تظهر بين فينة وأخرى، ومنذ بدايات انشقاق البارتي، محاولات لتوحيد الأطراف الحزبية، إلى أن أصبح حلم وأمنية الأغلبية منا، وفيما بعد وعلى خلفية الفشل المتتالي تصاعدت مطالب خلق الجبهات، ومن ثم التحالفات، ولنتائجها الكارثية تحول الحلم إلى كابوس، والأمنية وهماً.
لم تتغير الأساليب الكلاسيكية في هذا المنهج، فظلت الخطوط الوطنية تلوح دون الفعل، والمطالب المستمرة لعقد المؤتمر الوطني، لم تتجاوز بيع الوطنيات، والتباهي بين أطياف المجتمع، ونحن نتحدث هنا عن الواقع الفعلي.
كما ولم تقف يوما نداءات تقبل البعض، والجلوس معا للحوار (والتي فيها الكثير من الإيجابيات) وعقد المؤتمر الحلم، إلى درجة أصبحت تستهلك كفواصل بين الأحاديث وفي كل المناسبات، إلى أن تأكد مجتمعنا بعدمية تطبيقه، مع قناعة لا شعورية شبه تامة بأنه لن يحدث؛ لا حاضرا ولا على الأقل في المستقبل القريب، والتاريخ الكردي خير شاهد، وإن تم كما جرى في الماضي، وبالأساليب ذاتها، سيؤدي إلى تعميق الخلافات، وخلق منابع جديدة للصراع الداخلي. مع ذلك تبقى الفائدة منه كتجربة من التجارب الفاشلة في تاريخ الحراك الكردي، والمأمول دراستها كصفحة من الصفحات تاريخنا المؤلم.
لا نظن أنه كان هناك تجمع وطني ومؤتمر حمل في ذاته أفاق المستقبل الكردي مثلما تم في المؤتمرات التي خرجت من رحمها المجلس الوطني الكردستاني-سوريا، وخاصة مؤتمري واشنطن ضمن قاعة الكونغرس الأمريكي، ومؤتمر بلجيكا الذي ختم يومه الأخير ضمن قاعة البرلمان الأوربي، مع ذلك أصبحت صفحة من التاريخ، يتناساه معظم الأحزاب بعدما تخلوا عنه وهاجمه البعض على خلفية غايات شخصية، لأن القضية الكردية عندما تبلغ السويات الوطنية، تفضح مسيرة الأحزاب، والعديد من قياداتها والشخصيات الذين جل حراكهم كان ولا يزال من أجل إبراز الذات، وتبقى المؤتمرات التي نتجت عنها المجلس الوطني الكردي وتف دم، كمؤتمر قامشلو وهولير ودهوك، هشة مقابل ما تم في الأول، وعلى خلفيات عدة، منها ما عرض لرأب الداخل الكردي وما قدم إلى المحافل الدولية، ومدى اهتمام الأخيرة بها، رقيت إلى سوية مكانة قضية الشعب الكردي.
جميع الدعوات والمطالب لإقامة مؤتمرات وطنية (لا نعني بعدمية إيجابية الحوارات) أصبحت خالية من مضامينها، وتعكس مخلفات مفاهيم سطحية وساذجة، دون مستوى إقناع القوى الكبرى لدعمنا، وتأييد عدالة قضيتنا. فالتطبيل عليها وتكرارها ليست بأكثر من ابتزاز لمدراك شعبنا، والحجج المقدمة بين الأطراف الحزبية المتنافسة، دون حوارات متعددة مسبقة جدية، لخلق جو من التقارب، وبالأساليب المعروضة على الإعلام، ليست بأكثر من نفاق على الأمة، وتكرار عرضها أصبحت مشوهة، لأن معظم الأطراف الحزبية وليس العامة، المطالبة بحل القضية بهذا الأسلوب الساذج، ترضخ بشكل أو أخر لارتباطات أو إملاءات خارجية، وتعتمد في نشاطاتها على دراسات سابقة خاطئة، وبالتالي ظهرت النتائج الكارثية التي هي أمامنا الآن، والأعقد من كل هذا تصاعد الخلافات الإيديولوجية، بعدما كانت في السابق محصورة على أساليب النضال، ومنهجيته.
فأغلبية أطراف الحراك الكردي وخاصة المهيمنة على الساحة الآن، لم تكن ولن تكون على مقدرة لتغيير مجريات الأحداث المؤلمة، ولا قدرة لها على تلطيف أيديولوجيتها، ولا إقناع الشارع الكردي، ولا مفاهيمها السياسية، ولا دراستها لمنطق التحالف مع القوى المحتلة لكردستان، وما يصدر تتعارض ومنطق العلاقات الدبلوماسية أو التحالفات السياسية، وهي تكاد لا تخرج من إطار البيئة الأمنية.
كما وهي كغيرها من الأطراف الكردستانية السياسية مأمورة وليست آمرة، والجميع يعلم أن القوى الإقليمية المهيمنة على مقدرات أمتنا والمدركة لهذه الجدلية، تحافظ على ديمومة هذا التنازع بيننا بشكل أو أخر، وستستمر على ضخ المساعدات والإملاءات بقدر ما تتطلبه استمرارية صراعنا الداخلي، وبأساليب وطرق متنوعة قد لا تنتبه لها أحياناً الأطراف الكردية ذاتها، أو أنها ستدرجها ضمن التحالفات أو العلاقات السياسية الدبلوماسية. ولهذا فلا بد من معالجة هذه القضايا بين بعضنا وبشفافية قبل الطلب أو الإقدام على إقامة مؤتمرات وطنية.
