نشرت صحيفة نيويورك تايمز مؤخرا ونقلا عن موقع ذي إنترسبت الأمريكي، نسخة من وثائق إستخباراتية إيرانية تكشف مساعي إيران لتجنيد مخبرين (جواسيس) لها بالعراق بعد ” الإنسحاب” الأمريكي من البلاد عام 2011. وقد وردت في هذه الوثائق تفاصيل كثيرة عن التغلغل الإيراني بالعراق وعلى أعلى المستويات، ولم يقتصر تغلغل الإستخبارات الإيرانية بالعراق على جهة سياسية دون غيرها من تلك التي تتحكم بمفاصل الدولة. فعلاوة على تجنيد ساسة شيعة من الطراز الأوّل والذين بالحقيقة لا يحتاجون الى تجنيد، كونهم موالين لسلطة ولي الفقيه منذ أن كانو في إيران قبل الإحتلال الأمريكي وتمّ تجنيدهم العديد منهم هناك. فأن المخابرات الإيرانية نجحت في تجنيد ساسة سنّة أيضا وعلى مستويات مختلفة، وكذلك ساسة كورد رفيعي المستوى. وبغضّ النظر عن الأسماء وبالعودة الى المناصب التي يحتلها هؤلاء الساسة، فإننا نستطيع أن نلمس حجم الخراب الهائل الذي يشكله أمثال هؤلاء الساسة على البلاد وأمنها.
عدّة أسئلة علينا طرحها ونحن نتابع ما نشرته الصحيفة الأمريكية، وهل معظم الأسماء التي وردت في هذه الوثائق عملت لصالح الإستخبارات الإيرانية بعد الإنسحاب الأمريكي من العراق العام 2011 أم قبله؟ هل هناك قيادات دينية سياسية وميليشياوية وقبلية تجاوزتها الوثائق أو الصحيفة، ولماذا؟ هل هناك وثائق من جهات أخرى توضّح طبيعة العلاقة بين ساسة عراقيين وأجهزة إستخبارات دول جارة (عدا إيران) أو إقليمية أو دولية ومنها الولايات المتحدة الامريكية نفسها لم يحن وقت نشرها الآن؟
في الحقيقة فأنّ الوثائق المنشورة لم تأتي بأمر جديد الا في التفاصيل، فعلاقة من ورد ذكرهم في الوثائق مع السلطات الإيرانية ليست وليدة اليوم، بل تعود الى فترات سابقة وبالتحديد الى تلك الفترة التي كانت فيها المعارضة الإسلامية والكوردية، تتخذان من إيران قاعدة لهما في صراعهما مع النظام البعثي. ومن الطبيعي أنّ إيران حالها حال أية دولة أخرى لم تكن تقدم الدعم والمساعدات اللوجيستية لهما دون مقابل، كما ومن الغباء التصور من أنّ إيران لم تجنّد العشرات إن لم نقل المئات ممّن كانت تتوسم فيهم القدرة على تبوأ مناصب قيادية مستقبلا منهم وإن داخل تنظيماتهم السياسية حينما كانوا يعيشون فيها. وبالتالي فأنّ الوثائق المنشورة تشير الى أمرين، أولّهما وجود أسماء أخرى عديدة لم تنشرها الصحيفة خصوصا وأن تعداد الوثائق بلغ ما يقارب السبعمائة صفحة، والثاني هو “إعتقادها” أنّ من ذكرت أسمائهم أو العديد منهم على الأقل قد إرتبطت مع الإستخبارات الإيرانية بعد الإنسحاب الأمريكي من العراق!!
