فيما يذكّر مثقفون و متخصصون، بل و سياسيون متنفذون اليوم، بأن الدستور كُتب على عجالة و على ارضية سقوط دكتاتورية صدام العسكرية القمعية التي لم تحكم وفق دستور و انتخابات و انما وفق قرارات (مجلس قيادة ثورة يملك البلاد و شعبها و يقرر مصيرها و مصير ابنائها بقوانين !) و وفق تجديد بيعة لـ (القائد الضرورة) . . و كُتب في ظروف غاب فيها دور الشعب الذي جرى تضييعه بسبب الديماغوجيا و الارهاب الشنيع للدكتاتورية لأربعين عام مضت، و بسبب الغزو الاميركي و اشتعال الحروب الطائفية التي اذكتها دول المنطقة بديماغوجية (المقدس) وفق مصالحها، في بلد ثري عانى الحروب و فقدان شبابه و الحصار الإقتصادي . .
كانت الوجهة المعلنة هي التخلص من الإحتلال و تحقيق استقلال البلاد، و ان تكون قائمة على اساس عملية سياسية تحقق دولة فدرالية تعترف و تصون التنوع العراقي، و على مؤسسات منتخبة باشراف دولي، تلتزم بخدمة الشعب و السير به نحو رفاه مادي و اجتماعي وفق دستور تلتزم به الاطراف العراقية، على اسس التبادل السلمي للسلطة و تحريم العنف و تحريم النزوع الى احتكار السلطة و على اساس حصر السلاح بيد جيش الدولة، دستور يصون حرية الفكر و المعتقد و التعبير، يضمن حرية الاعتراض و الاحتجاج السلمي، و كلّها مثبتة بالدستور !!
و يشير فاعلون و قانونيون الى ان كتابة الدستور آنذاك، عكست ظروف و صراعات و روحية ذلك الزمن، أُخذت فيها درجات مقننة من رؤى قوى معارضة صدام و تضحياتها الجسام، و لعبت فيها توازنات قوى المنطقة المتصارعة بدخولها على عديد من قوى المعارضة آنذاك . .
ثم ما لعبته اوساط حاكمة اسلاموية في تثبيت نزعتها الاستئثارية بالحكم على حساب الشعب بمكوناته خلال عمليات مواجهة الإرهاب الذي كان يتصاعد في المنطقة و صار ارهاباً دولياً. لقد غيّرت مواجهة الارهاب و بحجتها تغطّى الكثير مما كان يُطبخ و يجري طيلة ستة عشر عاماً، بلا حساب للدستور الذي جرى تخطيّه في بناء انواع الميليشيات التي صارت عملياً هي الحاكمة بامتداداتها التي كوّنت البرلمان، بانواع العنف و التزييف و الاكاذيب اللامحدودة بإسم الدين و الطائفة . .
حتى تكونت طبقة حاكمة تسند كتلها بعضها البعض على اساس المنافع الانانية الضيقة بإسم الطوائف، و تكونت قوى مسلحة على اساس الطائفية الحاكمة المتوافقة، بطغيان شعارات (تحرير القدس) و كأنها عودة الى شعارات و اجراءات الدكتاتورية السابقة و ديماغوجيتها . . و بسوء استغلال مزاد العملة الموزع على الاحزاب الحاكمة، الذي استولت من خلاله على اموال طائلة هي ملك للشعب العراقي و لثمرة اعادة انتاج معامله و اسواقه و انتاجه الزراعي.
في ذلك الخضمّ العنفي و الارهابي و بإسم مكافحة الإرهاب، تكوّنت طبقة حاكمة استغلت وجودها على دست الحكم و مؤسساته (المنتخبة) بإسم المحاصصة، فسرقت اطرافها مُلكية ثروات البلاد و سجّلتها بأسماء عوائلها و افراد منها، و دخلت في عقود استثمار لاتزال تجري مع شركات و احتكارات دولية و اقليمية و حققت لها اموالاً مليارية خيالية، على حد تعبير برلمانيين حاليين و سابقين في لقاءات على فضائيات عراقية و عربية، مستغلة سُبات الشعب الذي ضيّعته هي في الفقر و البطالة و الجهل و الخوف و الطائفية، و بضخّ المخدرات من (الارجنتين) . . التي ادخلت البلاد بواقع لارحمة فيه للملايين الكادحة مع الفئة المتحكمة التي تداور شخوصها على دست الحكم.
لقد حققت انتفاضة اكتوبر الشبابية الباسلة بقوة طروحاتها و متانتها و بتضحياتها الجسام المتواصلة على ارضية الاحتجاجات المتواصلة منذ عام 2010 و شهدائها الميامين، حققت و بغضون الايام الاولى و التأييد الشعبي المنقطع النظير لها، حالة غليان ثوري اعاد للشعب يقظته و وحدته بقومياته و اطيافه و اجناسه . .
انتفاضة كونت قطباً شعبياً يمارس دوراً فاصلاً لإعادة صياغة العملية السياسية سلمياً بالغاء المحاصصة، و لمحاربة الفساد و كشف المستور، و استطاعت اسقاط حكومة و حطّمت (المقدس) و وحدت الشعب و حطّمت صورة الاحزاب الاسلاموية الحاكمة التي تراجعت شعبيتها بدرجة كبيرة و غلبت عليها الانشقاقات، و كشفت الدور الاقليمي الذي يحتل البلاد بغفلة من الشعب و بالظلام الذي صنعه و اجبر الشعب على العيش فيه . .
إحتلال همجي فتح الباب لإحتلال دول اقليمية اخرى لأرض البلاد، احتلال سرى بليل حالك الظلام و واصل سريانه طيلة ستة عشر عاماً، حتى تمكّن من السيطرة عليها دون عقود او مواثيق تثبّت الحقوق و الواجبات و يُصادق عليها دولياً على الاقل . . بل و وصلت سيطرته الى تقرير اية حكومة و اي مسؤول مسموح لهم بالحكم او بالمشاركة فيه من عدمه . . احتلال وصل الى قتل شباب البلاد و منتفضيه السلميين بقناني الغاز المحرمة دولياً و بالكواتم، و باستمرار الاختطافات و التعذيب بحق ناشطيهم السلميين المطالبين بوطن و سلام. (يتبع)
28 / 12 / 2019 ، مهند البراك