سؤال من ضمن العشرات بل المئات من الأسئلة الشكية، التي كتب فيها العديد من الناس، ونبشوا في ثناياها بأساليب فلسفية أو لاهوتية، صوفية أو تجسيدية، رياضية أو ميتافيزيقية، مع ذلك ظلت وستظل من المستحيل على العقل الإنساني إعطاء الجواب المطلق، أو المقنع لكل الأطراف وفي كل العصور. والأسئلة تتأرجح بين: الكفر والتكفير حسب المؤمنين بالأديان، والمنطق حسب العقل الفلسفي. فمن المستحيل نفي الوجود الإلهي أو تثبيته، ومثلها حقيقة تحكمه بالبشر ومسيرته أو عكسها، أي من المستحيل التأكيد على أن الأديان وخاصة الإبراهيمية هي أوامر إلهية أو مفاهيم إنسانية؟ ومحاولة التأكيد على وجود الإله أو الآلهة ببراهين، والدفاع عنه بدلائل، جهل لا يختلف عن جهالة من يحاولون أثبات عدميته. وربما لذلك يطرح السؤال التالي: لماذا الأديان ذاتها تتناقض في معرفة الإله؟ بغض النظر عن العقلانية في السؤال أو عدمه، أو متعارض مع الأيمان بمجرده أم لا؟
لا شك لا يمكن تصور البشرية وتطورها، بدون تكامل وتداخل العلوم الحاضرة جميعها، الفلسفية والاجتماعية واللاهوتية، وغيرها، مقابل المادية، كالرياضيات والفيزياء والكيمياء وما بعدها، وحضور الفن بأنواعه، فجدلية التكامل بينهما لا ينفيها أي مثقف واع، ولم تقم حضارات بدون إسهامات العلوم والسند الروحاني، وتداخل المفاهيم المستمدة من الحيزين، أي مشاركة المجالين من التفكير. وعلى الأغلب ساد الجمود الثقافي، بل تأخرت نشوء الحضارات، وكثيرا ما تدهورت، بطغيان جهة مقابل تغييب الأخرى، والإسلام عند انتشاره، خارج شبه الجزيرة العربية، دمرت حضارتين، ولم تقم لهما قائمة من حينها في شرقنا، وحيث منبع الحضارات، إلى اليوم.
والشكوك التالية وغيرها، خلقت وتخلق حوارات بين التناقضين، والتي على أثرها توسعت المعارف رغم تحول معظمها إلى صراعات، والصراعات خلفت كوارث، مع ذلك لم ولن تأتي بنتيجة في الإثبات أو العدم. وظل السؤال حاضرا في ذهن الإنسان، المؤمن قبل الرافض، لماذا الاسم (الله- خودى…) أصبح مقدساً؟ ويستمر؟ وهل يقدس كاسم أم كماهيه أم كقوى لا متناهية؟ أليست القوى المعنية هذه خارج المطلق الإنساني اسما وماهية وتصوراً؟ وكليته أبعد من مجالات التقديس، أم أنه والإنسان ماهية متكاملة؟ وهل لذلك ظلت ماهيته في أبعاد التصور الإنساني؟ وهل الله يمثل جميع آلهة الأرض، أي آلهة جميع الأديان الأرضية، وحيث المواصفات المتناقضة؟ وهل الآلهة المتعددة بين المجتمعات خالقة أم مخلوقة، أم قدرات أو قدرة أبعد من المعرفة؟ أليس قولنا (هو) أو العلة، توصيف لآلهة على مقاسات الفكر البشري؟ وتعريفه انتقاص وتصغير لمطلق الإله الكوني؟ هل هو المجال الخارج عن مدارك الإنسان، مهما أرتقى بعلومه؟
أم كل هذه الأسئلة وغيرها في الفلسفات اللاهوتية وعلم الكلام مجرد سفسطة بشرية لإقناع الذات والسيطرة، وتبرير الاستبداد السياسي الديني؟ وتطوير لمفاهيم العبودية بطرق تتلاءم والتراكم المعرفي؟ أليست البشرية لا تزال رغم الحضارة تعيش العبودية؟ وإلا فلماذا نعبد الله؟ وهل يحتاج إلى عبادتنا؟ وهل تعبد البشرية في لا شعورها إله واحد أم آلهة؟ وأن كانت آلهة فهل هي آلهة الكون؟ وهل للكون آلهة أم أن الإنسان يعبد آلهة وهي أرضية؟