من خلال صراع القوى الإقليمية والدولية في العراق، فأنّ وجود مخبرين (جواسيس) من الطبقة السياسية يعملون لصالح دول أخرى غير إيران هو أمر بديهي، وهذا ما يعرفه الشارع العراقي حتّى دون وجود وثائق على أهميتها، بل أنّ هناك ساسة إعترفوا علنا من أنّهم يعملون لأكثر من جهاز إستخباراتي. والحرب الطائفية ونهج المحاصصة الذي دمّر البلد وهو ينفّذ أجندة دول إقليمية، فرض وللأسف الشديد واقعا لم يمرّ به بلد في المنطقة قبل العراق. فالقوميات والطوائف وهي تبتعد في ظل غياب الثقة بينها عن الفضاء الوطني كما خُطُّطَ لها ، أفرزت مجاميع من السياسيين كانت تحج الى العواصم الإقليمية ولازالت لطلب الدعم المالي والسياسي والإعلامي لأحزابها بحجّة دعم قومياتها وطوائفها، فهل هذه العواصم كانت تقدم خدماتها لهم بالمجّان؟ أم أنها حذت حذو إيران في تجنيد ساسة هذه القوميات والطوائف كمخبرين (جواسيس)؟
بغضّ النظر عن تجنيد الإستخبارات الإيرانية للشخصيّات السياسية المرموقة وذات التأثير الكبير على الساحة السياسية، وما قدّمته هذه الشخصيات لها من خدمات طيلة سنوات ما بعد الإحتلال لليوم. الا أنّ دولة كإيران بثقلها الإقليمي وعلاقاتها الواسعة مع العراق وخصوصا مع الأحزاب الشيعية ذات الثقل الأكبر في رسم سياسة البلد، ونظرتها المستقبلية للمنطقة والعراق كونه بوابته للتمدد من جهة، وحبله السرّي إقتصاديا وماليا وهي تعيش حالة مواجهة مستمرة مع أمريكا وتنوء من أثر الحصار الأمريكي عليها من جهة أخرى، يهمّها جدا إستقرار شكل الحكم الذي تتحكم هي فيه أي نظام المحاصصة الطائفية الأثنية.
أية تظاهرات واسعة كالتي يشهدها العراق اليوم تشكل ناقوس خطر كبير على نظام طهران، خصوصا وأنّ ما يجري بالعراق والمنطقة سيؤثر حتما على الأوضاع الداخلية فيها. وهذا ما لمسناه بعد تظاهرات الشعبين العراقي واللبناني ضد نظامي بلديهما الفاسدين واللذان يحضيان برعاية ودعم حكام طهران، والذي ترجمه الشارع الإيراني بمظاهرات صاخبة في الكثير من المدن الإيرانية بعد زيادة أسعار الوقود والتي قد تتحول الى نهضة شعبية ضد النظام فيها. وممّا لا شك فيه فأنّ دولة مثل إيران لثقلها ومصالحها كما ذكرنا قبل قليل تفكر في مواجهة مثل هذه الأحداث قبل وقوعها، أو العمل على أحتوائها وإنهائها من الداخل إن حدثت فجأة. ولكي تصل إيران لتنفيذ أهدافها ورغباتها هذه ونحن نتحدث عن تظاهرات شعبنا منذ العام 2011 والتي تُوجّت في الأول من تشرين/ أكتوبر الى إنتفاضة جماهيرية واسعة تنشد تغييرا حقيقيا بالبلاد وإخراجه من أزماته المستفحلة والتي تهدد المصالح الإيرانية من خلال تهديها للسلطة نفسها في الوقت نفسه، فأنها بحاجة الى عملاء من طراز غير طراز الساسة في المناصب السيادية او المرموقة والحساسة في أجهزة الجيش والشرطة والإستخبارات، عملاء لهم سطوة في الشارع العراقي وقادرين على تحريك جماهيرهم مثلما يشاؤون أي مثلما تشاء طهران. فهل نجحت طهران في تجنيد مثل هذه الشخصية والتي لم تشير إليها وثائق النيويورك تايمز، وما الدليل المنطقي لذلك؟
منذ إندلاع أول تظاهرات مطلبية شعبية بالعراق في شباط 2011، شعرت الحكومة الإيرانية بخطر مثل هذه التظاهرات وتطورها النوعي والكمي خصوصا وهي تعرف جيدا حجم الفساد الذي ينخر الدولة العراقية، وما سينتج عنه من غضب جماهيري قد ينفجر فجأة ويخرج عن نطاق السيطرة. لذا كان عليها تجنيد شخصية لها ثقلها في الشارع، شخصية تستطيع التغلغل داخل التظاهرات وحرف مساراتها للغلبة العددية له أو للتيار الذي يمثّله، شخصية تقترب من المقدّس عند بسطاء الناس التي تتحرك بإشارة منه وتعود الى بيوتها بإشارة منه أيضا. فمن هي هذه الشخصية؟
لقد دخل التيار الصدري فجأة ودون سابق إنذار الى تظاهرات ساحة التحرير والمدن الأخرى في شباط 2011، وقدّم نفسه كمناهض للفساد وقتها، على الرغم من أن هذا التيار كان يهيمن على الوزارات الخدمية والتي إشتهرت كوزارات فاسدة كما غيرها، ما دعا الجماهير للتظاهر ضده أي الفساد. وطالب قائد هذا التيار أي مقتدى الصدر من المتظاهرين أن يعطوا الحكومة مهلة ستة أشهر لتنفيذ مطالبهم، لينسحب تياره من التظاهرات تاركا القوى المدنية والديموقراطية والنقابية والمهنية ومنظمات المجتمع المدني وحدها، بعد أن سرق منها شعاراتها وأفرغ تظاهراتها من زخمها التي كانت عليه قبل دخوله اليها أساسا. وإستمرّ الصدر في لعبة المشاركة في التظاهرات والإنسحاب منها حتى إنتفاضة شعبنا اليوم. وكان يترك الساحة العراقية الملتهبة ليحل ضيفا على حسن نصر الله في لبنان أو قاسم سليماني في طهران، وليتابع التظاهرات من على شاشات التلفزة!!
