يتعمّق مأزق السلطات العراقية أكثر فأكثر في مواجهتها للحركة الاحتجاجية التي انتقلت إلى طور تنظيم الاعتصامات وإغلاق الطرق والجسور في محاولة لشلّ عمل المؤسسات والدورة الاقتصادية، وذلك بعد تبني طيفٌ واسع من المحتجين لخيار الإضراب العام والعصيان المدني، كوسيلة لإرغام الحكم على الاستجابة لمطالبهم المشروعة.
ويبدو هذا الخيار مؤلماً وضاغطاً على عصب الاقتصاد العراقي الحسّاس المعتمد بشكل شبه كامل على النفط، ويمثل، تالياً، خطراً فعلياً على النظام السياسي الموصوف بالفساد. وقال خبراء إنّ العراق لا يتحمّل تعطيلاً يمتدّ لأسابيع لمؤسساته الاقتصادية نظراً لظروفه المالية الصعبة وضعف اقتصاده، واعتماده الكبير على استيراد مختلف حاجياته الأساسية من الخارج.
ومع تصاعد الاحتجاجات واتساع رقعتها، ووقوع المئات من القتلى وآلاف الجرحى في صفوف المحتجين، تصاعدت سقوف مطالبهم ولم تعد «حزم الإصلاح الحكومية والبرلمانية» مقنعة بالنسبة إليهم، بل بات مطلبهم الرئيسي هو «الإطاحة بالطبقة السياسية التي تسيّدت المشهد السياسي منذ عام 2003».
غضب الشارع
وقد انطلقت الاحتجاجات من أوساط الشباب حصراً، ومن قاع الأحياء الشيعية الفقيرة في المناطق ذات الغالبية الشيعية في بغداد وباقي محافظات الوسط والجنوب، وهي القاعدة الشعبية والانتخابية التي كانت تعتمد عليها أحزاب الغالبية الحاكمة. ما يعني أنّ الجيل الجديد من أبناء هذه المناطق، فقد ثقته بالطبقة السياسية الحاكمة، لأنها لم تحقق ما كان ينتظره من «عيش كريم وفرص عمل متساوية وعدالة اجتماعية وحكم رشيد»، فيما يتركّز الثراء الفاحش في يد الحكام والفئة المسيطرة المحيطة بهم، وخصوصاً أولئك الذين كانوا يعيشون خارج العراق وجاؤوا إليه مع الاحتلال الأميركي عام 2003.
والحال، فمنذ سقوط نظام صدام حسين وحتى الآن، فشلت الحكومات المتعاقبة في تحقيق المطالب الأساسية للمواطن العراقي، الذي يعاني من الفقر والحرمان وضعف البنية التحتية وتراجع مستوى الخدمات الأساسية؛ مثل التعليم والصحة وباقي القطاعات الحيوية الأخرى، على رغم أنّ العراق بلدٌ غنيّ بموارده وثرواته. الأمر الذي وسّع من فجوة انعدام الثقة بين الشعب والسلطة الحاكمة، وخصوصاً بعدما كشفت هذه السلطة عن طبيعتها البنيوية الرثة، والأسس المستندة إليها من محاصصة طائفية وعرقية ومليشيات مسلحة، وغياب القانون والفساد المستشري الذي شمل جميع مؤسسات الدولة ومرافقها.
وثمة من يختصر الأمر ويقول: «ببساطة متناهية غاب الوطن في كلّ ما جرى من أحداث في العراق منذ عام 2003، وحلّت مكانه محاصصة مذهبية واثنية أريد له أن تكون عنواناً لما سمي بالعراق الجديد».
استعادة العراق
وعلى ذلك، فقد رفض شباب «نازل آخذ حقي» الطبقة السياسية برمتها، وأعلنوا بشكل واضح وجليّ أن استعادة الوطن والعراق هو شعارهم، وهو ما اختصره «هاشتاغ» بسيط على مواقع التواصل الاجتماعي، يقول «نريد وطن». ويمثل هؤلاء الشباب عموم الشعب العراقي، بمختلف فئاته ومذاهبه وأديانه وقومياته وعقائده، رافضين ارتهان العراق لأجندات إقليمية أو دولية، أو اعتباره منطقة نفوذ لهذه الجهة أو تلك، وخاصة بعد سيطرة المليشيات المدعومة من تلك الجهات على جميع أنحاء البلاد.
ولذلك، فقد ردّد المتظاهرون هتافاتهم التي تؤكد على أنّ «بغداد حرّة حرة»، وقاموا في عدة مدن بحرق مقرات بعض الأحزاب والمنظمات السياسية التي يتهمونها بالتبعية للخارج. كما غيّروا أسماء شوارع في النجف وكربلاء والديوانية من مسميات توحي بالطائفية إلى أخرى وطنية عراقية. وبخطوة رمزية لكنها ذات دلالة كبيرة أعلنوا «دفن الطائفية في ساحة التحرير».
وإذا كانت لم تخرج مظاهرات في المحافظات الغربية (ذات الغالبية السنّية) خشية أن تقع في موقع الاتهام بالإرهاب، أو أن يجري اختطافها، كما حصل في مظاهرات عام 2013 التي مهّدت لعودة تنظيم «داعش»، إلا أنه سجّلت مساهمات من بعض تلك المحافظات بإرسال مواد غذائية وطبية إلى المتظاهرين في ساحة التحرير.
وفي شمال العراق، أصدرت مجموعة من منظمات المجتمع المدني في إقليم كردستان (4/11)، بياناً دانت فيه بقوة «القمع الوحشي» ضد المتظاهرين. وطالبت الحكومة العراقية، بـ«الإيفاء بالتزاماتها في مجال حقوق الإنسان، وتقديم المسؤولين عن القمع للعدالة، وإطلاق سراح المعتقلين من المتظاهرين دون قيد أو شرط، ورفع الحظر عن خدمة الإنترنت». وكان أكثر من مائة مثقف وناشط وأكاديمي وسياسي كردي أصدروا قبل ذلك بياناً تضامنياً مع المتظاهرين.