معظم المؤتمرات السابقة، حول القضية السورية، كانت غايتها الرئيسة تمرير الوقت، لتتراكم المزيد من الكوارث، ويدفع بالإنسان السوري إلى تقبل أمَّرَ البنود، وينسى شعار الثورة (أسقاط النظام) أو كما يقال في اللغة الدبلوماسية، الرضوخ، بعكس مؤتمرهم هذا، المنعقد في مدينة نور سلطان (أستانة) عاصمة كازاخستان بتاريخ 10-11/12/2019م، والتي كانت لها أجندات رئيسة، غير معلنة، متفقة عليها مسبقاً، المعارضة والسلطة، بتركيبة تركية إيرانية، وهي محاربة الكرد، قضية وديمغرافية.
فهم ورغم العداوة الكارثية المميتة، وعدمية الاتفاق، حول أية نقطة لإنقاذ المجتمع السوري، على مدى تسع سنوات من الصراع على السلطة، لكنهم في هذا المؤتمر المنعقد في الواقع من أجل المنطقة الكردية، اتفقوا على معظم النقاط الواردة في بيانهم الختامي، والأغرب فيه أن روسيا لم تبين معارضتها لهذه المنهجية الداعشية ضد الأمة الكردية والمخالفة لإستراتيجيتها بعكس المؤتمرات السابقة.
ومن أحد أهم النقاط، التي ليس فقط لم يختلفوا عليها بل دعمت بتصريحات ستعمق في السنوات القادمة الحقد والعداوة بين الشعبين العربي والكردي، التعتيم على خطط التغيير الديمغرافي للمنطقة الكردية، من غربي عفرين إلى شرق شمال ديركا حمكو، فضحتها تصريحات رئيس وفد المعارضة والنظام وبيان المؤتمر، وتصريح أردوغان نفسه، والكل اتفقوا على المقولة ذاتها، أنهم بدأوا بعملية (إعادة توطين) السوريين، وليس تسكين الغرباء في المناطق الكردية، والمرحلة الأولى تضم مليون سوري. وقد تم نشر مفهوم (إعادة التوطين) مكان التغيير الديمغرافي ضمن المؤتمر، باتفاق جماعي، المعترض عليه معظم المنظمات والهيئات الدولية، ومن ضمنها التابعة للأمم المتحدة.
والشعب الكردي هنا أمام أسلوب أكثر خباثة، هدفها القضاء على وجوده التاريخي العميق فوق جغرافيته، جنوب غرب كردستان حيث منطقتي عفرين وشرق الفرات، العملية التي جندت لها سابقاً، السلطات السورية المتتالية، شريحة واسعة من الأكاديميين والكتاب المحترفين، للطعن وتحريف تاريخ المنطقة، الخطط العروبية التي تبنتها لا حقاً دولة قطر عن طريق تسخير بعض مراكزها الإستراتيجية السياسية والثقافية، وبدعم تركي، وكانت من أهم أجنداتهم إقناع العالم على أن الوجود الكردي في سوريا الحالية تشكلت على خلفية الهجرة من شمال كردستان بعد خسارات ثوراتهم هناك.