لقد رفع المنتفضون في ساحة التحرير وبقية سوح التحرير بالعراق شعار التغيير وليس شعار الإصلاح الذي يريد الصدر برفعه إستمرار مؤسسات الفساد بالبلد خصوصا وأنّ تياره وبغض النظر عن أسماءه (أحرار – سائرون) هم جزء من آلة الفساد المدمّرة والتي ينتفض شعبنا ضدها هذه الأيام، هذا الشعار أي التغيير الذي يقض مضاجع طهران ويهدد مصالحها. كما وأعلن المنتفضون في ساحة التحرير وغيرها من سوح التظاهر بمختلف المدن والبلدات العراقية رفضهم للأحزاب والتيارات السياسية، وقد هتفت الجماهير ضد التيار الصدري والصدر شخصيا في كل المدن المنتفضة.
الا أن الصدر المقيم اليوم في قم، وهو يرى حالة الغليان الشعبي ضد السلطة الإيرانية نتيجة تدخلاتها المباشرة بالشأن العراقي وآثارها الكارثية على الدولة والمجتمع، وفقدان إيران لمراكز قوتها جاخل المجتمع الشيعي خصوصا وأنّ الانتفاضة بدأت شيعية وتتركز في الوسط الشيعي. عاد وبأوامر من الإستخبارات الإيرانية ليحرّك ما تبقى له من جماهير وبأوامر مباشرة من قاسم سليماني الحاكم الفعلي للعراق، للدخول الى ساحات التحرير من أجل إنهاء إنتفاضة شعبنا. أنّ خطر مقتدى الصدر على إستمرار إنتفاضة شعبنا كبير جدا، وعلى المنتفضين إبعاد أو إحتواء أنصاره من خلال التركيز على علاقته بالسلطات الإيرانية وإقامته فيها رغم حالة الهيجان الشعبي المعادي للوجود الإيراني في بلادنا. إذ من غير المعقول أن يكون مقتدى الصدر مع التغيير الذي تنشده جماهير شعبنا وهو يعمل على تحريك أتباعه من طهران التي تستخدم كل السبل لإجهاض هذه الإنتفاضة التي شكّلت منعطفا هاما في حياة شعبنا ووطننا. كما وعلى المنتفضين الإصرار على خلو ساحات التظاهر والإعتصام من صور أية شخصيات دينية وسياسية، وليكن العلم العراقي والأناشيد الوطنية التي تمجد العراق وإنتفاضة الشباب التشرينية هي الوحيدة التي يرددها المتظاهرون والمعتصمون في مختلف مدن العراق.
قد تكون أسماء المخبرين ( الجواسيس) الذين وردت أسمائهم في الوثائق المنشورة كبيرة وتشغل مناصب حساسة جدا، وقد يكون تجنيدهم على درجة عالية من الأهمية لإستمرار الهيمنة الإيرانية على العراق. الا أنّ تجنيد مقتدى الصدر وإن بشكل غير مباشر ودون وعي منه يعتبر نجاحا بارزا لإيران بالعراق بل هي ضربة معلم كما يقول المصريون. فالصدر لا يعمل كبيدق إيراني يتحرك بأوامر قاسم سليماني فقط، بل هو اليوم حصان طروادة إيراني هدفه إنهاء إنتفاضة شعبنا لما تشكلها من خطر على السلطة التي هو جزء مهم من نسيجها الفاسد، وكذلك على نظام ولي الفقيه الذي يأتمر مقتدى الصدر ومعه طيف سياسي ديني “عراقي” واسع بأوامره للهيمنة على مقدرات وطننا وشعبنا.
زكي رضا
الدنمارك
21/11/2019