب حضوراً، عندما نخدم الأخرين، ويعتم علينا عندما تحضر قضتينا القومية وتثار إشكاليات احتلال جغرافيتنا، فلا حلول وسطية، لنا صيت تقابلها عداوة لا حدود لها من جهات عديدة، فكلما خدمنا البشرية تأذينا كأمة، والتاريخ يشهد على هذا، فهل نحن سذج، أم الأخرين خبثاء في السياسية، والسياسة تعدم الضمائر؟
غياب هذه المنظمة عن الساحة كانت مؤلمة للعديد من الدول وبينها الكبرى، تصاعدت مع تزايد حصولنا على بعض المكاسب، رغم صعودها وانتشارها كمنظمة إجرامية وكارثية جودها على شعوب المنطقة، دون السلطات، والأنظمة المهيمنة. لذلك فهناك أنظمة تحاول أنعاشها من غيبوبتها، وتطعيمها بإسماء جديدة وتغيير الواجهة، فالتمثيلية واضحة؛ من خلال تجميع البقية الباقية من خلاياها العابثة في المناطق العديدة، ومن بينها جغرافية سوريا والعراق.
من بينها نظام أئمة ولاية الفقيه وحاجته إليها لمواجهة ما يجري الآن في شوارع المدن العراقية، والحصار الأمريكي. والسلطة السورية لتقارن ذاتها بجرائمهم أمام العالم الحضاري، لنفس السبب لم تعترض عليها يوما ما منظمات المعارضة السورية المسلحة.
ولكن أهمها وأكثرها دعما لهم هي السلطة التركية، الإسلامية الراديكالية، والتي جمعت فلولها الهاربة من سوريا والعراق، تدربهم وتدعمهم لوجستيا، وتنظمهم تحت أسماء مختلفة، كالجيش الوطني السوري المتشكل حديثا وجيش السلطان مراد، أو العمشات، أو الجيش السوري الحر، وغيرها من الأسماء، وجميعهم من فلول داعش والقوى التكفيرية الأخرى الهاربة من سوريا إلى حضانة السلطة التركية، وهي الآن توجههم إلى المنطقة الكردية، شرق الفرات، وقبلها زرعتهم في عفرين. هذه المنظمات خالية من الشرائح الوطنية، لعدة أسباب؛ منها:
1- الوطني لا يبيع وطنه للمغتصب.
2- الوطني لا يعتدي على أبناء الوطن إرضاء للمعتدي.
3- الوطني لا يعيد تجارب سلطة بشار الأسد الإجرامية من حيث التبعية للخارج وقتل المدنيين والشعب السوري الآمن.
تركيا بقدر ما تضررت من ضمور هذه المنظمة، استفادت من فلولها، وعلى بعدين: لأنها كانت حربتها في محاولات القضاء على القضية الكردية، وخسارتها لإحدى أهم مبررات هيمنتها على المنطقة. بعدما كسبت من وجودها بأكثر من اتجاه، من تهديد الكرد بهم بشكل غير مباشر، وتهديد أوروبا بالمهاجرين، وفي الواقع كان يقصد إرسال مجموعات الإرهابيين ضمنهم، وكذلك تهديد أمريكا والمنطقة من خلال فتح مطاراتها وموانئها لهم بالتدفق متى ما أرادت. والآن تركيا تسخر المنظمة ذاتها والمشابهة لها للهيمنة على شرق الفرات، وتحتل كل شمال حلب عن طريق ترسيخ مجموعاتها في عفرين، وقبلها اجتاحت مدينتي الباب وجرابلس تحت حجة تحريرها دون أن يسقط داعشي واحد قتيلا، ولا جندي تركي، والبشرية تعلم مدى وحشية القوتين، العسكرية التركية وتاريخها الأكثر من معروف في عالم الإجرام، الجيش الذي يحمل إرثاً أسوداً يعود إلى ما قبل الإمبراطورية العثمانية، ولا تقل بشاعة عن سمعة مجرمي داعش ومجموعاتها الإرهابية المتجاوزة كل الأبعاد، الذين اختيروا بدقة من قبل أولياء أمر المنظمة.
فلا عجب من تصريحات الكراهية والحقد العديدة ضد الكرد، ولا غرابة أن تتكرر المؤامرات ضدهم وخاصة من عرابي داعش، فهم والعالم يعلم، أن الشعب الكردي هو الوحيد الذي سخر كل طاقاته للقضاء عليها، وناضل بجهد منقطع النظير لتدمير الدولة الإسلامية المزعومة، ليست لأن القضية الكردية محصورة بها أو معها أو على عتبات بقائها أو زوالها تقف تستمر أو تتجمد، بل لأنه الوباء المعدي الذي بثته الأنظمة المعادية لقضيتنا، وكان لا بد من اجتثاثه، وإنقاذ المجتمعات منه، وهي تدرك أن قضية الشعب الكردي تتجاوز محيط منظمة إرهابية، بل هي على مقاس جميع الدول المعادية والمحتلة لكردستان.