وبعد صدور البيان الختامي للمؤتمر، لم يعد السكوت الروسي على اللعبة السياسية الديمغرافية، غريبا، فقد حصل وفدها على تصريح من الوفد التركي بإدراج هيئة تحرير الشام ضمن المنظمات الإرهابية، مع إضافة على أنه يجب فصلهم عن المعارضة السورية، وإضافة بند خاص على البيان الختامي للمؤتمر تحت الصيغة التالية ” أن روسيا وتركيا وإيران قلقة من تزايد وجود الجماعات الإرهابية في محافظة إدلب السورية، وتعهدت بالتنسيق من أجل القضاء على المتشددين” وهو ما تم، وبها تكون تركيا قد أكملت صفقة بيع المعارضة السورية، باستثناء مرتزقتها الذين تسخرهم لقتال الكرد، مقابل الحصول على الموافقة الروسية في عدم الاعتراض على عملياتها ضد الكرد، وعلى هدى غاية محاربة الكرد صدر البيان بالمقولة التالية: أنهم يرفضون محاولات خلق ” واقع جديد على الأرض بما يشمل مبادرات حكم ذاتي غير قانونية” كما وشددوا ضمن البيان على ” الوقوف ضد الأجندات الانفصالية التي تهدف إلى تقويض سيادة سوريا وسلامتها الإقليمية، وكذلك تهديد الأمن القومي للبلدان المجاورة” والنبرة الكلامية هنا واضحة، موجهة في عمقها ضد الشعب الكردي بشكل عام، ترفضها جميع أطراف الحراك الكردي وتعتبرها تهمة لا أساس لها من الصحة ولا تستند إلى أي وثائق أو مصادر، مع ذلك نوقشت ودرج كبند رئيس في البيان، في الوقت الذي تغاضوا فيها عن احتلالهم لأكثر من نصف الأراضي السورية، بينها مناطق منفصلة تماماً، تحكمها تركيا إما تحت اسم الحكومة المؤقتة، أو منطقة المعارضة التكفيرية. مع تمرير بند ضمن البيان على قضية النفط في شرق الفرات المثارة من قبل الرئيس دونالد ترمب.
لربما بالإمكان تبيان الحقيقة المخفية وراء كواليس المؤتمر، باعتباره أول جلسة توافقية بين المعارضة والسلطة، وبين السلطة وتركيا، ولا يستبعد أن تكون بداية تنازلات من الطرفين، ولولا القضية الكردية، وخطط التغيير الديمغرافي للمنطقة، لما تمكن عرابها روسيا والدول العربية المشاركة كمراقبين من خلق مثل هذا التفاهم المخفي خلف الستارة، وتطابق بين التصريحات، فلقد أصبح معروفا للعالم أجمع، أن المعارضة السورية المسلحة بكل فصائلها وجهت لقتال الكرد، أما الذين لم يتركوا الجبهة مع السلطة فرزوا كمنظمات إرهابية أتفق الجميع على إزالتها، وسيتم تصفيتها في منطقة إدلب.
والدبلوماسية المستخدمة مع المعارضة السياسية، الائتلاف وغيرها لا تختلف في كثيره عن المسلحة، باستثناء أن الأولى تبيع الوطن تحت حجج أكثر منحطة من التي تم بها إقناع المسلحة التكفيرية. والجهتين تخلوا عن قضية إسقاط النظام وتم إلهائهم بالمسائل الثانوية، ككتابة الدستور، الذي لن يتم، ومحاربة الكرد وتمرير الأجندات التركية في مناطقهم، كعملية تشكيل الحكومة المؤقتة في قرية الراعي، ونشر التعليم باللغة التركية في المناطق السورية، وغيرها من مقدمات ترسيخ الاستعمار التركي في المناطق السورية التي يدعون أن الكرد يحاولون فصلها عن سوريا.
فيتردد في أوساط المحللين السياسيين، أن رجب طيب أردوغان أحتل ربع مساحة سوريا، بمقايضة مع روسيا، سلم فيها ثلث مساحة سوريا إلى بشار الأسد بدون أن تطلق السلطة والمعارضة طلقة واحدة، وهي الآن تحاول تسليم إدلب مقابل التغيير الديمغرافي في شرق الفرات. ففي مؤتمر أستانة-14 تم البحث حول إشكالية إحلال قوات النظام مكان القوات الكردية على الخط الحدودي، في الوقت الذي كانت تركيا تأمل أن تكون بيدها، لتفاوض عليها ضمن هذا المؤتمر.
