لن أعود إلى الوراء لأتابع مواقف المرجعيات الشيعية في النجف، لاسيما مرجعية أية الله العظمى السيد علي السيستاني، وهي معروفة في تأييدها للأحزاب الإسلامية السياسية، التي أعيد تنظيمها في إيران، كما هو الحال مع حزب الدعوة الإسلامية، أو تلك التي أسست أصلاً في إيران، كما هو حال حزب المجلس الإسلامي الأعلى في العراق، ومن ثم ما نتج عنه من حزب جديد هو “الحكمة“، الذي يقوده عمار الحكيم، والمؤيد لإيران وسياساتها في العراق، ولن أعود للتذكير باستعجال المرجعية وإصرارها على إصدار الدستور العراق الأعرج وإجراء انتخابات سريعة دون المرور بفترة انتقال، وتسليم الولايات المتحدة الأمريكية السلطة للأحزاب الإسلامية السياسية بمساومة وقحة مع إيران. كل هذا وغيره لن أعود إليه بتفاصيل واسعة، بل أركز الآن على ما يجري في هذه الأيام وعبر المرجعية ووكلاءها في النجف وكربلاء، وهما متهمان بالفساد أيضاً، على وفق ما نشر من تقارير موثقة بهذا الصدد لاسيما بشأن ما يحصل في المؤسسات الحسينية والعباسية في كربلاء وفي المؤسسات المماثلة لهما في النجف.
لقد أكدت المرجعية وجود فساد ووجود تمييز في العراق بين المواطنين. وطلبت من الحكومة تغيير الوضع بعد أن تردت الأوضاع جداً. ولم تصغ الأحزاب والقوى الحاكمة لخطاب الوكلاء. واشتد الوضع سوءاً من حيث المحاصصة الطائفية والفساد ونهب خيرات واموال الشعب لاسيما بعد اجتياح الموصل وعموم نينوى، إضافة إلى تفاقم التخلف في الخدمات والفقر والحرمان والبطالة. وحين لم يعد في مقدور الشبيبة العراقية تحمل المستنقع الذي دفع إليه العراق انتفضوا على الدولة الهشة والتابعة وعلى السلطات الثلاث التي زيفت إرادة المجتمع وسلبت حقوقه. فاستقبلت حكومة عادل عبد المهدي الطائفية المحاصصية الفاسدة مظاهرات الشبيبة بتشويه سمعتها والإساءة لها ثم استخدام الحديد والنار، فسقط في الجولة الأولى 149 شهيداً وستة ألاف جريح ومعوق. بهذه الجريمة البشعة فقدت الحكومة شرعيتها لتجاوزها الشرس والعدواني على الدستور العراقي وحقوق المواطن والمجتمع.
شجبت المرجعية ذلك بصوت الوكيل عبد لمهدي الكربلائي، وطالبت بالتحقيق. ولم يحصل عبر لجنة مستقلة، بل عبر لجنة حكومية زورت الحقائق كلها وسكت عن المجرمين الكبار الذين أصدروا الأوامر باستخدام العنف المفرط والرصاص الحي والمطاطي والغاز القاتل وخراطيم المياه. توقفت المظاهرات حتى انتهاء أربعينية الحسين احتراماً. ثم بدأت من جديد في جولة ثانية وبزخم أعظم وأوسع، وكان الموقف الحكومي أبشع من الفترة التي بدأت في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019، حيث سقط في الجولة الثانية المئات من الشهداء بالرصاص الحي وبالغازل القاتل الموجه مباشرة إلى رؤوس وصدور المتظاهرين. واحتجت المرجعية ولكن لم ينفع! ثم جاء حل أعرج من المرجعية باتفاقها مع ممثلة الأمم المتحدة في العراقي (يونامي) في منح من فقد شرعيته في الحكم ومن هو طائفي وفاسد بامتياز فرصة ثانية لإصلاح الوضع القائم. فهل يتوقع العراقيون والعراقيات إصلاحاُ من حكم وشخوص فاسدين ومفسدين؟
أثار هذا الموقف المتظاهرين كافة، ولكنه أثلج صدور النخب الفاسدة المشاركة في الحكم، الحكومة والأحزاب الإسلامية السياسية والمستفيدة من وجود عادل عبد المهدي على رأس الحكومة. إن محاولة المرجعية منح الحكومة القائمة الفاسدة فرصة إضافية ووقتاً زائداً لترتيب أمورها يثير كل الناس الشرفاء في العراق. وبهذا الموقف غير المقبول ابتعدت المرجعية الشيعية عن الشعب، عن المنتفضين، واصطفت مع الحكومة العراقية الدموية، بإعطائها فرصة جديدة في حكم البلاد لتحسين الأوضاع، وهي غير مستعدة لتحسين أوضاعها وأوضاع البلاد إطلاقاً، لأنها لا تريد ذلك وغير قادرة على ذلك، ولأن إيران لا تسمح لها بذلك، وهي لا تسمح حتى لأي وزير بتقديم استقالته. ومن يجرأ على ذلك سيختطف من داره أو من الشارع ويختفي كما اختفى مقتدى الصدر في طهران أو قم. أو كما اختطف مدير شرطة ياسر عبد الجبار. يبدو لي إن المرجعية قد حسمت أمرها إلى جانب الحكومة الفاسدة رغم قولها” إن لم تستجيبوا سيكون لنا موقف آخر!!!
