يوحنا دانيال .. ناقد سينمائي
مقالنا عن فلم .. 73 درجة مئوية .. للمخرج باز شمعون .. الاحد 11 آب/ أغسطس في جريدة القدس العربي اللندنية ..
الإيزيديون في : “73 درجة مئوية” ..
يعتبر المخرج السينمائي العراقي باز شمعون من أوائل الذين اهتموا بقضية الايزيديين في العراق. وهذا يتجلى في آخر وأطول أفلامه، الذي عمل عليه منذ عام 2007 إلى 2017، وجاء عنوانه 73 درجة في إشارة إلى عدد النكبات والمجازر التي تعرض لها الايزيديون في تاريخهم الطويل. هذه الاثنية المسالمة التي تشترك مع الاكراد في اللغة وتختلف في الدين، لكن بعضهم يرفضون اعتبارهم من الاكراد .. رغم أن الكثير من أفراد الطائفة أعضاء في الأحزاب الكردية وفي قوات الپيشمرگة.
يأخذ فلم 73 درجة ثلاثة مسارات درامية، أكبرها وأهمها هو المسار الإيزيدي، ومسار ضحايا الإرهاب في العراق من الأطفال الايزيديين والشيعة والأكراد السنّة، وأخيرا هناك المسار الشخصي الآشوري المسيحي، الذي يتعلق بالمخرج باز وأبيه المناضل اليساري القديم دنخا شمعون، الذي نجت امه الحبلى من موت محقق في مجزرة الاشوريين الشهيرة في الثلاثينات من القرن الماضي في قرية سمّيل، بالتجائها إلى عائلة إيزيدية كما يرد على لسان الأب. وفي الفلم يتداخل المساران الأول والثاني سينمائيا بانسجام واحيانا بصعوبة نسبية، لكنهما يكملان بعضهما البعض في النهاية. وربما يصعب على المشاهد غير العراقي فهم المسار الآشوري الثالث، لأنه لا يبدو من صلب الأحداث المعاصرة الواردة في الفلم، لأن القضية الآشورية تعود الى الثلاثينات من القرن الماضي، مع المجازر التي ذكرناها سابقا. لكن المخرج باز يفسر الأمر، بأنه محاولة مشروعة لضمّ الهمّ المسيحي الآشوري إلى باقي الهموم في الفلم، لأن المسيحيين تمّ طردهم من مدنهم وقراهم التي احتلتها داعش، وهكذا يحاول المخرج تغطية جرائم الإرهاب والدواعش تجاه جميع مكونات المجتمع العراقي.
ويبدو المسار الإيزيدي رائعا ومتكاملا بحد ذاته، وكأنه يستحق أن يكون فلما منفصلا ومستقلا. وربما هذه كانت النية أصلا عند المخرج، ويشهد على ذلك عنوان الفلم وأحداثه أيضا. اذ يصور لنا باز الطقوس الايزيدية، والأماكن المقدسة عند الإيزيديين، ببراعة وجمال واحترام وفهم عميق. وللحق، هذه أول مرة أشاهد هذه الطقوس الجميلة العفوية من خلال الفلم. كما صور لنا غناؤهم الديني وأناشيدهم، وطقوس الحزن التي جرت في أعقاب عملية إرهابية كبيرة في عام 2007، ارتكبها متطرفون إسلاميون من اتباع الدولة الإسلامية في العراق، أدت إلى مقتل اكثر من 300 شخص وجرح ضعفهم من الإيزيديين الأبرياء. وأخيرا يصور لنا طقوس الزواج لإحدى الضحايا موضوع الفلم، وهي الفتاة آسيا كمال، التي صادفها باز وهي مصابة بالتفجير وقد فقدت العديد من أفراد عائلتها في 2007 ، ثم صادفها من جديد بعد تهجير الإيزيديين في 2014، وقد أصبحت شابة جميلة وتزوجت من ابن عمها.
وبالعودة الى أبطال الفلم؛ الأطفال آسيا الايزيدية وريّان الكردي وعلي الشيعي، وهم ضحايا أعمال العنف والارهاب، نجد انهم يعكسون انماطا تربوية وعقلية متوارثة ترفض الآخر وترفض بعضها البعض، وهذا ما نكتشفه عند تواجدهم مع بعضهم للعلاج في ألمانيا. لكن بعد اهتمام ورعاية كبيرة من شخص ايزيدي في منزله في ألمانيا، يبدأ الحاجز بينهم بالانهيار. وربما يعود سبب هذا السلوك الانعزالي، لأنهم أصلا لا يعرفون بوجود الآخر في المجتمع وفي الوطن. وإذا عرفوا بوجوده، فإن الآخر يتم تصويره كخصم أو مجرم أو عدو. يحاول باز بصبر، ان يصور معاناتهم من جراء اصاباتهم القاسية، إذ ان أحدهم فقد رجله بالكامل، والأخر فقد بصره ويده، لكن الإصابات تمتد إلى دواخلهم، بهيئة غضب وكراهية عمياء لكل شيء، خصوصا عند الولدين ريان وعلي، المتنافران دوما. وهذه اشارة رمزية واضحة، إلى دور الذكور في الصراعات والحروب الأهلية العنيفة في العراق، على عكس الإناث اللواتي يصبحن ضحايا وسبايا نتيجة هذه الحروب.
ورغم أن فلم 73 درجة في متنه ومعظمه فلم تسجيلي، يحاول نقل وقائع وحقائق عن الايزيديبن وحياتهم ومعاناتهم، وعن ضحايا الإرهاب والدواعش في العراق، لكنه لا يتوقف عند ذلك. إذ يبرز فيه خيط روائي واضح .. يشد المشاهد في حكاية البطلة آسيا، التي نراها في البداية تعاني من إصابات جسدية بسبب التفجير الارهابي الكبير، واصابات نفسية عميقة جراء فقدانها العديد من أفراد عائلتها. لكنها بعد سنوات النزوح نراها فتاة جميلة وقد تزوجت من ابن عمها الشاب، وقد شفيت من جراحها الجسدية والنفسية. ونفس الشيء يحصل في حكايتي ريان وعلي، إذ يصبح ريان عازفا وعاشقا للموسيقى، وعلي مقاتلا في الحشد الشعبي ضد داعش. ورغم قلة التفاصيل في حكايتيهما، فان الفلم يحاول أن يزرع الأمل بعد كل هذه المصائب. يقول باز أنه يصنع سينما حقيقية، تهتم بالإنسان أولا وبما يدور حوله من أحداث تؤثر على حياته ومصيره، لكن في النهاية السينما عليها أن تعرض بطولات الناس العاديين الحقيقيين. هذا المزج بين الوثائقي والروائي ممتع وصادق، وشاهدناه في أفلام وثائقية وروائية اخرى، ويحاول أن يشق طريقه سينمائيا. تمنيت لو ان مثل هذه الافلام تعرض في دور السينما والتلفزيون، ويشاهدها الجمهور