لا شك الأمة الكردية تطمح إلى السلام، وتنبذ العنف، لكن هناك من يكرهوننا عليها، فبقدر ما تآذت منها أمتنا بكل أطيافها، ناضلت من أجل تدميرها كخطوة دفاعية عن الذات وليس حبا بالقتل أو إلغاء الأخر، وبقدر ما تم توجيهها نحو شعبنا من قبل الأنظمة المحتلة لكردستان، ضحت حركتنا بأبنائها لإنقاذ الأمة من شرورها، وفي الواقع من شرور القوى المتربصة بكردستان، الذين وضعوا القضية الكردية في موازين الوجود أو عدمه مع المنظمة، كأحد أهم مخططاتهم العدائية ضد قضيتنا، على الأقل في هذه المرحلة، ومن المؤسف فإن البيت الأبيض ومثلها الكرملين يتناسون هذه الحقيقة، ليس لأنهم لا يدركونها بل لا يودون معالجة الصراع الدائر في المنطقة على هذا البعد، لئلا تتآذى مصالحهم مع الدول الإقليمية.
والأكثر ألما وربما ليست غرابة، هي مواقف القوتين المذكورتين ولربما أوروبا إلى حد ما، الذين حصروا نضال شعبنا وحراكنا في عمليات القضاء على الإرهاب في المنطقة، فرغم ما قدمه الكرد من خدمة لهم وللعالم أجمع، وفي الوقت الذي كانت تظهر هذه الدول عدائها لهذه المنظمات في الإعلام، وتقديم كل المساعدات والخدمات الإستراتيجية للكرد في حروبها للقضاء عليها، تخلت عنهم في أحد أهم مراحل الصراع، وهي القضاء على الفكر الذي خلفوه، ومخططات الدول الإقليمية والتي لا تزال تجاهد لإعادتها. علما أن إستراتيجيي الدول الكبرى يدركون تماما أن هذه المنظمات وخاصة داعش بإمكانها أن تعود إلى الساحة بكل سهولة، لعدة أسباب، منها:
1- أن القوى التي تدعمها لا تزال في حاجة إليها، ومنها تركيا وقطر وإيران وسلطة بشار الأسد، وجلهم يحالون أحيائها، بشكل منفرد أو جمعي.
2- أجهزتها الدول الكبرى الفضائية ترى كيف أن خلاياها الإرهابية لا تزال تجول المنطقة.
3- تدرك أن تصفية القيادات المزروعة من قبل القوى الإقليمية المستفيدة منها لن تسد الفراغ الحاصل بعد عملية التخلي عن الكرد، ونحن هنا نعني الأمريكيين والروس معاً.
وعلى الأغلب كان لضغط الإستراتيجيين الأمريكيين، المدركين لمدى فداحة الكارثة الناتجة من تخلي ترمب عن القوة الكردية التي دمرت الدولة الإسلامية؛ تأثير على قرار الانسحاب من شرق الفرات، بعدما وضحوا سلبياتها على مصالح أمريكا وسمعتها، والتي قد تؤدي إلى احتمالية عودة داعش، بمساعدة دول كتركيا وإيران، وبينوا مدى تأثير التخلي عن حليفهم الكرد على حملته الانتخابية سلبا، ويعتقد أنهم تمكنوا من إقناع الرئيس ترمب بإعادة النظر في قرار السحب، وإرجاع الأمريكيين إلى شرق الفرات للبقاء طويلا، مع ذلك فمخلفات التخلي كانت كارثية على الشعب الكردي وقضيته في سوريا، ومؤثرة على الشارع الأمريكي أيضاً، خاصة عندما يربط الرئيس دونالد ترمب جل تحالفه مع الكرد بإرهاب داعش، وبمنابع النفط، متناسيا القضية التي يقول أنهم يقاتلون من أجلها على مدى قرون عديدة، وبسردية جاهل في التاريخ.
وللتخلص من أثار هذه الكارثة، وسابقاتها، ككارثة عفرين ومجرياتها، لا بد من العمل على التخلص من سذاجتنا، والأساليب عديدة وأهمها وأسهلها هي إجراء حوارات كردية -كردية ومنها موسعة لدراسة كل هذه الإشكاليات، فالظروف التي نمر بها، كشعب كردي وكردستاني (الصفة التي تنغص بشار الأسد وشرائح من المعارضة السورية) وتمر بها القوى السورية الوطنية، المعزولة من كل المحافل الدولية الخاصة بمستقبل سوريا، تدفع بنا جميعا إلى تناسي خلافاتنا لبعض الوقت والعمل معا، على الأقل لنلتقي على النقاط التي تتقاطع عليها مصلحة أمتنا.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
30/10/2019م