نشهد يومياً جمهرة ممن يُطلق عليهم بـ “المثقفين!” وهم في جهالة،لا يستفيدون من ثقافتهم وعاجزون عن استخدامها بوعي وإدراك لمغزى الأحداث الجارية وتحليلها واستخلاص النتائج منها. وهناك من يُطلق عليهم بـ “الأميين!”، وهم ليسوا في جهالة، من أبناء وبنات الشعب الذين يستفيدون من معارفهم وخبراتهم الشعبية على أفضل وجه لرؤية ووعي وتحليل الاحداث واتخاذ المواقف المناسبة بشأنها! ك. ح.
السؤال الذي يدور في بال الكثير من الناس: هل التحول الثوري الجاري في موقف الشبيبة العراقية جاء صدفة محضة، أم إنه عملية سيرورة وصيرورة ثورية مديدة ومعقدة، تفاعلت فيها عوامل سياسية واقتصادية _ اجتماعية وثقافية، إضافة إلى العيش في بيئة ملوثة أتت على الكثير من الولادات الجديدة أو شوهت أجسامهم وموت الكثير من كبار السن والعجزة وبروز واسع النطاق لأمراض سرطانية عند الأطفال؟ وهل التحول الثوري كان مفاجأة استثنائية، أم إنه التجسيد الواقعي والموضوعي لتراكم شديد وطويل الأمد لتلك العوامل المتفاعلة وتحولها في لحظة تاريخية استثنائية من حياة المجتمع، والشبيبة على وجه الخصوص، إلى حالة نوعية جديدة تقلب موازين القوى وتغير الكثير من العلاقات والأفعال، إذ ينشأ عنها وضع نفسي ومزاج ثوري جديد وروح خلاقة متميزة تختلف تماماً وكلية عما ساد قبل تلك اللحظة الاستثنائية في صفوف الشبيبة؟
في كتاب قيَّم بعنوان “الرثاثة في العراق إطلالة دولة.. رماد مجتمع”، صدر في عام 2015 ساهم في إنجاز دراساته الكثير من المثقفات والمثقفين العراقيين وتحرير السيد الدكتور فارس كمال نظمي، تضمنت تحليلات ومضامين الدراسات جملة من الإضاءات التي كانت تؤشر بوضوح إلى ما يمكن أن يحصل لمجتمع في دولة رجعية مشوهة ورثة، تقودها نخب اجتماعية فاسدة ومستهترة بكل القيم والمعايير الإنسانية وذات أيديولوجية دينية وطائفية شمولية تتسم بالرثاثة والشراسة والعدوانية والإقصائية.
لم يكن في بال النخب الحاكمة في السلطات الثلاث سوى مسألة واحدة ورئيسية لها هي: كيف يمكنها البقاء في السلطة لتتصرف بشكل مطلق بالحكم والموارد المالية والثروة الخامية، دون أن تكلف نفسها جهد بناء دولة ديمقراطية عقلانية تولي اهتمامها الأول لبناء مؤسسات الدولة الحديثة ورعاية المجتمع والاقتصاد الوطني والثقافة والبيئة، وتوفر الخدمات العامة والأساسية للمجتمع، باعتبارها جزءاً مباشراً من مهمات الدولة. كما لم تلحظ هذه النخب بأن المجتمع العراقي ينمو بسرعة وبمعدلات عالية سكانياً، إذ يدخل سنوياً المزيد من القوى العاملة الجديدة في خانة القوى القادرة على العمل، في وقت هي عاجزة عن إيجاد فرص للتراكم المتفاقم في عدد العاطلين من السنوات السابقة، سواء أكانوا من خريجي مختلف المراحل الدراسية، أم ممن لم يتسن لهم التعلم أساساً، بسب إهمالها الفعلي لعملية التنمية الاقتصادية، الصناعية منها والزراعية، وإقامة مشاريع الخدمات الإنتاجية والعامة بما يمكنها من تشغيل تلك الأيدي العاملة العاطلة المتراكمة. وتوجهت إلى توظيف الكثير من الناس في دوائر الدولة والخدمة العسكرية بحيث أشبعت ولم يعد في مقدورها توظيف آخرين. كما إن إهمالها للقطاعات الإنتاجية اقترن بتوجهها صوب استيراد السلع والخدمات، ومنها الكهرباء والغاز والمحروقات، من الدول المجاورة، لاسيما إيران وتركيا، التي كانت توفر للنخب الحاكمة والسماسرة الكثير الامتيازات المالية والسحت الحرام.