ومن أحد أهم العوائق التي وضعت أمام حراكنا، وفي هذه المرحلة الصعبة، محاولة تقزيم الحراك الكردي الوطني، وحصر الهيمنة بين طرفين حزبيين من أطراف الحراك السياسي، أرفقا بشريحة من الانتهازيين والسذج، وبالمقابل محاربة الشرائح الثقافية-السياسية الوطنية الواعية، كما وعلى مدى العقدين الماضيين تم تحجيم النقد المنطقي، ودعمت الساذجة منها، ومحاولة تعريف الداخل الكردي والعالم الخارجي على أن الحراك الكردي يمثلهم طرفين مختلفين ومتصارعين إلى حد تهديم القيم الوطنية بينهما.
بهذه المنهجية في محاربة الكرد سهلت القوى الإقليمية لذاتها الهيمنة عليهما بل وحاولت من خلالهما التحكم بمقدرات معظم الأطراف الكردية الأخرى، وفرض التبعية عليهم وإرضاخهم لتقديم الخدمات، وهذا ما ساهم، ولو بشكل ربما غير مباشر، على توسيع الشرخ الموجود بين الحراك السياسي منذ عقود، ونقلها إلى المجتمع، مع ضخ متواصل لمفاهيم مشوهة، تعمي بصيرتهم، ونحن هنا لا نتحدث عن النتائج السذاجة المؤدية إلى الكم أي كثرة الأحزاب بل عن النوعية، ففي الأولى حدث ولا حرج.
ومن المؤلم أن قادة الانشقاقات الأولى ضمن الحراك الكردي، ومعلمي مؤتمرات التشتت الذين كانوا أو لا يزالون يفتخرون ببشائعهم، ويحيطونها بإيديولوجيات ومرجعيات فكرية، هم أكثر المطلبين لعقد المؤتمرات، ويتناسون أنهم كانوا رواد زراعة بذرة الدمار الكارثي بين الأمة، والتي مدتهم بها القوى المحتلة لكردستان، وحثهم لها وفي هذه المرحلة، لربما ناتجة عن الجهالة قبل قلة الخبرة، وإبراز الذات، قبل الوطنية، أو حتى لخدمة حزب ذات منهجية تتماشى ومرحلة الصراع.
ومن الغريب ورغم وضوح الحقائق، لا تزال هذه الحالة الكارثية السياسية قائمة ولها سوق، يضخ إليها الأعداء المفاهيم والأفكار الحديثة والمتلائمة مع المرحلة، كالجارية الآن على ساحة جنوب غربي كردستان رغم ما حل بها من الكوارث، ونحن نسمع بين كل ساعة وأخرى وعلى الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي وضمن تصريحات السياسيين ونداءات المثقفين، المطلب الكلاسيكي الهش ذاته، دون رؤية أية حوارات، أو توافق إعلامي بين الأطراف المعنية، ودون أن تظهر دراسة عصرية، أو رؤية جديدة تتلاءم والمرحلة، أو أن يقدم طرف ما أسلوب مغاير في التعامل مع الأخر، فقد أصبحنا نكرر سقوطنا في الحفرة ذاتها وعلى مدى أكثر من قرن، ودون أن نراها أو ندرس كيفية تجاوزها أو الالتفاف حولها.
على أبعاد ما وراء هذا الواقع الكارثي المؤلم، والأحاسيس الإنسانية المنهارة، يتبدى لنا بوادر تغيرات مصيرية لجنوب غرب كردستان، وفي الواقع نكاد أن نرى بدايات ثورة تجري من تحت الرماد، فقبل أن نطالب بعضنا ككرد، بعدم اليأس من مجريات الأحداث على الأرض، والتي تكاد أن تكون شبه كارثية، خاصة من الناحية الديمغرافية، يجب أن ندرك أننا وعلى هذه السوية من التعامل الداخل والخارجي، ستتعمق الكوارث، وستزداد صعوبات الحل، خاصة عندما ننظر إلى المنطقة والتي أصبحت ذات أهمية ومركز اهتمام الجميع، ولا نظن أن منابع النفط فيها هي التي تجذبهم، وحيث تجوب عليها أكبر قوتين على الأرض، إلى جانب الإقليمية التي تحاول الاختلاس منهم قدر ما تستطيع، كتركيا التي تعمل المستحيل لصنع قبرص من العرب الموالون لها، أو سلطة بشار الأسد المتعاملة حتى مع تركيا للعودة بمربعاتها الأمنية، وإيران وحيث مطامعها، ونحن الكرد والأقليات الموجودة معنا على الأرض، الذين لا نزال نبحث وبهذا التشتت وعلى مراكب خلافاتنا اللانهائية، عن القوة الممكنة التي تتلاقى ومصالحهم معنا، ولهذا نلهث في كل الاتجاهات، إلى درجة أصبحنا لا نعرف أي القوى بالإمكان الثقة بها، وفي الواقع أي القوى ستحتضننا وتحمل قضيتنا على قدر ما يتطلبه.
فمعالجة معاناة الشعب بالتوقعات على أن القادم يتجه نحو الأفضل، سيكون أكثر ألماً، إذا لم ترافقها تقديم، مساعدات ملموسة مباشرة، وللمستقبل؛ عرض رؤية منطقية؛ ومؤشرات واضحة، تقنعه على أن التشتت الداخلي لن يستمر، والواقع الكارثي المهيمن سيزول، وحراك على مستوى القضية سيتمخض، ولربما نبيا على قدر المسؤولية سيظهر ليقود الأمة، وأرضنا التي دمرتها جحافل الأشرار ستعود إليها الحياة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
1/12/2019م