بعد الاتفاق بين المرجعية ويونامي سقط المزيد من الشهداء والجرحى والمعوقين، وجرى اختطاف الكثير من النساء والرجال المسعفين، كما جرت محاولات اغتيال في الشارع. بعض الأجهزة الأمنية المختصة والميليشيات الطائفية المسلحة وقوى الحشد الشعبي الإيراني كلها تشكيلات تقوم باختطاف واعتقال المزيد من المنتفضين من الشوارع وفي الليل، ومع ذلك مستمرون في منح الحكومة الفرصة تلو الأخرى. خشية على مواقعكم والفوائد التي تجنى من وجود هذا النظام الفاسد والطائفي. إنكم تتراجعون عن المواقف الاجتماعية الإيجابية التي وقفتها المرجعيات في الأربعينيات من القرن الماضي إلى جانب الشعب وضد سياسات الحكومة التي لم تقتل حتى عشر هذا العدد من الشهداء الذين سقطوا في ستة أسابيع من عام 2019. تذكروا كم سقط من شهداء في وثبة كانون 1948 وانتفاضة تشرين 1952 وانتفاضة 1956 لقد كان عدد الشهداء الأبرار قليلاً ولكن سقطت حكومات، واليوم وصل عدد الشهداء حسب تقديرات مسؤولين بأكثر من 600 شهيد وأكثر من 16000 جريح ومعوق وتمنحون الحكومة فرصة إضافية!!! كم كنت أتمنى أن لا تتدخلوا في السياسة أصلا لتجنبوا أنفسكم غضب المزيد من أتباع المذهب الشيعي، ولكنكم تخليتم عن الموقف الذي ينبغي أن تتخذوه في الابتعاد عن شؤون الدولة والسياسة وتنشغلون بشؤون الدين والحياة الاجتماعية، ولكنكم تجاوزتم ذلك وتدخلتم في السياسة من أبوابها وشبابيكها، وعليكم الآن حصاد الموقف المبدئي للمنتفضين الذين برز لديهم بوضوح موقفكم المؤيد للحكومة وبالضد من موقف المنتفضين الذين لاقوا الأمرين على أيدي الحكومة الدموية التي خانت قسمها ووعودها بالتخلي عن المحاصصة الطائفية ومحاربة الفساد وتقديمهم إلى المحاكمة، ثم قامت بقتل المحتجين والمتظاهرين ضد السياسات المناهضة للشعب العراقي والمخلة باستقلال وسيادة البلاد.
النصيحة التي يمكن تقديمها للمرجعية الشيعية للتكفير عن مواقفها السابقة والاعتذار للشعب، هي أن تتخذ الآن الموقف المطلوب، أن تقف إلى جانب الشعب ولو لمرة واحدة وتتفق مع مطلب باستقالة الحكومة أو إقالتها وتغيير الواقع المزري القائم والنظام السياسي الدموي الراهن لقطع الطريق على القتلة لقتل المزيد من بنات وأبناء الشعب، من شبيبة العراق الوطنية المقدامة!