السبت, نوفمبر 30, 2024
Homeمقالاتبين كلمتين .. الليل الدكتورة : ناهدة محمد علي

بين كلمتين .. الليل الدكتورة : ناهدة محمد علي

إن الرواية الشعرية أو الشعر الروائي لهما تاريخ فسيح منذ الأساطير اليونانية ومنذ الخالد ( شكسبير ) ، حيث تجتمع روح الشعر مع السرد الروائي وقد يتخلله أحياناً ، فيعطي مساحة شاسعة للكلمة ويطلق العنان لخيال القاريء إلى ما هو أبعد من الحدث الدرامي .

للمترجمة الدكتورة ( رابحة الناشيء ) إحساس شعري بالكلمة والصورة لذا إختارت كتاب الشاعر والروائي الفرنسي ( جورج بونيه ) بين كلمتين .. الليل . وكانت ترجمتها قد أعطت حق البعد الأدبي للرواية الشعرية أو القصائد المروية ، حيث تسلسل الشاعر في روايته لحالة حبيبته التي أصيبت بمرض شديد الصلة ( بالزهايمر ) ، فإنتقلت السيدة ( سوزان ) من مرحلة الوعي للأشياء والأحداث والطبيعة إلى مرحلة اللاوعي واللاذاكرة ، لكنها بقيت الزوجة والحبيبة بالنسبة للشاعر .

كان وصف الشاعر من خلال النقلات الشعرية أحياناً ومن خلال التسلسل الروائي أحيان أخرى وصفاً رائعاً وتنقلاً رشيقاً ما بين القصيدة والرواية ، فهو يصف جلوس السيدة ( سوزان ) على السرير وعلى الطاولة وحركة يديها ، تنقلها ما بين الغرف والحديقة في المصحة التي عاشت فيها في سنواتها الأخيرة . كان يصف كل شيء في المرأة وكل فعل ، مثل وضع الدبابيس في شعرها حيث أصبح كل فعل تقوم به غامض ومعقد ، وكيف تغيرت نظرتها للأشياء شكلاً ومضموناً ، وتغيرت نظرتها للحياة وللطبيعة ولأجزاء جسدها . كان الشاعر الذي أحبها لعقود هو ذاكرتها وكانت لعدم إحساسها بالأمان والثقة بالنفس تطالب دائماً بالعودة إلى البيت .

كان الشاعر بونيه يصور بشكل إنسيابي جميل نوع المعاناة التي يعاني منها مرضى ( الزهايمر ) والمحيطون بهم ، وكيف تنسلخ الحياة من حولهم شيئاً فشيئاً وتموت الأشياء والأشخاص والأسماء لديهم قبل أن يقترب الموت منهم .

يقول الشاعر :-

في قلب الحديقة تتجمع الحياة

حمام بري على العشب الذي أصبح هادئاً بحلول المساء

وعلى بعد خطوات من الممر الكبير ضوضاء الحصى

كانت تحب المشي في الريف

الموسم على مدى النظر

الشمس تغزو الحديقة التي تخلت عن أيامها السيئة

هي مع ذلك بوجه عابس حتى المساء

حين كان الشاعر بونيه وهو في التسعين من عمره متمسكاً بالماضي وجماله وجمال الطبيعة وجمال الحب الذي جمعهما لسنوات طويلة .

كان الشاعر يحاول أن يستخرج ( سوزان ) من حالة اللاوعي للأشياء وأن يعيد لها ذكرياتها ، أسماء أولادها ، ذكريات الدراسة ، ليالي الصيف الجميلة . كان كل شيء في الماضي حلماً لا نهائياً .