وبخلافه تم النقاش على الخطوة التالية التي ستقدم عليها تركيا والنظام معاً، ضمن المنطقة الكردية، ومخطط أن يتصاعد الضغط التركي ومرتزقته، ليسهل للنظام التفاوض مع الكرد، أو قبول شروطها، وهذا ما تعرضه روسيا كوسيط في الواجهة، لكنه المحرك الأساسي للعملية، ومن مهماتها إخراج الأمريكيين من المنطقة، وبالتالي تحرير المناطق النفطية في شرق الفرات، وهذا لن تتم ما دامت أمريكا تستند على الكرد كحجتها وأداتها في البقاء، وعلى الأغلب بعد هذه الخطوة وما سيتم في إدلب قادما، ستكون قد انتهت مهمات تركيا الأولى، باستثناء مصالحها، التي ستدفعها إلى الدخول في مفاوضات جديدة مع روسيا، وهنا ستبدأ الخلافات بينهما، أو ستتنازل تركيا عن الكثير، ومن ضمنها ضغوطاتها على الكرد، ولا يستبعد أن تظهر في المراحل القادمة إشكاليات القضية الكردية ضمن تركيا على طاولة الحوارات الدبلوماسية العالمية.
انتهت مهمة المؤتمرات المنعقدة لتمرير الزمن، وبدأت مرحلة جديدة، وبمهمات محددة واضحة، وعلى أثرها تم الاتفاق في الأستانة- 14 على مواعيد أخرى، كتجمع لديمومة الحوار ليس على القضية السورية أو إشكالية النظام والتي كانت من النقاط الثانوية المتداولة، بل على مدى تطبيق ما تم الاتفاق عليه، حول القضية الكردية، والتغيير الديمغرافي للمنطقة، وسيستمر إلى أن تنتهي المهمة، وينتهون من استيطان الملايين الثلاثة لسوريي الداخل. ويتم التغطية الإعلامية لها خارجيا، على أن التوطين يتم برضى المهاجرين، ويتأكدون على هيمنة العنصر الموالي للسلطات المحتلة لكردستان، في الوقت الذي يستفيد النظام، من جهتين: سيستولي على إدلب، وستظل مناطق الداخل خالية من المعارضة النزيهة، وهم الذين حملوا شعار إسقاط النظام، وكأصحاب الأرض في مناطق حماة وحمص لإسكان الأقلية العلوية فيها.
لا يؤلمنا، تقارب واتفاقيات غير مباشرة بين أعداءنا ضدنا، بين من قتلوا نصف مليون سوري، بين مجرمي الحرب، ومدمري سوريا، والذين لا عتب عليهم فهم في النهاية سلطات ومنظمات إجرامية معادية للشعب السوري قبل الكردي، بل يؤلمنا ونعاتب بعضنا عندما لا تظهر وفي هذا المرحلة المصيرية أية بوادر تفاهم أو تقارب كردي-كردي، والتي قد نتمكن في حال وجودها من خلق تفاهم بيننا وبين الشعب العربي متجاوزين قتلة الشعوب السورية.
فرغم أن مصير منطقتنا وديمغرافيتنا ومستقبل الأجيال القادمة على المحك، ولا مبرر لديمومة الخلافات والصراعات، لا نرى بوادر حسن النية، وهذه تعكس شكوك لا نهاية لها، إما أن الذين يسببون في تعيق الخلافات، أدوات بيد محتلي كردستان، تملى عليهم المفروض تطبيقه، أو أنهم في جهالة مظلمة لا يرون حولهم، ولا يفقهون ما يجري في الأروقة الدبلوماسية من المؤامرات، أو أعمت بصيرتهم مفاهيم وإيديولوجيات ساذجة طوباوية، تخلق عندهم الأنانية الذاتية، وتعدم الوطنية، وتضع الأمة على حافة الضياع، وما يتم ترويجه من أفكار واتهامات وتخوين ليست سوى تردد ببغائي لا يشعرون بمدى خطورتها عليهم قبل أن يكون على منافسيهم.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
11/12/2019م