لقد عاشت الشبيبة العراقية التي يتراوح عمرها بين 30-50 سنة حالياً ظروفاً غاية في التعقيد، منها الاستبدادي الفاشي والحروب الداخلية والحروب الخارجية والحصار الاقتصادي والآم الحرمان وتفاقم أعداد اليتامى والأرامل والفقراء والبطالة الواسعة وتراجع عملية التنمية والخدمات العامة بسبب الحروب والحصار واستبداد النخبة البعثية. وبالتالي كان الوضع النفسي والاجتماعي في تأزم شديد وخانق، ولم تكن انتفاضة 1991 سوى التعبير الصعب عن الحالة النفسية والاجتماعية التي يعيش تحت وطأتها الإنسان العراقي. وحين حل العام 2003 كان العراق قد خسر أكثر من مليون ونصف المليون إنسان بين قتيل وجريح ومعوق وأسير لدى إيران. وكان في كل بيت عراقي عزاء وألم وجراح نفسية نازفة. ومن هنا جاء التهليل لإسقاط الدكتاتورية عبر الحرب الخارجية حين أعلنت أغلب القوى السياسية المعارضة في الخارج عجزها عن إسقاط الدكتاتورية البعثية ورغبتها في أخذ الولايات المتحدة على عاتقها إنجاز تلك المهمة، وكان هذا الموقف استسلاماً أمام قوى دولية كانت بالأساس راغبة في الحرب وساعية إليها بكل السبل. كانت الجماهير الواسعة راغبة في الخلاص من ذلك الواقع المرير لتتنفس نسيم الحرية والحياة الديمقراطية والعيش بكرامة. لم أتوقع بأي حال إن في مقدور الحرب الخارجية، ومن دول ذات أطماع بموارد العراق وموقعه الجيوسياسي، أن توفر للعراق حياة كريمة ودولة ديمقراطية وحكماً عقلانياً رشيداً، تجلى في دراساتي ومحاضراتي قبل حرب عام 2003. ولم أكن وحدي في هذا الموقف بل كان هذا موقف القليل من القوى، ومنها الحزب الشيوعي العراقي وشخصيات ديمقراطية أخرى. وقد حصل ما توقعناه سلفاً.
لقد أعلن عن احتلال العراق من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا رسمياً، ونصّب على البلاد حاكم أمريكي، أودع السلطة بيد القوى والأحزاب الدينية الطائفية بمساومة عجيبة بين دولتين متصارعتين هما الولايات المتحدة المحتلة للعراق، وإيران الدولة الراغبة في احتلاله وتحويله إلى جزء من الإمبراطورية الفارسية في منطقة الشرق الأوسط وبأهداف توسعية على منطقة الخليج (اسمه الأقدم خليج البصرة) والشرق الأوسط. كما اتفق المحتلون بمساومة أخرى مع المرجعية الدينية الشيعية على هذا الحل الطائفي الأثني، وعلى إنجاز انتخابات مبكرة وإقرار دستور عاجل، دستور يضمن استمرار هذه القوى الحاكمة في السلطة. لقد كان المجتمع قد خرج لتوه من حكم دكتاتوري فاشي مرير وأوضاع نفسية معقدة وضياع حقيقي، وكان الناس وكأنهم قد عاشوا في كهوف ومغارات بعيداً عن الحضارة وحركة الزمن وسقطوا في الغيبيات والخرافات وتزييف الدين والتأثير المباشر لشيوخ الدين من المذهبين الشيعي والسني بين الحنبلية المتطرفة (الوهابية) والحنفية والشعور القومي اليميني.
لقد كان لكل ذلك تأثيره على مجرى الانتخابات النيابية ومجالس المحافظات التي حضت بتأييد من شيوخ الدين والتزييف وشراء أصوات الناخبين الفقراء والمعوزين، مما أوجد مجالس نيابية اتحادية ومجالس محافظات بعيدة كل البعد عن الديمقراطية والحياة المدنية والنزاهة والالتزام بمصالح الشعب.
وعلى المدى الأعوام الفائتة قامت النخب الحاكمة بكل ما يمكن القيام به من خلق دولة عميقة مشرفة على الدولة الهشة القائمة، ومن قوى مسلحة أكثر تسلحاً وعدداً من القوات المسلحة العراقية وأكثر دعماً من جانب القوى الحاكمة والدولة الإيرانية، وممارسة كل الموبقات من نهب لخيرات وموارد العراق المالية وتفريط بها، وشراء الذمم والضمائر والسمسرة الرخيصة. وقد كتب الزميل الدكتور فارس كمال نظمي في مقال له بعنوان ثورة تشرين والصحة النفسية السياسية في العراق: تعافي المجتمع واعتلال السلطة” نشر بتاريخ 16/11/2019 في جريدة المدى، جاء فيه بشأن النخب الحاكمة في البلاد ما يلي:
“أما اليوم، فيمكن الحديث عن مفاهيم إضافية تخص الاعتلال النفسي المزمن للسلطة إذ أفرزت الزعامات السياسية العراقية الرسمية تحديداً، بأدائها الفاشل في التعامل مع الأزمة الحالية، ثلاثة مفاهيم– ليست جديدة في الأدبيات العالمية- يمكن إضافتها بثقة إلى القاموس النفسي- السياسي لتاريخ السلطة في العراق، بما قد يحفّز بعض الباحثين لمقاربة هذه المفاهيم نظرياً وميدانياً واستنطاق مضامينها ووظائفها في الجسم السياسي العراقي، وهي: “الخرف السياسي”، و”النرجسية السياسية”، و”السمسرة السياسية“.وعند دمج هذه المصطلحات الثلاثة في إطار مفاهيمي أوسع، قد يمكن الحصول على أنموذج سياسي أكثر شمولاً وتجريداً هو “التفاهة السياسية”، يستحق التمحيص والكشف عن محركاته ومساراته وعواقبه ومآلاته“.
إلا إني شعرت عبر متابعة مستمرة لسلوكيات هذه الحكومات المتعاقبة وجدت لزاماً إضافة مصطلح رابع ومهم جداً للتفاهة السياسية هو السادية السياسية التي تميز بها هذا العهد الطائفي الفاسد، والذي يتجلى بوضوح منذ اليوم الأول من انتفاضة الشباب العراقي في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019 ومستمرة حتى الآن وستبقى مستمرة حتى إسقاط النظام السياسي الطائفي الفاسد.
لقد كانت الدولة في العراق بسلطاتها الثلاث، ومنذ قيامها على أسس طائفية ومحاصصة مقيتة حتى الآن، معتلة من حيث الأيديولوجيا والنظام السياسي والسياسات الجائرة والفاسدة، والمشوهة لإرادة الشعب والمتجاوزة على مصالحه. وإذا كانت الشبيبة الملتاعة من النظام الدكتاتوري السابق قد اعتقدت بأنها ستجد في الجديد ما ينقذها من إرث العقود السابقة، صدمت بواقع آخر يتماهى الوضع الجديد وإلى حدود بعيدة من حيث الجوهر مع اعتلال السلطة السابقة والتفاهة السياسية للحكام البعثيين. ومع مرور الوقت تبلور ونضج وعي الشبيبة فكراً وممارسة وخبرة، وأدرك المستنقع الذي انزلق إليه العراق على ايدي النخب السياسية الفاسدة الحاكمة، فانتفض ليعلن رفضه الكامل لما يجري في العراق وللطغمة الحاكمة التي أوصلت البلاد إلى هذا الحضيض. ولم يكن متوقعاً من السلطات الثلاث في الدولة المشوهة غير الذي مارسته، إذ عمدت إلى استخدام العنف المفرط والقتل المباشر للشبيبة المنتفضة، وهي بهذا خطت بيدها نهايتها المرتقبة، أن تكون نزيلة مزبلة التاريخ، لينهض العراق من جديد ويتعافى ويتطهر شعبه من رجس الحكومات ورثاثتها. وسيجد المثقفون الذين يدافعون عن هذا النظام العار أنفسهم في موقع لا يبتعد كثيراً عن مزبلة التاريخ بل في قعرها.