يصف الشاعر كيف كانت الحبيبة تستجيب للذكريات ثم تعود وتغطس بأللاوعي .. يقول الشاعر :-

نافذة الغرفة جميلة

أحدثها عن طفولتها ومدرستها الإبتدائية

روائح حبر وطباشير تجتاح الغرفة

في القاعة المشتركة زائر الأحد الوحيد مبتهج للغاية

تأتي بعد ذلك محنة الصمت

دبوسان للشعر يستغرقان بعد ظهر كامل

بليالي الصيف وتواطؤ الزهور كانت تعطس حين نسير بالحديقة

كانت الحياة تبدو حين ذاك بلا نهاية

لقد إحتفظت هي بوجهها مفتوحاً وسمحت لإبتسامتها بالمرور

ثم بالجفون المغلقة هي تصنع حلماً لوجودها

في المسافة الطويلة للغياب

هي ترحل في إنحرافات بطيئة

إنها أخرى من نفسها

يصف الشاعر بنقلات روائية وشعرية إنتقال ( سوزان ) إلى مرحلة عدم إنتظام الإدراك الحسي للأشياء من حولها وبضمنها هو

يقول الشاعر : –

اليوم رمادي إنها تستسلم للصمت

كل حديث سيكون عبثاً

تقول فجأةً ليس لديّ غير يد واحدة

وتكون قلقة حين يكشف عن يدها الأخرى ، قائلة لا أعرف أين أضعها الآن

هي لا تعرف لا اليوم ولا الشهر ولا السنة التي نحن فيها

ساعتها لم تفارق درج طاولة سريرها ، فالوقت ليس له أهمية

نلاحظ هنا أن الشاعر يتنقل ما بين النفس الشعري والنفس القصصي . ومن خلال أبياته الشعرية يصف كيف أن محبوبته قد بدأت تفقد الصلة به ، وكيف أن الشاعر لم ييأس من إنتشالها من الدهليز المعتم الذي تمر به المرأة . ورغم إنطفاء جذوة العقل والروح إلا أن شيئاً من الحنان لا زال باقياً يعطي للشاعر الأمل بالعودة إلى الوراء .

يقول الشاعر :-

لحظات من الحنان ما زالت باقية

قلت لها بأني أحبها أجابت أنا كذلك

سنجد السماء من جديد

وبعض الإرتعاشات دون زمن بمساعدة الحديقة

الملل لا وجود له

لا تشعر بالندم وليس لها آمال

اللحظة تتم من لا شيء

هي تقول لنصمت الآن

تنسحب بجفون مغلقة مبتسمة لليلها

هي تخرج من نومها

وتطرح حقيقة يبدو أنها إقتنعت بها

أنا أخفي شيخوختنا تحت الكلمات

كيف يمكن الإنضمام إليها

كيث يمكن إجتياز المعبر

يستمر الشاعر في آماله في حين تسقط الحبيبة في هوة عميقة من اللازمان واللامكان

يقول الشاعر .. الجدار المقابل لعينيها

ماذا يخبيء لحد الآن

أحاديثي تصل فجأة إلى حد إبتسامتها

أُعدل أنا كلماتي بوضوح محياها

لقد كانت تتوقع لحظة

وإنه القلب الذي يتذكر

أيادينا تفهم بعضنا البعض

اليد تستمع لليد

أُرافقها في عالم على مقاسها بكلمات من أجل الإحتفاظ بها

بكلمات تولد تحت اليد

هي لم تعد هي

وأخشى أن لا أكون أنا

أتأملها أنا كما هي

وفي سنها من خلال تلك التي كانت

ينظر الشاعر إلى نهايات محبوبته القديمة ويستمع إليها حتى حينما تصبح كلماتها متقاطعة أو كتطريز مشوش

يقول الشاعر .. هي تعيش بلا شواطيء

إنها تقول كلمات بلا نتيجة مثل تطريز مشوش

ليس عليها تقديم الشكر لجسدها الذي يتركها بسلام

هي تفتح يدها

أرى في كفها التوت الأسود

الذي جمعته على طول طريق مجوف لكي تقدمه لي

نفهم في نهاية المطاف

ما يمنعنا من فهم ما يحدث

إنها ترتعب في حلمها

الشمس على أشجار الورد

النسيم على وجهها

والجنون المفاجيء بيديها

على الزر الأخير من سترتها

تظل جامدة في مكانها

بلا سلاح وبلا دموع

لقد فقد الحنان قدرته

لقد رضخ الشاعر في النهاية بأن الذكريات قد إنتهت وأنهما كانا في الماضي واحد وأنهما الآن مختلفان وأن كل شيء يتجهم في رأس محبوبته .