وهل الأحكام مشرعة إلهيا، لقتل الإيزيدي أو المسيحي أو المسلم، أو حتى من المذاهب الأخرى من الدين ذاته، مثلما جرى في أوروبا أثناء عصر الظلمات، ومستمدة من نصوص إلهية كونية أم إنسانية أرضية؟ وهل الإله نقل نصوصا ليدفع بها تابعيها وأخرهم المسلمين الأوائل والتكفيريين الحاليين على السبي والقتل؟ وهل ما جرى في شنكال الإيزيدية كان أمرا إلاهي؟ وهل الإله ذاته كرم المجرمين منذ الغزوات الأولى إلى اليوم بجنة جل ملذاتها الجنس؟
هل الإنسان أحتاج منذ الوعي الأول إلى الوجود الإلهي، لأنه لم يملك جواباً لشكوكه حول الطبيعة؟ أليست الرهبة من الطبيعة وما وراءها، أدت إلى الأسئلة الميتافزيقية المتنامية؟ ومع توسع مداركه ومعارفه، أنتج فلسفة الآلهة الأرضية، ومن ثم اللاهوت السماوي؟ فتطورت وانتشرت أنواع الآلهة في عصور الرق، ووصفت الآلهة كالملوك، والرهبة من الملوك الآلهة تم تقديسهم. فلماذا ظل التقديس لله ذاته، رغم تراكم معارف الإنسان حول أبعاد الكون، وتجاوز مجالات القوة الكونية سويات التقديس، والرهبة منه كمجسد يغضب أو يثور أو يسامح؟
وفي الواقع وعلى مدى قرون عديدة من عصور الرق لم يكن هناك تمييز واضح بين الملوك أو سدنة المعابد والآلهة، فاستمرت البشرية على المفهوم المختلط بين ملوك الآلهة والطبيعة المؤلهة، إلى أن تنامت معارفه، فتناقصت سوية الملوك وتعاظمت مركز الآلهة اللا ملموسة، فاستثمرتها شريحة لتمثلهم على الأرض، ونصبت ذاتها حماة لهم ولمصالحهم، وفرضت مفاهيمهم على الرعية بالترهيب والترغيب الإلهي، ومثال موسى الذي أنقذ اليهود من عبودية الفراعنة الآلهة وظلمهم، ليضعهم تحت عبودية غير مباشرة، تحكم بها هو وقادة اليهود، وباسم قوة غير ملموسة هو ممثلها بين شعبه، ونقلهم من رهبة مظالم رجال الفرعون إلى رهبة إلهه، الجهنم، ومن نعيم الفراعنة إذا رضي عنهم، إلى جنة ربه. وأنتقل بعمله هذا من الأديان الأرضية إلى السماوية، في أغلبيتها كانت، إلى جانب تطور المعارف، ردة فعل للمظالم والحياة القاسية للطبقات المسحوقة والعبيد، مقابل النعيم الذي كان يعيشه الملوك وحاشيتهم، ومروجي ألوهيتهم بين العامة. ومع شدة المظالم وتوسع المعارف تنامت طبيعة الآلهة، والأديان، فأصبحت خارقة القوى، كمنقذ للمظلومين، وترهيب الملوك الظالمين وحاشيتهم، وبأنه هناك من سيحاسبهم، رغم هيبتهم وجبروتهم.
وليتخلص الإنسان من هذه الإشكالية، ولمحدودية معارفه، تداخلت الأوصاف، فحاول البعض إنقاذ مجتمعاتهم من قهر العبودية، وتحرير ذواتهم، من خلال البحث عن المطلق الإلهي، مع ذلك فمنقذهم، آلهتهم، رغم كل الأوصاف والتعظيم لم يخرجوا من مجالات المطلق الإنساني، أي ظلت آلهة بشرية. ولتنوع المجتمعات، وغايات الطغاة وتشعب المظالم، تنوعت الآلهة، وكان الانتقاص لكلية الإله الكوني أو ما نسميه بالله أو خودى، والتي بينه وبين الآلهة الأرضية مسافات كونية حيث العقل البشري ومعارفه أمامها أكثر من العدم المقال أن الله خلق الكون منها، واحتاجت آلهتهم إلى دفاعهم وعبادة العبيد، مدافعيه تحولوا إلى مستبدين، من جهة، وعبدته تشبثوا به لخلاصهم من الطغاة والظالمين.
والبعض من المدعين رغم كل التحليلات الفلسفية والمفاهيم الدينية، لم يتمكنوا الفصل بين الذات البشرية والآلهة الأرضية وبين الإله مع تعظيمه. وجميع المحاولات، التي ظهرت، ظلت محصورة ضمن مقاييس مفاهيم ومعارف المجتمعات البشرية المتنوعة…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
22/8/2018م