يضعنا المتن الروائي امام جملة محطات وعتبات في صميم الواقع العراقي , متوغلة في اعماق هذا الواقع وسايكولوجيته الروحية والدينية والاجتماعية والسياسية. في عصب المحاور الرئيسية في البنية الاجتماعية , وبيئة القرية والريف , وتتناول بالتفصيل الدقيق الموروثات الشيعية , وابراز طقوسها ومراسيمها وخاصة شعائر عاشورا واستشهاد الامام الحسين , وارتباط هذه الطقوس في الوجدان وتعلق بالحب الكبير لها . . ويتابع النص الروائي المحطات الرئيسة للمذهب الشيعي المتعلق بحب الحسين , والتصادم مع السلطات المتسلطة المتعاقبة , ينظرون الى الوجود الشيعي وخاصة في الجنوب , عقبة ومعضلة ومشكلة . وتكاملت هذه النظرة البغيضة في الحكم البعثي , في ممارسة القمع والحرمان والاهمال الى الشيعة وقراهم الشيعية الفقيرة , نظرة عدائية , تحاول بكل وسيلة التخلص منهم , وما عمليات التهجير والترحيل والابعاد بحجة التبعية الايرانية , كجزء عام من الاضطهاد والعسف والحرمان العام , واهمالهم كليا في غياب كامل للخدمات الضرورية للحياة . فكان النظام الطاغي البعثي يشتغل على ثلاثة محاور . محور التبعيث البعثي الاجباري . السوق الى الخدمة العسكرية في زجهم في حروبه العبثية . وسياسة الترحيل والتهجير بالسلوك البشع الى خارج الحدود , بطرق اللاأنسانية , وفي القمع والارهاب . وايضاً يتابع المتن الروائي جوانب واسعة اخرى , هي خوف النظام المتسلط الشمولي من الكلمة الحرة , التي تكشف وتعري وتفضح اساليبه في الارهاب الاجتماعي والسياسي والفكري المتسلط على عموم العراق . لان النظام الديكتاتوري يريد شعباً طيعاً كالعجينة يشكلها وفق رغباته , او زج الشعب في الحروب العبثية . لذلك الكاتب ( فيصل عبدالحسن ) تحمل العسف والظالم والارهاب الفكري , أسقطوا عنه جوازه مع عائلته , وسجل في قائمة المعارضين المناهضين ضد النظام , الذين يسميهم ( المرتدون ) وهو بالاساس حكم اعدام غيابياً . وبالذات بعد نشر هذه الرواية ( عراقيون أجناب ) . وهذا ما يدعونا الى التساؤل : ماذا يكشف النص الروائي حتى يحكم على مؤلفه بهذه الاحكام الجائرة والظالمة , في اهدار حياته بهذا الحقد الانتقامي ؟ لذلك لابد ان نضع السرد الروائي تحت مجهر التحليل والتدقيق , وفحص رؤيته السياسية والفكرية المطروحة في النص . لاشك ان السرد الروائي متمكن من تقنياته الحديثة , ويطرح بكل شجاعة وجرأة , صراع السلطة البعثية ضد الشعب عامة , وشعب الجنوب خاصة في القرى الحدودية أو الاهوار , التي يعتبرها حاضنة الاجتماعية للثورة الخومينية في بداياتها في اسقاط نظام الشاه . . وتعتمد الاحداث الرواية , على التوغل في حياة القرى الفقيرة , واقعهم وطريقة معيشتهم وحياتهم وتعاملهم اليومي . وهي صورة مصغرة لقرى الجنوب الفقيرة والخاصة قرى الاهوار . وقد رسم المتن الروائي هذه الاركان الرئيسية .
1 – رسمت بدقة اسلوب التعامل سلطة البعث مع الشعب , يعني علاقة السيد والعبد , الجلاد والضحية , في هذه الازمنة الديكتاتورية , التي عمقت الخراب بتصاعد المعاناة الاجتماعية والحياتية . في نهج البطش والاهمال والحرمان لقرى الجنوب ومنها قرى الاهوار .
2 – تناول الموروثات الدينية للطائفة الشيعية , في ابراز الطقوس والمراسيم وشعائر عاشورا , كجزء من تكوينهم الروحي , في العادات والتقاليد المتوارثة. والاهتمام بمعركة الطف في كربلاء واستشهاد الامام الحسين .
3 – علاقة الجيرة والاخوة بين القرى الجنوبية الحدودية , واقرانهم في الجانب الايران , ومدى الوشائج هذه العلاقات المتينة في التزاور بين الجانبين وعلاقات قرابة وعشيرة , وتعامل ونشاط تجاري متبادل بعيداً عن عيون السلطة , وكذلك حماية رجال الدين المطاردين في زمن النظام الشاه , فكانت قرى الجنوب المأوئ الآمن لهم . وكذلك الدعم الكبير للثورة التي اسقطت حكم الشاه بعد ذلك . وهذا ما يستفز الحكم البعثي الطاغي في تشديد الحصار والخناق عليهم .
4 – ابراز اشكال الصراع الداخلي بين اركان الحزب الشيوعي , ومدى الفهم الخاطئ لتفهم حقيقة الواقع الاجتماعي والسياسي , والتخبط في التنظير الايديولوجي . في فهم معالم الثورة , وعمل الكفاح المسلح ومتطلباته وحاجاته الاساسية , والبيئة الحاضنة والداعمة , في الحلم الثوري المتطرف في بيئة يسودها التخلف والامية , في بيئة بعيد عن الفهم السياسي , بيئة فقيرة ومعدمة , لا تعرف من الحياة سوى توفير خبزها اليومي , في بيئة لا تعرف القراءة والكتابة , وتطرح مسألة الكفاح المسلح في الاهوار , واقامة سلطة العمال والفلاحين , والحلم بالثورة المسلحة . لذلك بدأت التساؤلات الوجيهة , هي كيف اقامة الثورة من اجل الفقراء والمعدان , وهم حاضنتهم يرفعون السلاح ضدهم ( ان الثورة الشعبية المسلحة , التي نحلم بها يا رفاق من أجل هؤلاء المعدان , فكيف نقاتلهم اذا جاءوا شاهرين سلاحهم بوجوهنا ؟ سنقع بأخطاء بشعة اثنا تحويل النظرية الى خطوات عمل , منذ البداية وكل الاحداث تؤشر هذه البداية الخاطئة ) ص208 .
أحداث المتن الروائي :
عتبات الحبكة السردية تتناول الاحداث في دراميتها المتحركة . بصياغات متنوعة تنحو نحو منهجية الواقعية الانتقادية . وكذلك في اسلوب عرض الاحداث بطريقة السخرية الكوميدية . وتكشف بعمق مسار الحياة والنشاط اليومية للقرية الحدودية الواقعة في الاهوار ( الجوابر ) وحياة الفلاحين والمعدان اصحاب المواشي . بما تعانيه من معاناة وفقر وجدب , وانعدام كل الخدامات الاساسية , وتفشي الامية والفقر والامراض والبعوض وغيرها من الاهمال والحرمان . ويلتقط النص الروائي مسار حياة ( جاسم العطية ) بعد غيابه خمس سنوات عن قريته ورجوعه اليها . واول عمل قام به , كتب على كارتون بقطعة الفحم هذه العبارة ( هنا مقر الحزب الشيوعي العراقي ) وذيلها ( يا عمال العالم اتحدوا )في بيئة امية تجهل القراءة والكتابة لا يوجد فرداً منهم يعرف القراءة والكتابة. في واقع لا يفرق بين الشيعي والشيوعي , بهذا الحلم الثوري المتطرف , يبدأ حياته العملية في قرية ( الجوابر ) . ويتكلم عن نظرياته الشيوعية وايديولوجيتها والصراع الطبقي والمادة الدياليتكتية , وهم لا يعرفون معنى مضمون كلامه الغريب عنهم , لذلك اطلقوا عليه تسمية ( مجنون القرية ) في سلوكه وتصرفاته . وهو مطارد وملاحق من قبل الامن والسلطة . والسلطة الحاكمة تناصب العداء ضد الحزب الشيوعي , لانه ينادي بأسقاط السلطة واقامة دولة العمال والفلاحين , وتوصمه السطة بانهم ينادون بالكفر والالحاد ( أنا جئت لكي ارفع الظلم عن الفلاحين والصيادين , واوقف الاستغلال الحاصل في قريتنا لهم ) ص25 . . في قرية منشغلة في همها اليومي والمعاشي , ولا تفهم من الطقوس الحياتية , سوى طقوس الشيعية وآل البيت , وتلتزم بالمراسيم عاشوراء . ومن المواقف الطريفة في الكوميدية الساخرة , في تشابيه معركة كربلاء . فكل الويل من يريد ان يتقمص دور ( الشمر ) وفي لحظة مقتل الحسين من قبل الشمر , تهجم الناس على الشمر وتشبعه ضرباً مبرحاً قد تقعده في فراش المرض ايام او اكثر , فقد يكسرون عظامة , او اصاباته بأصابات بليغة . لذلك لا احد يتجاسر بالمغامرة الخطيرة ويمثل دور الشمر . رغم العطاءات والمغريات المالية . ومن طرائف ( جاسم العطية ) الساخرة في الكوميدية . بأنه اتفق مع شيخ المعدان على بيع ثلاث جاموسات وشراء بثمنها كارتونات من الخمر ( المسيح ) بحجة منشط وصحي للبدان المريض , وبالفعل تم ذلك , وتحول مضيف شيخ المعدان الى خمارة خمر , فشربوا حتى الثمالة بالسكر , ولعب برأسهم السكر , فنزعوا ثيابهم والغوص في النهر عراة امام الرجال والنساء ( وخلعوا ثيابهم وبقوا في الظلام كما خلقهم الله عراة , ولم يكن احد منهم في ذلك الوقت يعرف ماهي الملابس الداخلية التي تغطي العورة , ولم يخلع جاسم العطية ملابسه , تركهم يفعلون ذلك ولسان حاله يقول : أن هؤلاء المعدان ولدوا في الماء وشاركوا الاسماك والضفادع معيشتها منذ كانوا رضعاً ) ص65 . وفي حادثة اخرى اتفق مع شيخ المعدان ان يذهبوا الى البصرة , والتمتع بالجنس في دور البغاء , ولكن قبل ذهابهم الى منزول المبغى , جلسوا في احد البارات وشربوا الخمر , ولعبت الخمرة في رأس ( جاسم العطية ) فراح ينظر بالنظرية الشيوعية ويتحدث عن نضال الحزب الشيوعي وهدفه اسقاط السلطة واقامة سلطة ثورية, وكان بجوارهم مخبر سري يسمع كلامهم الخطير والمحظور . تصور نفسه انه امام قياديين كبار بالحزب الشيوعي , واعتبرها هذه فرصة من العمر بالقبض على قياديين الكبار وافشال مخطط اسقاط السلطة واقامة حكومة شيوعية . لذلك يتصور اسعده الحظ في التكريم والترقية . وزاد حماسه الكثر , حينما تمادى ( جاسم العطية ) في نشوته , وهو يوجه كلامه الى شيخ المعدان , الذي لم يعرف من كلامه الطويل شيئاً , حين قال ( حالما تنجح ثورة الجياع في بلادنا , سيجعلك الحزب وزيراً للزراعة ) ص135 , وبعد ذلك ذهبوا الى دار الدعارة ( المنزول ) والشرطي ورائهم وحين دخلوا الى المبغى , اتصل بمركز الشرطة بأخبارهم بأن قيادة الحزب الشيوعي في منزول المبغى . فتجمعت قوة كبيرة من افراد الشرطة في اقتحام دار الدعارة والقبض على القياديين الكبار في الحزب , وفي نفس الوقت وصل الخبر الى قرية شيخ المعدان , بأن شيخهم محاصر في بيت الدعارة للاعتقال والسجن , ودارت معركة كبيرة بين الطرفين , استطاعوا ان ينقذوا شيخهم . ولكن قوات الشرطة تابعتهم حتى قريتهم . وطوقت القرية وفرضت منع التجول , على كل افراد القرية , وداهمت الشباب , بأعتبارها انها امام وكر شيوعي خطير . وعاشت قرية ( الجوابر ) ايام الحصار العسكري .
وبعد ذلك حين قامت الثورة الخومينية في اسقاط حكم الشاه , وكل محل دعم وتأييد وفرح . وجدت الحكومة ان هذه الثورة تخلق مشاكل للسلطة البعثية , فقد عاقبت الاهالي بالتهجير والابعاد بحجة التبعية الايرانية , وابعدتهم الى الحدود , رجال ونساء واطفال . وفرضت قيود صارمة على القرى الحدودية , في شن حلات في تجنيد الشباب في العسكرية وفي حزب البعث . واغلقت الحدود ومنعت التزاور بين الجانبين . وبدأ التعامل الصارم بالارهاب والتخويف , في كبح جماح التأييد والتضامن لبدايات الثورة الخومينية .
ومن اساليب السلطة المتسلطة في المقايضة والابتزاز . فقد طرح عليهم المسؤول المحلي ( القائممقام ) في سبيل اعفاء شباب القرية من التجنيد العسكري , مقابل القبض على الفارين من الشيوعيين , الذين شكلوا اوكار مسلحة في قرى الاهوار ومنها قريتهم . فقال المسؤول الحكومي موجه كلامه الى شيخ المعدان ( أني طلبت مهلة لكم , لمدة يوم واحد , ان تسلموا الهاربين من الشيوعيين , وان لم تفعلوا ذلك بعد الاربع والعشرين ساعة , ستقوم الطائرات بحرق الاخضر واليابس هنا ! …….. وستقوم الحكومة بتسميم مياه الهور فتموتون مع دوابكم , فأنتم في حكم الهاربين من الخدمة العسكرية , والهارب من الخدمة العسكرية حسب القانون يعدم كخائن للبلاد ) ص196 . وبذلك بدأت المعركة ضد الشيوعيين في الاهوار ( لم يبد الشيوعيون مقاومة تذكر فقد داهمهم المعدان من كل جانب , وقيدوا الذي كان يتولى حراسة الربوة واقتادوه , واستيقظ الرجال الباقون مذعورين , كانوا في وضع سيء , وصرح احد المقيدين : جئنا لنحرركم من عبوديتكم ونعيد اليكم انسانيتكم التي ضيعتها الحكومات الظالمة ) ص225 . خرج ( جاسم العطية ) من المعركة مجروحاً في صابة بالغة في قدمه , وصيب بمرض ( الغرغرينا ) ويجب اجراء عملية بتر قدمه , لكنه رفض واصر على الرفض بقوله ( لقد كنت بقدمين سليمتين ولم استطع ان اعيش في الوطن كالآدميين ! فكيف استطيع ذلك بقدم وحدة ؟ وقال مبتسماً بضعف : في هذا الوطن تحتاج الى خمسة ارواح وعشرة اقدام في جسد واحد ) ص234 .
هذا ما ورد في المذكرات اليومية , التي دونها في يوميات ( وادي كعيد البلام ) وهي بدون شك مأساة شعب يرزخ تحت قبضة الديكتاتورية .
× الكتاب : رواية , عراقيون أجناب
× المؤلف : الكاتب فيصل عبدالحسن
× الطبعة الاولى : عام 1999
× عدد الصفحات : 242 صفحة
جمعة عبدالله