يقول الشاعر .. كل ماهو معروض عليها ليس إلا شيئاً عابراً

لم يكن هناك صمت حين كنا واحداً

لم يعد هناك زمن لتصبح الأشياء مألوفة

كل شيء يتجهم في رأسها

حين يقارب الموت من ( سوزان ) يطرح الشاعر إحساسه بالموت فيفقد الإحساس بالزمان والمكان والحدث ، لكنه يظل الراوية بما يحدث ، فيروي كيف تمر محبوبته بنفق طويل نهايته الصمت والموت

يقول الشاعر .. مثلما يفعل الليل

هي تبقى صامته مسحوبة نحو الحائط

ماضينا من جديد ، لكن الموتى لايستأنفون دائماً حياة ثانية

لم يحدث شيء ولا شيء سيحدث بعد الآن

لا شيء يبتدي ولا شيء ينتهي

الزمن منسي

الجسد مكور لم تعد تخاف

اليوم رمادي ، هناك مطر على النوافذ

وهو المطر نفسه منذ الأزل

لقد وصف الشاعر فحوى الموت لحبيبته وكأنه موته هو ، ولقد أعطى للتسلسل الروائي مساحة أقل من التسلسل الشعري ، وكأن القصيدة هنا قد أحتلت الفكرة وأوفت بمصداقيتها فتسلسلت القصائد مع تفاقم حالة المرض لدى حبيبة الشاعر . ولم يشعرنا الشاعر بأنه يصف حالة مرضية بل حالة إنسانية تتكون من الحب والذاكرة والنسيان ، والنسيان مؤلم للذاكرة كما هو مؤلم للشاعر الذي وصف مشاعره وكأنه شاب في العشرينات . ولم يشعر القاريء بهامشية الذكريات ، بل كانت ذكريات أديب عاش عاشقاً ومات بموت محبوبته مع ذكرياتهما . كان تسلسل درامي قد رفع الستار أمام القارىء برؤية أسلوب الحياة الرتيب والمؤلم لمرضى ( الزهايمر ) .

فهو يصف كلما يخص الحياة الرتيبة لهؤلاء من نوم وطعام ورعاية صحية ثم الالم الخريفي الذي يسيطر على هذا المنتجع الطبي ، فلا يرى فيه القاريء أشعة الشمس إلا من خلال الذكريات .

لا يخرج القاريء هنا بإحساس الملل من السرد القصصي والدرامي الذي قام به الشاعر ( جورج بونيه ) ، بل يخرج القاريء بإحساس جميل وهو أن الحب لا يقتله موت العقل بل يبقى مع آخر نبض . ويذكرنا هنا الشاعر بالشاعر الفرنسي ( بودلير ) ، شاعر القرن التاسع عشر بمواله القصصي و( بأزهار الشر ) . وكانت ترجمة الدكتورة ( رابحة الناشيء ) عملاً جميلاً ومشرفاً وإستنباطاً حياً ، وإنتقاء جيد للمادة الأدبية . كذلك نقل الإحساس الشعري ما بين اللغتين العربية والفرنسية والذي لم يكن سهلاً لأن الصورة الشعرية في الشعر العربي سلسة ومعقدة في آن واحد ، بينما يتسم الشعر الفرنسي برؤي فلسفية شاسعة مستمدة من عمق الحياة الإجتماعية ورقتها وجمالها ، حتى وإن كانت الصورة حزينة وقاتمة . إن إستنباط روح الشعر وطرحه بكلمات عربية كان هو الإبداع بعينه للمترجمة الدكتورة رابحة الناشيء .

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular