وقفت مراسلة روداو اللطيفة والذكية (فيفيان فتاح) من روج أفا، ضمن مخيم الهول في محافظة الحسكة، المحمي والمدار من قبل القوات الكردية التابعة للإدارة الذاتية؛ والمحتضن للألاف من نساء داعش؛ أو الدواعشيات، بهيئتها الحضاري، وروحها الإنسانية، والتي تعكس العادات والقيم الكردية ببعديها الاجتماعي والثقافي، قبل أن تمثل المرأة العصرية بلباسها. تنقل الواقع المزري للمخيم، من حيث طغيان الفكر الظلامي، وهيمنة مفاهيم المنظمة الإسلامية التكفيرية(داعش)؛ رغم اندثارها كدولة الخلافة في المنطقة، تتحدث تارة مع الأطفال، وأخرى تسأل النساء عن ظروف حياتهن المعيشية؛ محاولة إلقاء الضوء على المستقبل المنتظر للأطفال الذين أمهاتهم تحملن الجنسيات الأسيوية والأوروبية، وغيرها من مستجدات الأحداث والإشكاليات؛ كمراسلة ناجحة تغطي الأحداث بشفافية.
كانت التغطية الإعلامية تسير بسلاسة، إلى أن وقفت بجانبها هيكل بشري؛ من مخلفات داعش؛ مغطاة بالسواد؛ اللباس المفروض ذاتيا وبالمطلق على نساء المخيم، بشكل استفزازي، لم نعرف كمشاهد، لضخامتها، فيما إذا كنت امرأة أو رجل. وما جلب الانتباه أكثر أن (فيفيان) لم تقطع الإرسال، ولم تعيرها انتباها أو أهمية، بينت عن حرفيتها لمهنتها؛ وثقتها بذاتها، رغم شذوذيه الموقف، بل والأمتع أنها نقلت بعد لحظة الخبر من العام إلى حضورها الفج، وتوجهت إليها لتتحدث معها وعنها؛ بعدما لم يجدِ نفعا محاولة مساعدها أبعادها عنها وعن الكاميرا، وظلت مصرة على جلافتها. لم نشاهد ما تم، لكنها على الأرجح كانت تبدي دهشتها ورفضها؛ لشكل المراسلة الكردية الخارجي، من حسر للرأس، ولباسها العصري، فقد تم إيقاف البث معها، ليعاد فيما بعد ومن مدينة قامشلو عن القضية ذاتها.
على الأغلب ناقشت (فيفيان) الداعشية، أو أن الداعشية لربما عرضت عليها عتمية أفكارها بمحاضرة. ظل الحدث عالقا في ذاكرتي، غطت على القضايا التي نقلتها المراسلة، جلب الموقف معها رؤى وأفكار حول ما خلفتها المنظمة الإسلامية، من المفاهيم الظلامية؛ وغرزتها ضمن مجتمعاتنا في فترة قصيرة؛ وكيف رسخت جذورها بين نساء مجتمعنا، والمرأة الموشحة بالسواد خير مثال عنهن وعن فظاعة مخيم الهول، وعن القادم القاتم لمجتمع هؤلاء يكن أمهاتهن.
يقول الشاعر حافظ إبراهيم ” الأم مدرسة إذ أعدتها أعددت شعبا طيب الأعراق” لا شك أن المرأة الداعشية تلك أم؛ ومثال صارخ عن نوعية الأمهات المهيمنات على المخيم، لكن ما يتبدى هنا وبين المجتمع الذي خلفه داعش، تبين عن أنهن أمهات تم تثقيفهن لإعداد أجيال قادمة كارثية، ولا شك سيخلفن شعب فاسد الأعراق، فالأشباح السوداء المتحركة ضمن المخيم وبمجموعات احترافية، وأمثالهن بالآلاف خارجه؛ يمثلن شريحة واسعة من ظهور طرفة غريبة بين أمهات مجتمعات الوطن العربي، وتكاد تكون من الصعوبة القضاء على هذه الثقافة بعقود طويلة قادمة. فهل بعد طغيان هذه النماذج على بلداننا، نستطيع أن نقول إن داعش انتهت بمجرد خسارتها العسكرية؟
من أين حصلت داعش وبالتالي شريحة نسائهن ضمن مخيم الهول على هذا الإرث التكفيري الظلامي؟ سؤال دارت حوله النقاشات، والعديد من الناس أستندو بانتقاداتهم على المناظر الواضحة معالمها، وقدمت دراسات حول خلفيات تأثير المنظمات الإسلامية التكفيرية على نظام حياة المجتمع في منطقة الشرق الأوسط، وعلى مدارك شعوبها، ومظهرها العام، وعلاقاتها الاجتماعية، والأبعاد التي ستبلغه، وكارثيتها، عرض البعض أسباب منطقية عن خلفية الجمود الفكري والتخلف في كل المجالات، والتي تعكس على أن الفكر الظلامي الداعشي أو المماثل له بلغت سويات؛ يمكن القول أنها نجحت على الصعيدين الفكري والاجتماعي، حتى ولو كما يقال خسرت ميدانيا، فنظرة وحيدة إلى الشارع وعلى ساحات مدن الشرق الأوسط، ومن بينها التي كانت في الستينات وحتى نهايات القرن الماضي، تعكس مظاهر العصر الحضاري، تبين مدى الانحدار الثقافي الكارثي، ومنظر وما يجول ضمن مخيم الهول من مفاهيم، والمعتقدات المهيمنة على الألاف من الأمهات، اللواتي يرسخنها في عقل الأطفال هناك؛ أسطع مثال، وقد بينتها المراسلة (فيفيان) في ريبورتاجها وحديثها مع بعض الأطفال بشكل دقيق! فلو سمح لهن بالخروج، سيخلقن خلايا لا يحمد عقباه ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط بل وفي العالم.
أغلبية أمهات المجتمع، حتى اللواتي لا تربطهن والإسلام إلا فتاتها، أصبحن مغطاة اليوم بوشاح أسود؛ ليس فقط لبسا بل فكراً وثقافة، وهن بشكل أو أخر يكرسن منطق الدواعشيات في الإسلام وبين أمتها، وهذه ترجعنا إلى بدايات العصر العباسي؛ حيث انتشار المذاهب التكفيرية مقابل جدلية الرفض التي تبنتها الشعوب غير العربية، ضد عادات القبائل العربية الجاهلة، والمنقولة إسلاميا؛ والتي كانت تحت غطائها تنتقل بقدر ما كان ينشر تعاليم الدين الإسلامي عربياً.
الصراع ذاته اليوم يسود في منطقتنا، جلها بين مرجعيات إسلامية عربية أو مفرزاتها من الشعوب الأخرى، وبين المسلمين الذين تربوا خارج ثقافة الإسلام العروبي التكفيري. فأكثر المنظمات العربية الإسلامية المدعية أنها حاربتها؛ تسندها في الواقع النظري، وتدعم مفاهيم هؤلاء الأمهات، بإعطائهن تأويلات لفتاوي تبرر السوادين؛ الخارجي والداخلي، وبها يكرسن ثقافة اللواتي سيخلقن أجيال من الإرهابيين؛ فكرياً قبل أن يكون عملاً، بل ويمكن القول إن معظم المرجعيات الإسلامية العربية ترفض البحث في هذه القضية الثقافية الكارثية؛ تحت عناوين عديدة يسندون جلها بالنص أو تأويل النص، وأفضلها هي التي وقفت ما بين الصمت والرد الخجول؛ غير المقنع إلا لشريحة هي في الأصل ترفضها.
تغرق مجتمعاتنا، ما بين الرفض والاقتناع، بين تصديقها وابتذالها، بين تقبل الفتاوي المبررة أو التأويلات السطحية؛ بين دحضها أو تبريرها، بين من يلصق الجدلية بالدين الإسلامي مباشرة ويعيدها إلى نصوص الفترة المدنية، ومنهجية الحديث، وسيرة الصحابة، وتاريخ الغزوات، وبين البدع والتحريفات المفتعلة ضمن الإسلام لمصالح سياسية. وتستمر الجدلية؛ وهي أنه ليس كل المسلمون دواعش، ولكن كل الدواعش مسلمون، وبالتالي الأمهات الموشحات بالسواد مسلمات؛ أي دواعش بشكل أو أخر، وهن سيعلمن الأجيال القادمة على الثقافة التي دفعت بالشبح الأسود، والمرأة التي سبقتها والتي نعتت الكرد بالشياطين؛ بجهالة أو حقد على خلفية تدمير الكرد لدولتهن الظلامية، أن تواجه المراسلة (فيفيان) ضاربة بعرض الحائط من يحكم المخيم ومن الخاسر ومن المنتصر، وهي بموقفها ذاك واجهت كل من يحكم ويدير المخيم، وهي مثال عن أغلبية الأمهات المقيمات في المخيم، ولا يستبعد أنهن يتحكمن بأمور العشرات من نسائنا الإيزيديات السبايا، فارضات عليهن الصمت أو الموت، ولا غرابة أن تكون هناك أيضاً كرديات مسلمات محاصرات ضمن حلقاتهن رافضات الواقع ولا يتجرأن الظهور مثل أخواتهن الإيزيديات، أو لا يملكن القدرة على التحرر، والطرق عديدة كترهيبهن بقتل أطفالهن على سبيل المثال…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
17/12/2019م