كثيراً ما أشير، ومنذ سنوات، بأن العراق لم يشهد منذ سقوط الدكتاتورية الغاشمة عملية سياسية فعلية نظيفة وجادة يشترك فيها الشعب بحيوية ومسؤولية وإدراك حقيقي لما يمكن أن تؤول إليه. وكثيراً ما أكُد بأن ما يجري في العراق ليس بعملية سياسية، بل عمليات تقاسم مخزٍ للسلطات الثلاث ×التنفيذية (رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء) والتشريعية (مجلس النواب) والقضاء (مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية والادعاء العام) على وفق محاصصات طائفية وأثنية في إطار دولة هشة ونظام سياسي طائفي وفاسد ومتخلف يقاد من أحزاب إسلامية شيعية متخلفة ورجعية وفاسدة، يتعارض وجودها اصلاً مع مضمون الدستور العراقي، وبمساومة غير مقبولة وغير معقولة مع الأحزاب الإسلامية السنية ومع الأحزاب الكردية. وعلى امتداد الفترة الواقعة بين 2005 حتى الوقت الحاضر بشكل خاص، هبّ الشعب أكثر من مرة رافضاً الاحتلال والعملية السياسية الجائرة ومناضلاً من أجل التغيير الجذري للنظام السياسي الطائفي. وقد تجلى ذلك بوضوح تام في الهبَّة الشعبية المدنية والديمقراطية في عام 2011 أثناء تولي نوري المالكي رئاسة الوزراء لدورة ثانية وعمد إلى استخدام كل الوسائل الدنيئة والمتعارضة مع الدستور العراقي لإخمادها بما في ذلك اتهامها بالبعثية والإرهاب واعتقال النشطاء وتعذيبهم وقتل الكثير من الديمقراطيين والمنتفضين ضد الحكم الفاسد. ولم يكن ميزان القوى مناسباً لتغيير الأوضاع حينذاك. فأمكن تجاوز الأزمة السياسية بمساومات ضد مصالح الشعب ذاته حتى أدخَلَ نوري المالكي العراق في النفق المظلم، في نفق ومستنقع الدواعش وإجرامهم والإبادة الجماعية وسوق النخاسة الإسلامي!!! ورغم كل ما حصل عملت بعض القوى الديمقراطية من منطلق وجود عملية سياسية يراد تصحيحها، ولم يكن هذا التصحيح ممكناً. واقتنع الكثير من الشبيبة العراقية التي كان وعيها ينمو ويتعمق ويكتشف دوره الفاعل في إضرابات ونشاطات مدنية واحتجاجات مستمرة. وبعد أن يئس من أي دور فاعل وكبير للقوى السياسية الديمقراطية، وبعد أن أدرك بأن النظام القائم لم يعد غير عدو حاقد على الشعب وإرادته ومصالحه وخاضع لإرادة أجنبية مباشرة إيرانية لا يريد الفكاك منها بأي حال، تفجر فيه الغضب العادل والروح الثورية الخلاقة مقترنةً بوعي عميق لما يريده لهذا الشعب المستباح والوطن الجريح. انتفض بعزم وإصرار فجوبه بالحديد والنار، بقتل المتظاهرين حتى بلغ عددهم حسب الإحصاء الرسمي 149 شهيداً وستة ألاف جريح ومعوق ومئات من المعتقلين والمختطفين والمعذبين. وإكراماً للإمام الحسين بن علي بن ابي طالب وصحبه الكرام أوقف المنتفضون تظاهراتهم لحين انتهاء الأربعينية، ليبدأ في 25/10/2019. وبدأ بعزم أشد ووعي أعمق وإصرار لا يلين. فجوبه من جديد بالحديد والنار بالقتل الجماعي في كل المدن المنتفضة وزاد عدد القتل إلى 600 قتيل و16 ألف جريح والاف المعتقلين والمختطفين والمغدورين. فهل بعد كل هذا يراد منه أن يساوم مع من أصدر الأوامر باستخدام العنف إلى حد استخدام الرصاص الحي والغاز القاتل والرصاص المطاطي بشكل مباشر إلى رؤوس وصدور المتظاهرين؟ من العبث أن تحاول القوى الحاكمة أن تخدع الشعب بتنازلات من باب تقديم قانون للانتخابات أسوأ من سابقه أو تعديل الحكومة وعلى رأسها من أصدر أوامر القتل بحق المتظاهرين. هل يصدق هذا بعد هذه المعاناة الهائلة للشبيبة المقدامة، للأجيال التي لا تعرف الخنوع والركوع والقبول بأنصاف الحلول. إنهم من جيل جديد لن تخدعه الاعيب الحكم السياسي الطائفي الفاسد والتابع، لن ينفع معه قتل المتظاهرين، فهم يعرفون جيداً بأنهم يجابهون وحوشاً قتلة لا يستحون من إلههم الذي يدعون أنهم يعبدوه، فهم عبيد المال والسحت الحرام وسرقة لقمة العيش من أفواه اليتامى والأرامل والفقراء والمعوزين والعاطلين عن العمل، إنهم من نهب وفرط بما يزيد عن ألف مليار دولار أمريكي، كان في مقدور هذا المبلغ تحويل العراق إلى بلد حضاري وصناعي وزراعي متقدم. ولكنهم حولوا العراق إلى بلد رث مليء بالنفايات وبهم كقوى رثة وفاسدة.
في معمعان الانتفاضة التشرينية (2019) المقدامة تجليا موقفان متعارضان حين تزاحم المنتفضون فتساقطت قلائد الحرائر والعقود والساعات والنقود والوثائق، وحين هدأ الموقف جُمعت كل تلك المفقودات لتعاد الى أصحابها دون ان تسرق قطعة نقد واحدة أو حلية ذهبية واحدة، فعبر المنتفضون عن نبلهم والقضية العادلة التي تستحثهم للتظاهر وجوهرهم الرصين، رغم أوضاع أغلبهم الاقتصادية الصعبة. كان هذا هو الموقف الأول الذي عكس روعة الإنسان العراقي عند المحن والتضامن. وحين ارتفعت أصوات المنتفضين لتصل الى عنان السماء، وتبين إن في سمع الحكام الطائفيين الفاسدين وقر كامل، برز الموقف الثاني حيث انطلق وحوش الغابة بأمر من الرئيس المتوحش والمفترس للحقوق، فوجهوا القناصة نيران بنادقهم ورصاصهم الحي والمطاطي والصواعق والغاز القاتل وخراطيم المياه صوب تلك الجموع الحاشدة والمتزاحمة، فسقط شهداء أبرار وجرح من جرح، ونجا منهم من عاود المسيرة والزحف العظيم الى أمام، فعبَّر المهاجمون الشرسون، الذين جرى اختيارهم بعناية لمماسة القتل المباشر، عن نذالة في الخُلق والسيرة والطباع ووحشية بلا حدود، والتوقع بقتامة في مستقبلهم ومستقبل من اصدر لهذه الوحوش المفترسة الأوامر بالقتل والتشريد والتعذيب والاختطاف والتغييب. نحن اليوم أمام النبل الشعبي مقابل النذالة الحكومية، أمام شجاعة المنتفضين مقابل جبن المسؤولين، أمام نبل البذل في النفس والنفيس لصالح الشعب والوطن مقابل بؤس السارق الرخيص والجالس على خازوق الحكم والجور!
فالمتظاهرون يريدون إسقاط هذه العملية الفاسدة التي تسمى كذباً بـ “العملية السياسية!”، إسقاط النظام السياسي الطائفي الفاسد والخاضع للأجنبي، إسقاط كل رموز الفساد والخيانة الوطنية ومن سلم الوطن للدواعش مرة، ويعمل على استمرار بقائها تابعة كشبه مستعمرة لإيران مرة أخرى.
الشبيبة العراقي المنتفضة ترفض الخضوع لأي أجنبي يسعى للتدخل في شؤون العراق، يرفض المحتل الأمريكي الأسبق والمحتل الإيراني الجديد. ترفض الأحزاب الإسلامية السياسية المتعارض وجودها مع نصوص الدستور الحالي. ترفض المساومة فـ”مسحو بوزكم” يامن أنهكتم الشعب 16 عاماً من أي مساومة بأنصاف الحلول.
ساحة التحرير طرحت خطة طريق لخلاص العراق منكم ومن نظامكم الطائفي البائس والفاسد. وقد اسمعكم المنتفضون إياها عبر صرخاتهم المدوية، عبر شعاراتهم المرفوعة في كل ساحات وشوارع العراق في الوسط والجنوب وبغداد، عبر الشهداء الذين سقطوا في سوح النضال النبيل، عبر جراحهم وجرحاهم ومعوقيهم. إن ممثلة الأمم المتحدة (يونامي) في العراق السيدة جنين هينس-بلاسخارت ينبغي لها أن تعرف ما يريد الشعب، لا أن تسعى إلى أنصاف الحلول وإنقاذ الفاسدين والمفسدين من الحكام وأحزابهم من العقاب، فالشعب “نزل إلى الساحات والشوارع ليأخذ حقه كاملاً غير منقوصٍ”، وعلى الأمم المتحدة أن تعرف ذلك ولا تحرفه. فدم الشهداء يصرخ في وجوه الجميع لا مجال للمساومة مع الحكام الطائفيين الفاسدين القتلة واللصوص والجبناء!!!